القطيعة عن الحياة ..
لا تمنح سوى مخلوقات مشوهة
لا تمنح سوى مخلوقات مشوهة
خالد خضير الصالحي
لقد احسست وانا اكتب واعاود الكتابة عن الرسامة عفيفة لعيبي بذلك التواشج الكبير لعنصر المماثلة ، وهو، برأينا، العنصر المشترك الاعظم بين التصوير الفوتوغرافي والرسم الاكاديمي، وهو يعتمد محاولة (النقل) المماثل لمشخصات الطبيعة، فكانت تجربة عفيفة لعيبي واحدة من اهم تلك التجارب العراقية في هذا المجال (محمد عارف، ماهود احمد، فيصل لعيبي)، اكثر من اية تجربة (انطباعية) تتميز بالاشتغال على قوة التكنيك اللوني والتي تتبع خطى تجربة فائق حسن (محمد صبري، سيروان بابان، وسعيد شنين) فتلك التجارب تكون اقرب الى المعالجات الشيئية لمادية التعبير، وبذلك فهي تبتعد كثيرا عن التصوير الفوتوغرافي الذي تتراجع فيه شيئية اللوحة الى الخطوط الخلفية، وتبرز الى الواجهة المماثلة عنصرا مهيمنا، وهو مايتوفر في تجربة عفيفة لعيبي اكثر من غيرها.
وعلى الرغم من ان مكونات الصورة ذات طبيعة بصرية وأيقونية فان "التفكير بالصورة هو ، في غالب الاحيان، انتاج لا للصور بل للغة الكلمات" كما يقرر ميتز، فالصور موجودة لأننا نقرؤها، فتكون السيمولوجيا البصرية ليست اساسا نشاطا بصريا، بل تكون تأويلا لغويا في النهاية، وهو يبدو الهدف الاهم لكل تأويل لاحق. فهل يمكن ان نتحاور مع الرسامة المبدعة عفيفة لعيبي من اجل المساهمة في استنطاق بعض مغاليق تجربتها رغم تحفظنا الشديد على الاعتماد على تصريحات الفنان، واعتمادها مقترحا تأويليا، او مقترحا قرائيا. سألتها اولا:
@ يقول الناقد الأمريكي جورج كوبلر "إن تعريف (كاسيرر) الفن بأنه لغة رمزية" وهيمنة هذا التعريف على الدراسات الفنية في القرن العشرين .. قد كلفنا ثمنا باهضا حيث استأثرت دراسات المعنى كل اهتمامنا ، وأهمل تعريف آخر يقول أن الفن نظام من العلاقات الشكلية .. وهذا التعريف الثاني للفن أهم من المعنى"، هذا ما يقوله جورج كوبلر، ويبدو هو الأمر الأهم الذي كان يفتقره الفن والنقد التشكيلي العراقي. ألا تعتقدين إن بناء اللوحة بشكل (حكائي)، أو اعتماد الرسام على المعنى، وهو ما يبدو جزء منه في أعمالك أحيانا، قد يساهم في إشاعة نمط من الفن ، ونمط من فهم الفن، تستأثر قضية المعنى فيه بجزء كبير على حساب الجوانب الشكلية والبنائية والتقنية، وهو ما رزح تحته الرسم العراقي طويلا برأينا، حينما كرس قضية التعبير عن الروح المحلية باعتبارها لازمة وشرطا لتحقق صفة الرسم؟ ماذا ترين في ذلك؟
- كل مرحلة لها خصوصياتها، وهذه الخصوصيات مرتبطة بأسباب عديدة، وشروط مرتبطة بالنظام الاقتصادي- اجتماعي- سياسي، هذه الشروط توحد العلاقات وتنفرها في آن واحد، والفكر الناتج من كل هذه العلاقات يحدد توجه وشكل الثقافة السائدة، والفن والفنان وإبداعه هو جزء من هذا الكل، يتأثر ويؤثر.
في ألأزمان البعيدة القدم كان ألإنسان الفنان الذي لا يملك الوسائل لفهم أسباب كل ما يجري حوله كان يعتمد الخط واللون للتعبير عن مخاوفه وإبعاد الخطر عنه أو عن عائلته، ثم تأتي التغيرات والمرتبطة بشكل النظام والذي يحكم طرق الحصول على القوت اليومي من أجل البقاء بدأت معه تتغير كذلك طرق التعبير وأشكاله. فأصبحت الحرب موضوعة للتصوير عند العراقيين القدماء والموت وأسراره عند الفراعنة ، وعند ألأغر يق كان الجمال والكمال هو الهدف بعد أن ساد نوع من الترف اقتصادي واجتماعي والذي بالضرورة لحق به ترف فكري ، أما أهل روما بعد أن أصبحوا شكلوا قوة تهدد، توجهت ألأفكار مرة أخرى إلى تمجيد البطولة ارتباطا بالرغبة في التوسع وإخضاع البشر، وعندما أصبحت ألأفكار المسيحية ذات حضور وسطوة بدأ ت ألأفكار الروحانية والقدرة الربانية وفكرة القيامة وما بعد الموت والنار والجنة هي الموضوعة السائدة في كل أو معظم ما كان يبدعه المثقف في تلك ألأزمان. وإذا استمر سردنا سنأتي إلى عصر النهضة حيث بدأت الكنيسة تفقد سطوتها ومع سيادة فكرة الرأسمال الذي أصبح هو السطوة الجديدة والوسيلة ألأقوى لامتلاك العروش و ألاستمتاع بالحياة الدنيا في هذه الفترة بدأت الثقافة إلى حد ما تتحرر من السطوة ويبدأ فيها الفنان أو المبدع يستعيد أو يؤطر الأشكال من ألإبداع فيها نوع من الحرية ويستطيع أن يؤسس لبعض الخصوصية فمع تراخي قبضة الكنيسة والدين في ألإمساك بمفاتيح الجنة والنار, أخذ ألإنسان يستعيد البعض من إنسانيته وبدأ بالتأكيد عليها كحقيقة قائمة بذاتها.
أشارتي المختصرة أعلاه أردت فيها أن أؤكد إلى إن الثقافة عموما والفن كجزء منها هو ليس فقط نظام من العلاقات الشكلية بل هو أيضا انعكاس لأشكال واستمرارية لنظم وعلاقات وبالنتيجة لا يمكن الفصل بين كل هذه ألأمور عندما نريد تفسير ظاهرة معينة أو التوصل إلى فهمها واستيعابها. والآن نأتي على الفن العراقي وسؤالك هو حالة الفن العراقي المعاصر أو ما يمكن أن نسميه هكذا, لأن الفنون عموما والفن التشكيلي بالذات يكاد أن يكون معدوما تماما وعلى مدى خمسة قرون تقريبا في معظم المناطق التي كانت تحت ألاحتلال العثماني ومنها العراق.
ان تاريخ الفن العراقي المعاصر لا يملك امتداداته أو هو ليس استمرارية أو نتيجة لتطورات جاءت صعودا أو هبوطا في المجال التشكيلي في حدود العراق آو ما يحيط به من بلدان. اعتقد أننا في هذا المجال من فنانين ونقاد ما نزال نتدرب على العثور على ألأسس والتي نستطيع عليها أقامة صرح ما , رغم كل ما بذله الكثير من الفنانين العراقيين وعلى مدى السنين الخمسين الأخيرة من جهود للتأسيس لكن كان للسياسة والمرتبطة بالعنف دائما في هذه المنطقة بالذات دور لا يمكن التغاضي عنه في الدفع إلى الأمام أو العودة إلى نقاط الصفر وعليه سادت ثم بادت أنماط من السلوك والعمل، المشكلة هنا لا يمكن أن نحددها فقط في التوجهات التي اختارها الفنان العراقي أو النتائج التي استطاع أن يحققها أو يتوصل إليها ودور النقاد أو ألمختصين واللذين هم في الواقع غير موجودين أصلا.
المشكلة هي اكبر من ذلك , أنها مشكلة حضارية مرتبطة بتراكمات التخلف و ألانقطاع عن كل ما هو حضاري وعلى مدى قرون حيث لا يمكن التجاوز والقفز على مثل هذه التراكمات وإذا فعلنا ذلك فسيكون المولود مشوها بالتأكيد, فعندما نناقش الفن التشكيلي في العراق أعتقد إننا نظلم أنفسنا إذا وضعنا أنفسنا على خط واحد مع ما جرى أو يجري في أوربا و الشئ الوحيد الذي يمكن أن ننصف به أنفسنا هو, إن كل ما قد جمعناه في فترة الخمسين سنة ألأخيرة كان نتيجة جهود فردية كانت ذات طموح لتحقيق شيْ أو محاولة للتحريك و تعتمد مقولة على قدر أهل العزم تأتي العزائم.
@ ولكن ألا تعترفين أن الفن ، رغم كل ما ذكرت، يبقى جهدا فرديا أهم اشتراطاته القطيعة مع الآخرين لكي يشكل إضافة ضرورية، والا ما قيمة الرسم الذي يمتثل لاشتراطات: شكلية أو فكرية مسبقة تجعل منه نسخة مقبولة من (الآخرين) الذين يمتلكون سلطة المعرفة كما كان يحدث في العراق منذ بدايات تأسيس الجماعات الفنية ثم خلال الفترة الماضية اللاحقة؟
- كل التاريخ البشري هو اجتهادات فردية لكنها ناتجة من تراكمات معرفية وخاضعة لشروط ذاتية و موضوعية، مكانية وزمنية وبالنتيجة لا يمكنها أن تعيش القطيعة حتى لو سعينا إلى ذلك .أردنا أم أبينا ، فأن أي نشاط إنساني يملك في داخله الدوافع في أن يكون أو يتشكل ، وهذه الدوافع دائما كامنة في الظرف القائم والمحيط .
كما قلت في جوابي على السؤال ألأول إن القطيعة عن الحياة لا تمنح سوى مخلوقات مشوهة وغير قادرة على العيش و ألاستمرار لأنها غير قادرة على التواصل ولا تملك شروط بقائها ، كما لا يمكنها أن تشكل إضافة. بل قد تعطي تصور حيوي عن معنى العميق للقطيعة.
أنا أؤمن بأن أي جهد بشري مهما حاول أن يكون عبثيا أو لا مباليا ، تكمن في أعمق دواخله رغبة دفينة ومخنوقة للتواصل ، لكني أؤمن كذلك إن التواصل لا يعني القبول بكل الشروط ولا يعني الخنوع والخضوع وهذا برأي ما يميز الفعل الجاد عن غيره من ألأفعال البشرية التي كانت تتحرك لإرضاء واقع موجود أو مفروض أو سلطة معينة.
فهم الواقع بالنسبة لي لا يعني استنساخه بل حسب تصوري إعادة بناؤه بروح أكثر وعيا وإبداعيا.
@ لم يقل احد بانعزال الفن عن الحياة، فالقطيعة تعني الانقطاع الاسلوبي عن الاخرين، ومحاولة البداية في كل مرة مما اسميته مرة (درجة الصفر الاسلوبي) ، فدعوة جماعة بغداد مثلا قد انتجت تجارب متناسخة كان همها ليس مادية اللوحة ، اي الاخلاص لمعالجة مادة الرسم بفهم حداثي بل الاخلاص لموجهات خارجية (غير بصرية) والتضحية بمادية الفن او مادية التعبير (التي تعني ان اللوحة في النهاية ليست سوى تجربة بلاستيكية مادية). ما رأيك بذلك؟
- اعتقد إن طرح السؤال بهذه الطريقة غير المفهومة وعدم استخدام الكلام البسيط والواضح لا يفيدنا ولا يخدم الجهود المبذولة لتوصيل فكرة معينة وقد حاولت جهدي إن افهم بالضبط ما الذي تعنيه بهذه العبارات مثل مادية اللوحة أو الموجهات الخارجية والغير بصرية أو تجربة بلاستيكية مادية. برأي الشخصي نحن ليس بحاجة لكل هذا التعقيد حتى نستطيع أن نفهم ماهية الفن التشكيلي خصوصا. العملية ببساطة هي محاولة الفنان أن يجسد فكرة أو موضوعة معينة ومجردة في الوقت نفسه وتنفيذها ماديا بالشكل الذي هو يعتقد انه هو الشكل أو ألأسلوب الصحيح والمناسب للفكرة وتقديمها إلى شاهد هو ألآخر له حضور مجرد لكن بعد العرض ألأول تصبح اللوحة حقيقة ملموسة والمشاهد كذلك يصبح له حضور وتأثير على تفسير اللوحة وإعطائها الصورة التي يرتئيها أو القيمة المناسبة حسب التقدير الشخصي وهذا طبيعي له علاقة حميمة بمستوى وعي المتلقي وسعة خياله.
@ سيكون معرضك الاخير، الذي اقيم قبل مدة، فرصة (لأعادة تقييم) لمنجزك الابداعي ومعايرة لما سبق، من قبلنا نحن النقاد على الاقل، فقد اشرت ، في مقالين لي عنه، حقيقة اولية هي انك لم تكرسي جهدا كاقيا لاجراء (زحزحة) اسلوبية او ما اسميته (الايقاع في تحولات الاسلوب): لا في قوانين المنظور ولا في التشريح، وهما ما ركز عليهما فيصل لعيبي جهده، فكانت معالجته في ذلك معالجة استثنائية في اسلوب الرسم الاكاديمي، بينما كنت تكتفين في معالجاتك الشكلية بالمطابقة مع المشخصات بما يحفظ سمات اسلوب شخصي متفرد عن الاخرين. السؤال: اين انت من تيارات التجريب في الرسم العراقي المعاصر الذي وصل حدودا قصية في التجريد ، والتجريب بالمادة، ما موقفك مما اسميه (تيار الحداثة) هذا؟ وهل تعتبرين اهتمامك بمزيد من بالضوء والتفاصيل في خلفية اللوحة كافية لتجديد اسلوبك، امام تحولات اسلوبية جذرية يجريها الاخرون على اسلوبهم بين الحين والاخر؟ وهل ستستمر عفيفة لعيبي بالسير الحثيث بنهج اسلوبي اختطته لنفسها منذ مرحلة التلمذة ومازالت وفية له دونما زحزحة طوال تلك السنين الماضية؟ وما هي التطلعات التجديدية التي بذهنها الان كاستراتيج عام؟
- كل إنسان له أسلوبه في الحياة وعنده الكم الهائل من العلاقات المرئية والمجردة والتي تشكل تجميع مادي ومعنوي لمجموعة من القيم والتي يحتفظ بها لنفسه وهي في الوقت نفسه تشكل خصوصية تميزه عن غيره من البشر وبشكل شخصي أتابع على قدر ألإمكانيات المتوفرة لي و بالارتباط بقدراتي المحدودة لأني ليس بالإنسان السوبر ومن أجل تطوير قدراتي سواء على صعيد العلاقات الاجتماعية أو في مجال اختصاصي أحاول أن استفيد من هذا الكم ألخزين لدي إذن علاقتي مع ما اعمله أو أنتجه هو ليس علاقة تناحريه مع الآخر أو تنافسية ناتجة عن شعور بالعزلة أو الضعف بكل بساطة أنا أحاول أن أنتج ألأشياء القريبة إلى روحي وقلبي والتي تمنحني السعادة لكوني استطيع تحويلها إلى حضور قائم بحد ذاته ولهذا ليس همي هو الحداثة أو أن أنتج سطوح معقدة لأجل أن أدهش أو أثير ألآخر أو اعمل خطط واستراتجيات للهجوم أو الدفاع أو اعمل حركات بهلوانية لكسب الجمهور لأن كل هذه ألأمور لا تدخل في حساباتي الدفاع ولا تشغلني إطلاقا ولهذا فاني لا أتسابق مع الزمن ولا مع ألآخرين أنا أريد أن استمتع بما هو في متناول قدرتي أما كيف يفسر ألآخر تجربتي فله كل الحرية بأن يفسرها كما يشاء .
@ اشكرك على اجاباتك واتمنى لك مزيدا من النجاح.
لقد احسست وانا اكتب واعاود الكتابة عن الرسامة عفيفة لعيبي بذلك التواشج الكبير لعنصر المماثلة ، وهو، برأينا، العنصر المشترك الاعظم بين التصوير الفوتوغرافي والرسم الاكاديمي، وهو يعتمد محاولة (النقل) المماثل لمشخصات الطبيعة، فكانت تجربة عفيفة لعيبي واحدة من اهم تلك التجارب العراقية في هذا المجال (محمد عارف، ماهود احمد، فيصل لعيبي)، اكثر من اية تجربة (انطباعية) تتميز بالاشتغال على قوة التكنيك اللوني والتي تتبع خطى تجربة فائق حسن (محمد صبري، سيروان بابان، وسعيد شنين) فتلك التجارب تكون اقرب الى المعالجات الشيئية لمادية التعبير، وبذلك فهي تبتعد كثيرا عن التصوير الفوتوغرافي الذي تتراجع فيه شيئية اللوحة الى الخطوط الخلفية، وتبرز الى الواجهة المماثلة عنصرا مهيمنا، وهو مايتوفر في تجربة عفيفة لعيبي اكثر من غيرها.
وعلى الرغم من ان مكونات الصورة ذات طبيعة بصرية وأيقونية فان "التفكير بالصورة هو ، في غالب الاحيان، انتاج لا للصور بل للغة الكلمات" كما يقرر ميتز، فالصور موجودة لأننا نقرؤها، فتكون السيمولوجيا البصرية ليست اساسا نشاطا بصريا، بل تكون تأويلا لغويا في النهاية، وهو يبدو الهدف الاهم لكل تأويل لاحق. فهل يمكن ان نتحاور مع الرسامة المبدعة عفيفة لعيبي من اجل المساهمة في استنطاق بعض مغاليق تجربتها رغم تحفظنا الشديد على الاعتماد على تصريحات الفنان، واعتمادها مقترحا تأويليا، او مقترحا قرائيا. سألتها اولا:
@ يقول الناقد الأمريكي جورج كوبلر "إن تعريف (كاسيرر) الفن بأنه لغة رمزية" وهيمنة هذا التعريف على الدراسات الفنية في القرن العشرين .. قد كلفنا ثمنا باهضا حيث استأثرت دراسات المعنى كل اهتمامنا ، وأهمل تعريف آخر يقول أن الفن نظام من العلاقات الشكلية .. وهذا التعريف الثاني للفن أهم من المعنى"، هذا ما يقوله جورج كوبلر، ويبدو هو الأمر الأهم الذي كان يفتقره الفن والنقد التشكيلي العراقي. ألا تعتقدين إن بناء اللوحة بشكل (حكائي)، أو اعتماد الرسام على المعنى، وهو ما يبدو جزء منه في أعمالك أحيانا، قد يساهم في إشاعة نمط من الفن ، ونمط من فهم الفن، تستأثر قضية المعنى فيه بجزء كبير على حساب الجوانب الشكلية والبنائية والتقنية، وهو ما رزح تحته الرسم العراقي طويلا برأينا، حينما كرس قضية التعبير عن الروح المحلية باعتبارها لازمة وشرطا لتحقق صفة الرسم؟ ماذا ترين في ذلك؟
- كل مرحلة لها خصوصياتها، وهذه الخصوصيات مرتبطة بأسباب عديدة، وشروط مرتبطة بالنظام الاقتصادي- اجتماعي- سياسي، هذه الشروط توحد العلاقات وتنفرها في آن واحد، والفكر الناتج من كل هذه العلاقات يحدد توجه وشكل الثقافة السائدة، والفن والفنان وإبداعه هو جزء من هذا الكل، يتأثر ويؤثر.
في ألأزمان البعيدة القدم كان ألإنسان الفنان الذي لا يملك الوسائل لفهم أسباب كل ما يجري حوله كان يعتمد الخط واللون للتعبير عن مخاوفه وإبعاد الخطر عنه أو عن عائلته، ثم تأتي التغيرات والمرتبطة بشكل النظام والذي يحكم طرق الحصول على القوت اليومي من أجل البقاء بدأت معه تتغير كذلك طرق التعبير وأشكاله. فأصبحت الحرب موضوعة للتصوير عند العراقيين القدماء والموت وأسراره عند الفراعنة ، وعند ألأغر يق كان الجمال والكمال هو الهدف بعد أن ساد نوع من الترف اقتصادي واجتماعي والذي بالضرورة لحق به ترف فكري ، أما أهل روما بعد أن أصبحوا شكلوا قوة تهدد، توجهت ألأفكار مرة أخرى إلى تمجيد البطولة ارتباطا بالرغبة في التوسع وإخضاع البشر، وعندما أصبحت ألأفكار المسيحية ذات حضور وسطوة بدأ ت ألأفكار الروحانية والقدرة الربانية وفكرة القيامة وما بعد الموت والنار والجنة هي الموضوعة السائدة في كل أو معظم ما كان يبدعه المثقف في تلك ألأزمان. وإذا استمر سردنا سنأتي إلى عصر النهضة حيث بدأت الكنيسة تفقد سطوتها ومع سيادة فكرة الرأسمال الذي أصبح هو السطوة الجديدة والوسيلة ألأقوى لامتلاك العروش و ألاستمتاع بالحياة الدنيا في هذه الفترة بدأت الثقافة إلى حد ما تتحرر من السطوة ويبدأ فيها الفنان أو المبدع يستعيد أو يؤطر الأشكال من ألإبداع فيها نوع من الحرية ويستطيع أن يؤسس لبعض الخصوصية فمع تراخي قبضة الكنيسة والدين في ألإمساك بمفاتيح الجنة والنار, أخذ ألإنسان يستعيد البعض من إنسانيته وبدأ بالتأكيد عليها كحقيقة قائمة بذاتها.
أشارتي المختصرة أعلاه أردت فيها أن أؤكد إلى إن الثقافة عموما والفن كجزء منها هو ليس فقط نظام من العلاقات الشكلية بل هو أيضا انعكاس لأشكال واستمرارية لنظم وعلاقات وبالنتيجة لا يمكن الفصل بين كل هذه ألأمور عندما نريد تفسير ظاهرة معينة أو التوصل إلى فهمها واستيعابها. والآن نأتي على الفن العراقي وسؤالك هو حالة الفن العراقي المعاصر أو ما يمكن أن نسميه هكذا, لأن الفنون عموما والفن التشكيلي بالذات يكاد أن يكون معدوما تماما وعلى مدى خمسة قرون تقريبا في معظم المناطق التي كانت تحت ألاحتلال العثماني ومنها العراق.
ان تاريخ الفن العراقي المعاصر لا يملك امتداداته أو هو ليس استمرارية أو نتيجة لتطورات جاءت صعودا أو هبوطا في المجال التشكيلي في حدود العراق آو ما يحيط به من بلدان. اعتقد أننا في هذا المجال من فنانين ونقاد ما نزال نتدرب على العثور على ألأسس والتي نستطيع عليها أقامة صرح ما , رغم كل ما بذله الكثير من الفنانين العراقيين وعلى مدى السنين الخمسين الأخيرة من جهود للتأسيس لكن كان للسياسة والمرتبطة بالعنف دائما في هذه المنطقة بالذات دور لا يمكن التغاضي عنه في الدفع إلى الأمام أو العودة إلى نقاط الصفر وعليه سادت ثم بادت أنماط من السلوك والعمل، المشكلة هنا لا يمكن أن نحددها فقط في التوجهات التي اختارها الفنان العراقي أو النتائج التي استطاع أن يحققها أو يتوصل إليها ودور النقاد أو ألمختصين واللذين هم في الواقع غير موجودين أصلا.
المشكلة هي اكبر من ذلك , أنها مشكلة حضارية مرتبطة بتراكمات التخلف و ألانقطاع عن كل ما هو حضاري وعلى مدى قرون حيث لا يمكن التجاوز والقفز على مثل هذه التراكمات وإذا فعلنا ذلك فسيكون المولود مشوها بالتأكيد, فعندما نناقش الفن التشكيلي في العراق أعتقد إننا نظلم أنفسنا إذا وضعنا أنفسنا على خط واحد مع ما جرى أو يجري في أوربا و الشئ الوحيد الذي يمكن أن ننصف به أنفسنا هو, إن كل ما قد جمعناه في فترة الخمسين سنة ألأخيرة كان نتيجة جهود فردية كانت ذات طموح لتحقيق شيْ أو محاولة للتحريك و تعتمد مقولة على قدر أهل العزم تأتي العزائم.
@ ولكن ألا تعترفين أن الفن ، رغم كل ما ذكرت، يبقى جهدا فرديا أهم اشتراطاته القطيعة مع الآخرين لكي يشكل إضافة ضرورية، والا ما قيمة الرسم الذي يمتثل لاشتراطات: شكلية أو فكرية مسبقة تجعل منه نسخة مقبولة من (الآخرين) الذين يمتلكون سلطة المعرفة كما كان يحدث في العراق منذ بدايات تأسيس الجماعات الفنية ثم خلال الفترة الماضية اللاحقة؟
- كل التاريخ البشري هو اجتهادات فردية لكنها ناتجة من تراكمات معرفية وخاضعة لشروط ذاتية و موضوعية، مكانية وزمنية وبالنتيجة لا يمكنها أن تعيش القطيعة حتى لو سعينا إلى ذلك .أردنا أم أبينا ، فأن أي نشاط إنساني يملك في داخله الدوافع في أن يكون أو يتشكل ، وهذه الدوافع دائما كامنة في الظرف القائم والمحيط .
كما قلت في جوابي على السؤال ألأول إن القطيعة عن الحياة لا تمنح سوى مخلوقات مشوهة وغير قادرة على العيش و ألاستمرار لأنها غير قادرة على التواصل ولا تملك شروط بقائها ، كما لا يمكنها أن تشكل إضافة. بل قد تعطي تصور حيوي عن معنى العميق للقطيعة.
أنا أؤمن بأن أي جهد بشري مهما حاول أن يكون عبثيا أو لا مباليا ، تكمن في أعمق دواخله رغبة دفينة ومخنوقة للتواصل ، لكني أؤمن كذلك إن التواصل لا يعني القبول بكل الشروط ولا يعني الخنوع والخضوع وهذا برأي ما يميز الفعل الجاد عن غيره من ألأفعال البشرية التي كانت تتحرك لإرضاء واقع موجود أو مفروض أو سلطة معينة.
فهم الواقع بالنسبة لي لا يعني استنساخه بل حسب تصوري إعادة بناؤه بروح أكثر وعيا وإبداعيا.
@ لم يقل احد بانعزال الفن عن الحياة، فالقطيعة تعني الانقطاع الاسلوبي عن الاخرين، ومحاولة البداية في كل مرة مما اسميته مرة (درجة الصفر الاسلوبي) ، فدعوة جماعة بغداد مثلا قد انتجت تجارب متناسخة كان همها ليس مادية اللوحة ، اي الاخلاص لمعالجة مادة الرسم بفهم حداثي بل الاخلاص لموجهات خارجية (غير بصرية) والتضحية بمادية الفن او مادية التعبير (التي تعني ان اللوحة في النهاية ليست سوى تجربة بلاستيكية مادية). ما رأيك بذلك؟
- اعتقد إن طرح السؤال بهذه الطريقة غير المفهومة وعدم استخدام الكلام البسيط والواضح لا يفيدنا ولا يخدم الجهود المبذولة لتوصيل فكرة معينة وقد حاولت جهدي إن افهم بالضبط ما الذي تعنيه بهذه العبارات مثل مادية اللوحة أو الموجهات الخارجية والغير بصرية أو تجربة بلاستيكية مادية. برأي الشخصي نحن ليس بحاجة لكل هذا التعقيد حتى نستطيع أن نفهم ماهية الفن التشكيلي خصوصا. العملية ببساطة هي محاولة الفنان أن يجسد فكرة أو موضوعة معينة ومجردة في الوقت نفسه وتنفيذها ماديا بالشكل الذي هو يعتقد انه هو الشكل أو ألأسلوب الصحيح والمناسب للفكرة وتقديمها إلى شاهد هو ألآخر له حضور مجرد لكن بعد العرض ألأول تصبح اللوحة حقيقة ملموسة والمشاهد كذلك يصبح له حضور وتأثير على تفسير اللوحة وإعطائها الصورة التي يرتئيها أو القيمة المناسبة حسب التقدير الشخصي وهذا طبيعي له علاقة حميمة بمستوى وعي المتلقي وسعة خياله.
@ سيكون معرضك الاخير، الذي اقيم قبل مدة، فرصة (لأعادة تقييم) لمنجزك الابداعي ومعايرة لما سبق، من قبلنا نحن النقاد على الاقل، فقد اشرت ، في مقالين لي عنه، حقيقة اولية هي انك لم تكرسي جهدا كاقيا لاجراء (زحزحة) اسلوبية او ما اسميته (الايقاع في تحولات الاسلوب): لا في قوانين المنظور ولا في التشريح، وهما ما ركز عليهما فيصل لعيبي جهده، فكانت معالجته في ذلك معالجة استثنائية في اسلوب الرسم الاكاديمي، بينما كنت تكتفين في معالجاتك الشكلية بالمطابقة مع المشخصات بما يحفظ سمات اسلوب شخصي متفرد عن الاخرين. السؤال: اين انت من تيارات التجريب في الرسم العراقي المعاصر الذي وصل حدودا قصية في التجريد ، والتجريب بالمادة، ما موقفك مما اسميه (تيار الحداثة) هذا؟ وهل تعتبرين اهتمامك بمزيد من بالضوء والتفاصيل في خلفية اللوحة كافية لتجديد اسلوبك، امام تحولات اسلوبية جذرية يجريها الاخرون على اسلوبهم بين الحين والاخر؟ وهل ستستمر عفيفة لعيبي بالسير الحثيث بنهج اسلوبي اختطته لنفسها منذ مرحلة التلمذة ومازالت وفية له دونما زحزحة طوال تلك السنين الماضية؟ وما هي التطلعات التجديدية التي بذهنها الان كاستراتيج عام؟
- كل إنسان له أسلوبه في الحياة وعنده الكم الهائل من العلاقات المرئية والمجردة والتي تشكل تجميع مادي ومعنوي لمجموعة من القيم والتي يحتفظ بها لنفسه وهي في الوقت نفسه تشكل خصوصية تميزه عن غيره من البشر وبشكل شخصي أتابع على قدر ألإمكانيات المتوفرة لي و بالارتباط بقدراتي المحدودة لأني ليس بالإنسان السوبر ومن أجل تطوير قدراتي سواء على صعيد العلاقات الاجتماعية أو في مجال اختصاصي أحاول أن استفيد من هذا الكم ألخزين لدي إذن علاقتي مع ما اعمله أو أنتجه هو ليس علاقة تناحريه مع الآخر أو تنافسية ناتجة عن شعور بالعزلة أو الضعف بكل بساطة أنا أحاول أن أنتج ألأشياء القريبة إلى روحي وقلبي والتي تمنحني السعادة لكوني استطيع تحويلها إلى حضور قائم بحد ذاته ولهذا ليس همي هو الحداثة أو أن أنتج سطوح معقدة لأجل أن أدهش أو أثير ألآخر أو اعمل خطط واستراتجيات للهجوم أو الدفاع أو اعمل حركات بهلوانية لكسب الجمهور لأن كل هذه ألأمور لا تدخل في حساباتي الدفاع ولا تشغلني إطلاقا ولهذا فاني لا أتسابق مع الزمن ولا مع ألآخرين أنا أريد أن استمتع بما هو في متناول قدرتي أما كيف يفسر ألآخر تجربتي فله كل الحرية بأن يفسرها كما يشاء .
@ اشكرك على اجاباتك واتمنى لك مزيدا من النجاح.