الجمعة، 19 أبريل 2013

الرسام سليمان علي ... الرسم والروحُ الكوردية



معرض (تحولات الفصول) في كاليري دهوك
  

الرسام سليمان علي
الرسم والروحُ الكوردية

                                                                     خالد خضير الصالحي



ان أولى الأفكار التي راودتني وانا أتنقل ببصري بين أعمال الرسام سليمان علي في معرضه (تحوّلات الفصول)، الذي اقيم في كاليري دهوك، كيف تمكّن هذا الرسام من التعبير عن روح الشعب الكوردي دون الحاجة إلى السرديات والايديولوجيا والمشخّص اللصيق بهما غالبا، وهو ذات التساؤل الذي يواجهني كلما قرأت أشعار شيركو بيكه س وعبد الله كوران وشاهدت اعمال اسماعيل خياط، كيف تمكّن هؤلاء من التعبير عن الروح الكوردية، بابسط الوسائل، ودونما أيديولوجيات نثرية تشكل خطرا على (شعريّة) المنجز ايا كانت طبيعته، وقد اعتبرت ذلك سؤالا جوهريا، واقتنعت أن الإجابة عليه تتلخص في أنهم استطاعوا تحويل الواقع المعيش، والثقافة، والمطامح، والطبيعة الكردية إلى مادة (نصّ) ممتلئة بالجمالية وبالشعرية.. وهو ما تمكّن من تحقيقه عدد من رسامي دهوك: عبد الرحمن كلحو، ستار علي، سيروان شاكر، سيروان باران، وكان احدهم سليمان علي الذي توغّـل في هذا الامر مسافةً لا بأس بها من النجاح؛ فكان سليمان علي واحدا ممن استطاعوا تشكيل (متحف بصريّ) من خلال تحويل كلّ شيءٍ يواجهه في الحياة الكوردية إلى لونٍ ينتمي إلى جوهر فعالية الرسم، بينما لم تكن للموضوع السرديّ عند رسامي دهوك اهميته التي تلمسناها عند غيرهم من الرسامين الكورد الآخرين.. لقد شعر ستار علي بسطوة اللون الضخمة في الثقافة الكردية، وأيقن ان المادة ومن ضمنها اللون هي المركز الذي تدور حوله أفلاكُ الرسم الكوردي، وان هيمنة السرديات على الرسم لا تَعِدُ بشيء، فاتجه بكل جهده إلى إعادة تأسيس تجربته اعتمادا على تفجير الطاقة التعبيرية للون فعاد إلى أحضانه عودةً تذكّر بعودة الانطباعيين في أواخر القرن التاسع عشر؛ فكان توجهه ان يحاول رسم خارطة جينية لفن (الرسم باللون) الذي سبق وتحوّل عند ادوارد مونيه في نهايات أيامه من تمثيل المشخصات إلى تجارب لون خالص تنطوي على روح ذلك المشخص بعد تحولات ضخمة، فاختفت معالم المشخّصات، والمدن، وشرفات البيوت، والقرى، والدبكات، والملابس، والجبال عند سليمان علي في مائياته ومن ثم في زيتياته؛ كما اختفت عند رسامي هذا النسق من مدينة دهوك، لتحل محلها بقعٌ لونية تحمل روحَ تلك المشخـّصات، والقرى، وشرفات البيوت، لتتبقى أرواحها الخليقية كما يسميها ال سعيد تحومُ وقد تخلت عن أشكالها (= قشرتها الخارجية) وارتدت دثار اللون.. وهو ما سبق للرسم العالمي ان مر به من خلال تحولين مهمين هما: التحولات الشكلية التي كان ثور بيكاسو وشجرة موندريان الشهيران نموذجيها الأكثر أهمية، بينما كانت تحولات مونيه اللونية الى اللمفيات تأسيسا لخارطة جينية أخرى مكملة في الرسم العالمي؛ وهو ما اتجه إليه سليمان علي ومجايلوه من الرسامين الكورد، ومن خلال اللون التقليدي: الزيت والاكريليك كمادة رئيسة.. فقد ادار سليمان علي ظهره لأشكال المشخصات بتصميم وإصرار وقناعة، ترسّخت لدى اخرين من نخبة رسامي مدينة دهوك في كردستان العراق.. فتحولت لوحته شيئا فشيئا إلى حشد من بقع الألوان التي لا تحيل إلى شيء من أشكال الواقع وبالتالي فقد انطوت هذه البقع اللونية على نفسها كدلالات، واكتفت بنفسها كطاقة جمالية دونما أسانيد خارج بصرية، لقد ووجد هذا الرسام نفسه مدفوعا بذات الرغبة التي تملكت مونيه، وهو يرسم ويعيد رسم الزهور المائية في البحيرة المواجهة لداره، فاستغرق في الرسم دهرا يعيد رسم المشهد ذاته في كل الفصول: لوحة بعد أخرى، ليكون الناتج بقعا تنكرت لمرجعياتها الشكلية واكتفت بوجودها الشيئي.. 

****


رغم التوجه (البعيد) عن التشخيص الذي انتهى إليه سليمان علي فقد شكّلت الطبيعةُ (اللغةَ المرئيةَ) حسب (جو كينيث سوارز) المرجعَ المهيمنَ بروحها الخفية التي تطلّ خلف كل ضربة أو خفقة سرّية لبقعة لون؛ فبينما يهيمن اللونُ الأسود على روح الشتاء الميتة؛ وتنطفئ الألوانُ، وتتحول اللوحة من الانشغال بـ(الرسم باللون) حيث تُرسمُ اللوحةُ بروح اللونِ وطاقتِهِ التعبيرية؛ تظهر روحُ الطبيعة حية من خلال باليتة ملونة ثرية يؤثثها الأحمر والبرتقالي والأصفر والأخضر، فتنتقل روح الفصول بسلاسة غير معهودة؛ لتظهر تحولاتها من خلال بقع اللون والاختيارات الدقيقة لها، وحينا تتحول أجواء اللوحة إلى الرسم بالأسود والأبيض (الكونتراست) حيث انطفاء اللون وانطفاء الحياة معه..

****


مثلما يضيف العديد من الرسامين اللون الأبيض بعد الانتهاء من عمله بهدف خلق انزياح شعري مطلوب في اللوحة كان سليمان علي يفعل الأمر ذاته في تجربته التي اطلعت عليها بالألوان المائية إلا أنّ ذلك البياض سرعان ما بدأ بالتشظّي على مساحة اللوحة في أعماله بالألوان الزيتية والاكريليك إلى نثار كآثار حب الشباب على وجه جميل..