الاثنين، 3 أكتوبر 2022

 


الرسامة والأكاديمية المصرية أمل نصر .. تحوّلات المادة وتشكّلات الصور


"تنمو في عمق المادة نبتةٌ قاتمة، كما تزهر في ظلمة المادة أزهار سوداء، سبق واكتسبت نعومتها،

ونموذج عطرها" (غاستون باشلار، الماء والأحلام، المنظمة العربية للترجمة، ت: د. علي نجيب إبراهيم، ط1، بيروت، 2007، ص15)

***

 

تتعاملُ امل نصر مع سطح اللوحة، ومع الأشكال المجردة بأداء حر يستجيب لتقنية عفوية،  بأنسنةٍ قد يفتقرها الكثيرون؛ فتبدو أعمالُها وكأنها ناتج حنوّ مبالغ فيه تعامِل به الرسامةُ سطحَ لوحتها؛ فهي تعتكف الى سطح لوحتها، مثلما ينقطع النسّاخون والورّاقون إلى صحائفهم، يسودون اسطرها، فتندمج الرسامة بحروفها، كما يندمج هؤلاء، لترتحل إشاراتُهم التي يبثونها عبر الزمن القادم حينما تتنقّل من قارئ لآخر، وكلّ من هؤلاء، يضيف هوامشه على هوامش سابقيه، كما أضاف السابق هوامشه على هوامش سابقيه، حتى تتضخم تلك المخطوطات إلى ما شاء لها النص ان تتضخم، وهو ما يحدث لأعمال امل نصر؛ فبدت لوحاتها متشابهة بشكل مختلف ومختلفة بشكل متشابه، فهي تبدو متشابهة وكأنها لوحة واحدة قـُطـّعت إلى نتف متشابهة؛ وتبدو مختلفة لأنها لا يمكن ان  تكون متماثلة تماما كطبعات الأصابع التي لا يمكن ان تتطابق تماما...

***

 













حينما عنون الكاتب المصري (د. ياسر منجي) مقالا له عن الرسامة بعنوان: (أمل نصر.. بين سطوة (البكتوغرافيا) وعنفوان الهيولى القديم) فانه قصد بمقالته ان قوتين متعارضتين تتجاذبان تجربة امل نصر هما: قوة الفوضى، وهو ما يسميه جاستون باشلار، (العصيان الأبدي للمادة على التشكّل)، وسلطة النظام، "فالمادة في منظور عمقها تنقاد باتجاهين: اتجاه التعميّق واتجاه الانطلاق، ففي اتجاه التعميق تبدو غير قابلة للسبر، كمثل لغز، وتبدو باتجاه الانطلاق كقوة لا تستنفد، باعتبارها بمعجزة. وبالاتجاهين كليهما ينمـّي التأملُ خيالا مفتوحا " (غ. باشلار، السابق، ص15) وهو الصراع الذي نشب ذات مرة بين انغريس وديلاكروا، فوصفه (ريجيه دوبريه) بأنه صراع بين الحرية والسلطة ولكنه اعتبره كذلك، وفي الوقت ذاته، صراعا بين الخط واللون باعتبارهما ميدان الصراع وأداته وميدان تحققه الشيئي الذي نكون معنيين به باعتبار الرسم في النهاية واقعة مادية، حينما مثل الأول الانضباط السلطوي،    بينما مثل الثاني الحرية ورفض القيود، الا ان كل تلك الصراعات كانت تتفجّر على سطح اللوحة من خلال الصراع بين فوضى العناصر وانضباطها، فكانت امل نصر تعامل اللوحة باعتبارها (صورة مادية) ان هي أخضعت لدرجة اكبر من الانضباط فستتجه إلى نظام لغوي بكتوغرافي صوري يفتقر إلى الاعتباطية (=الحرية) التي تتصف بها الكتابة الأبجدية لان الكتابة الصورية مرحلة تمثل اكثر مراحل التاريخ ترابطا بين الصورة والشكل المشخص، حينما اندمج اشكل بالمعنى لدرجة مازلنا نعيش بقاياها المتحجرة في لا وعينا الفني، واذا أفلتت السيطرة عن تلك (الصورة المادية) فإنها ستكون صدى للعصيان الأزلي للمادة ضد التشكـّل؛ وبذلك ستكون تجربة امل نصر بالرسم تجربة خاضعة لنوازع ورغبات متناقضة، وصراعات مستحكمة لا يمكن حسمها؛ فالعالم الذي نعيشه مهدد، كما يقول (بول فاليري)، بقوتين خطرتين تتنازعانه، وتهددانه هما: الفوضى والنظام، انهما قوتان يجب ان يخضعا معا لقدر مناسب ومتوازن من الكبح؛ وهو ما نجحت في تحقيقه امل نصر..

***

 

لا اعتقد ان امل نصر تضع في حساباتِها ان يجد المتلقي في أعمالها مشخـّصاتٍ أو أشباحَ مشخّصاتٍ؛ فقد يكفيها ان تكون مستمتعة بالخامة، والمفردات البصرية، دون ان تكترث لارتباطها بالواقع؛ فهي تكتفي بمهمة تنتهي حالما تشعر أنها أودعت تلك الأشكالَ روحَ المشخّص كامنةً في خطوطِها، وبقعِها، دونما حاجة للبحث عن مرجعيات شكلية لأي تفصيل كبر أو صغر في اللوحة، فقد ذاب المشخّصُ في السائل الذي تسبح فيه كلُّ الأشكال، والبقعُ اللونية، والعناصرُ الأخرى في لوحة امل نصر التي تحلم بتجليات صور المادة الصلدة، على نحو حميم نابذةً إغواءَ الأشكال الهشّة غير المجدية..  فما يشغل لوحةُ امل نصر ان تتحوّلَ ماديةُ (متيرياليةُ أو شيئيةُ) اللوحة، إلى صورة لا يشترطُ الواقعَ ومشخصاتِه مرجعيةً لها، أي ان يتحول الخيال المادي إلى خيال صوري وكفى.. فالمشخصات تفتقرُ، وتعيقُ الخيالَ الصوري وجمال الحلم اليقظ الذي يرافق انعتاق الصور من ربقة تلك المشخصات لأنها تحدد ذلك الخيال باطر شكلية واقعية (مادية المشخص) بينما يفترض بالخيال الحق ان لا تحده محددات مهما كان نوعها..

***

 

ان قيام امل نصر بانجاز لوحتها بتكنيك سريع يتيح فرصة لتدفق انفعالي تلقائي، لا يسمح للعقل الواعي الاشتغال بفاعلية للهيمنة على اللوحة، ويتيح للقوى اللا واعية، وللمصادفة ان تشكل احدى اهم القوى الفاعلة، فيبدو العمل وكأنه يمتلك دينامية تجعل منه اشبه ببناء من الأشكال المجردة التي تنطوي على قوى وتوترات داخلية تتوحد فى شكلٍّ مستقلٍ بذاته لا يشير إلى حياة خارجية..

***

 

تقول الكاتبة امل نصر عن تجربتها الفنية "تسعى أعمالي إلى اكتشاف الشكل من خلال اللون فأبدأ بطرح مساحات اللون بلمسات عريضة حرة، ثم أبدأ في اكتشاف الأشكال خطياَ فوقها، حتى لا أحاصر بالخطوط بل أستسلم لسطوة اللون وحضوره أولاَ، وفى بعض الأعمال نجد الأشكال تظهر وتختفى، تكبر وتتضاءل تنكشف وتطمر بقوة دافعة وفقاً لقانون عاطفي خاص باللوحة فلا نعرف أين تبدأ وأين تنتهى، حيث يُتاح للخواطر البصرية أن تسترسل وأن تتوارد، إنها فكرة التداعي الحر التي تطرح وفقها الأشكال والعناصر، ويحكم هذا البناء رغم حريته نوعاً من النظام الفطري الغريزي . وتظهر الصور بين الحين والآخر فى تدفقات غير متماثلة وفقاَ لآلية الطرح الخاصة بالذاكرة فتعطى حيوية للخيال في محاولة لتلمس تلك الطاقة التنظيمية الروحية التي تجعل حياتنا محتملة ومستمرة".

***

لم تكن امل ناصر رسامة فقط، إنما هي أكاديمية مرموقة، وناقدة تشكيلية.. كتبتُ مرة تعليقا على مقال نُشر لها في الفيس بوك: "تطرح الكاتبة والرسامة المبدعة امل نصر قضية غاية في الأهمية وهي إمكانية وجود: تجريد يتكئ على الواقع، وتمتص حواسُّه تفاصيلَ ذلك الواقع .. ويستند إلى الخبرات المباشرة .. تجريد لا يتناقض مع الحياة ولا ينسحب منها.. أي أنها تقدم إمكانية وجود تجريد مؤنسن، فيه روح المشخص رغم غياب جسد ذلك المشخص.. إنها تطرح أفكارها بلغة مفاهيمية خالية من ترهل اللغة البلاغية التي يقع في براثنها بعض الكتاب..."

الأحد، 2 أكتوبر 2022

 


كنت قد كتبت مقالا سابقا بعنوان (المثلث الذهبي.. والاقانيم الخمسة.. للفن التشكيلي العراقي) وقد ناقشت فيه ما كتبه اثنان من الكتاب المعنيين بالشأن التشكيلي العراقي هما: صادق الصائغ وفيصل لعيبي،

 إلا أني، وبعد عدة أشهر من مقالي ذاك، توفر تحت يدي مقال مهم للناقد فاروق يوسف نشره قبل أعوام في مجلة آفاق عربية، العدد 3-4 عام 1995، وكان بعنوان (رسمنا.. خصوصيته بين خلوده وفناء الأساليب) يبحث فيه ذات المشكلات التي ناقشناها نحن الثلاثة: صادق الصائغ وفيصل لعيبي وكاتب السطور، فآثرت إعادة كتابة مقالي السابق، داعيا المعنيين بالرسم العراقي مناقشة هذه القضية المهمة.

 

                                            2

لقد اتفق الكاتبان: صادق الصائغ في مقاله (واقعية الكم: شفرة المستقبل أو عندما تصب العلوم في بؤرة فنية واحدة) الذي نشره في مجلة (تشكيل)، التي تصدر عن  وزارة الثقافة العراقية، العدد الثالث،2009 وفيصل لعيبي في مقاله (المثلث الذهبي في الرسم العراقي الحديث) الذي نشره في الموقع الالكتروني (الفنان العراقي)، على ان مثلثا ذهبيا كان قد تشكل في الفن العراقي كان أثره ضخما في نقل الفن العراقي، وربما كانا يقصدان بشكل اخص الرسم العراقي، إلى تخوم الحداثة الفنية، إلا أنهما اختلفا بالفنانين المشكلين لهذا المثلث الذهبي، فقد اعتبر فيصل لعيبي أول قطب في هذا المثلث الرسام فائق حسن مبررا اعتباره إحدى بوابات الحداثة في الرسم العراقي بأن "فائق حسن حطم تماما الشكل التقليدي السابق وقدم لوحة فنية معاصرة تتميز بالحيوية والحس العالي والمستوى الفني الرفيع - لم تكن جديدة على مستوى الإنجاز الغربي طبعا - لكنها تعتبر ثورة فيما يتعلق بالرسم العراقي- الذي كان يحاول تقليد الأشياء التي أمامه وبحذر اقرب إلى الخوف منه إلى الثقة، كانت ضربات فرشاة فائق من القوة والحساسية والجرأة ما جعل اللوحة العراقية آنذاك تخطو خطوتها الكبرى، مجتازة تلك المحاولات التي كانت سائدة في الرسم العربي المعاصر ... إن (فائق حسن) الحساس والعفوي والغزير يشكل الزاوية الأولى في المثلث الذهبي للرسم العراقي الحديث، حداثة وواقعية وحيوية ومرونة لانتقالات مفتوحة على أكثر من أفق . مع فائق انتهى عصر الهواية وتقاليد رسامي النزهات البريئة واللهو وأيام العطل. وبدأ عصر الرسم كفن معني بالمجتمع والبيئة والإنسان، ليس كشكل فقط  بل كموضوع أيضا . ومعه أصبحت اللوحة العراقية تملك عالمها الخاص وموضوعها المتميز ومعه دخلت الحداثة (المودرنيزم) في الفن إلى العراق ..."، بينما اتفق الكاتبان: الصادق ولعيبي حول اعتبار جواد سليم القطب الآخر في ذلك المثلث الذهبي كونه من وجهة نظر فيصل لعيبي "كان فنانا معاصرا يحاول إيجاد العلاقة الصحيحة بين تراثه الغني وبين الحياة المعاصرة وتقاليد الفن الحديث، وهي قضية شغلت كل الجهد والوقت اللاحق لفن (جواد سليم) ...  هكذا جاءت البساطة والتشكيلات المركبة والألوان الشرقية والموضوع المحلي بأسلوب يمزج فن  القرن العشرين بالسومريين والآشوريين والمسلمين، من فن (بيكاسو) قي القرن العشرين وفن (يحيى الو اسطي) في القرن الثالث عشر الميلادي، من السومريين إلى التكعيبية"، بينما كان من وجهة نظر صادق الصائغ قد عالج "واقعية شكله... بغنائية تعبيرية تنسجم مع تكوينه النفسي، مضفيا على شخوصه انسجاما ورضا يتناسبان مع مزاجه الشخصي ومع تطلعات الطبقة المتوسطة الآخذة في الصعود؛ وبهذا المزاج البهيج التقط جواد جمال التماهي البادي على وجوه الشخوص البسيطة الماثلة أمام كاميرته، مجسدا،كما فعل غوغان، جمال السذاجة والبراءة في الحياة البدائية". 

يتفق الكاتبان على ان القطب الآخر لحداثة الرسم العراقي هو الرسام محمود صبري (ولد عام 1927) فهو من وجهة نظر فيصل لعيبي "كرس جهده الهام في إيجاد العلاقة الأساسية بين الفن والمجتمع، فمع محمود أخذت الأفكار الاجتماعية الجذرية  تبرز في العمل الفني ...  أن الفكر الثوري في الفن لم يبرز بمعناه الجمالي والفلسفي والاجتماعي إلا مع (محمود صبري) والى حد ما (جواد سليم) و (شاكر حسن آل سعيد 1925 – 2004) في خمسينيات القرن الماضي... ان أعمال هذا الفنان شهادة عميقة على العلاقة القوية بين الفن والمجتمع وتطور الوعي ودور المثقفين في ذلك"، وبذلك يسقط فيصل لعيبي المرحلة الأهم من انجازات محمود صبري  أي واقعية الكم التي لولاها لما احتل محمود صبري أهميته التي احتلها الآن، ... بينما كانت أهميته، عند الصائغ، تتمثل في "ان نظرية اكتشاف المخفي القائم ما وراء الواقع، اتخذت لديه وجهة أخرى، فقد لوحظ، منذ البداية، انه كان الأكثر اهتماما، بشواغل الفلسفة والهم الاجتماعي، كما انه كان الأكثر ميلا إلى ان يتخذ هذان الهمان مكان الصدارة في لوحاته"

ويذكّر الصائغ ان البعض قد صعب عليهم وهم يتتبعون أعماله الأولى ان يستجيبوا لرغبته، فيلقوا عليها ستار النسيان،... وان الكثير منهم، وربما كان محمود صبري احدهم، مازالوا يضمرون حنينا لذلك الحضور الغائب لتلك الأعمال، ففضلوها على (المتاهات) التي تضعهم فيها واقعية الكم.

ويعتبر صادق الصائغ القطب الآخر هو الرسام شاكر حسن آل سعيد، الذي انشغل، من وجهة نظر الصائغ "في بداياته بالهم الواقعي نفسه، متجنبا هو الآخر، الاعتماد على المعنى الأحادي للشكل،متهجسا ملامح جديدة يخفيها المجهول... وفي مرحلته الأخيرة، اتخذ شاكر، انطلاقا من روحانياته، الحدوس الصوفية والمغيبات والعقل الباطن، طريقا لتفكيك المنظور الواقعي وإعادة تركيبته من جديد، ونظرا لاهتماماته الفلسفية الموازية لاهتمامات صبري، فقد ثبت رؤيته الفلسفية هذه في بيانين تشكيليين: البيان التأملي الأول والبيان التأملي الثاني، وفي كلا البيانين كانت الحقيقة الجوهرية التي بحث عنها شاكر، وكذلك تلك التي بحث عنها جواد ومحمود، حقيقة أيديولوجية، أي أنها صورة الواقع الخارجي مع إيقاعات جمالية ترتكز على بنية التكوين، باعتباره الموضوع المركزي لجماليات الشكل".

 

                                              3

يؤكد فاروق يوسف في مقاله المهم "ان الرسم بطبيعته الإنكارية يقيم اتصاله بماضيه عن طريق الانفصال... وان أي تحول فني لا يولد في رحم التحول الفني الذي سبقه... وان التحول الفني لا يبشر بمجيء تحول فني آخر"، أي ان الرسم هو فن بـ(لا تاريخية)، وان تجربة الحداثة العراقية وظفت الصلة بالجمهور لأهداف نفعية و"انجاز الأسلوب الشخصي ... باعتباره غاية"، و"التوفيق بين وهم (المحلية) وبين التيار العالمي للفن"، وان بيان جماعة بغداد للفن الحديث الأول الذي يعده الكاتب أهم البيانات الفنية العراقية كان السبب في تحول "الكثير من العلاقات الملتبسة بين الفكر التاريخي من جهة وبين الرسم من جهة أخرى إلى بديهيات ألحقت الكثير من الهزائم بالرسم" وقد صنعت هذه الأفكار فيما بعد "عقدا مستعصية لا يمكن استئصالها بسهولة من جسد فكرنا الفني: الأصالة، المحلية، التراث، الهوية، وكلها تنبع من مصدر واحد: الخصوصية"، ويخلص الكاتب إلى ان السبب الجوهري في ذلك "ان فكر الخمسينات، كان محصورا في منطقة البحث عن الأسلوب، فاندفع إراديا إلى هزيمته، إذا لم اقل حتفه، فالأسلوب لا يبحث عنه، وهو لا يستدعى بطرق آلية، وليس هنالك مخطط جاهز لبنائه " وهو ليس (وصفة جاهزة)، ويخلص إلى "ان الخمسينات بعظمتها لم تمنح الرسم الحديث في العراق سوى ثلاثة رسامين: جواد سليم، ومحمود صبري، وشاكر حسن آل سعيد"، وهو بذلك يتفق تماما مع صادق الصائغ في تحديده الأسماء الثلاثة للمثلث، ولكنه يختلف معه كونه يعتبره مثلثا لمرحلة الستينات، كما انه يختلف مع الصائغ ومع فيصل لعيبي بان سبب خلود هؤلاء الرسامين افتقارهم للأسلوب بمعناه الذي طرحته جماعة بغداد للفن الحديث، ويسمي فاروق يوسف ذلك (قلقهم الأسلوبي)، فقد كان هؤلاء "قد سعوا إلى إنكار وجود أية قوة بإمكانها ان تملي عليهم نوع واتجاه حركتهم وسلوكهم الفني... فقد جرّ، كل واحد من الرسامين الثلاثة، الرسمَ في اتجاه خصوصيته (الشخصية)"، ويضيف فاروق يوسف إلى هؤلاء الثلاثة اثنين من الستينيين: كاظم حيدر وإسماعيل فتاح الترك، ويحدد أهميتهما في كونهما "الممهدين للفكر بالأسلوب، العابثين بعناصر اللوحة وبالمواد"، ولم يعد الرسم بعدهما مثلما كان الرسم قبلهما ففي "عام 1965 بدأ الانسلاخ من فكرة (المحلية التصويرية) التي هي تفسير نظري قائم على سوء فهم فكري"، ويخلص فاروق يوسف إلى استنتاج هام جدا بأن خصوصية الرسم العراقي "لا تستند إلى قانون فكري مسبق، إنها خصوصية فعل الرسم لذاته، وهي لذلك تتخطى حدود المزاج الاجتماعي، إنها تنتسب إلى الرسم باعتباره قوة مخلصة، وهي تخليه من إمكانية الخضوع للمحرضات الخارجية "، وأخيرا أكد فاروق يوسف انه "لا يحفل بفكرة الأسلوب، بل يسعى إلى إثارة الانتباه إلى أهمية ان نرى خصوصية أي رسام"، وبذلك كان يفهم القضية باعتبارها مصيرا فرديا تحل فيه الخصوصية الفردية محل الأسلوب الجمعي الوهمي.

 

                                              4

لقد أثارت آراء كل من الكاتب صادق الصائغ والرسام فيصل لعيبي عندنا ملاحظات كثيرة منها ان: الفن العراقي المعاصر قد نشأ، منذ لحظات تأسيسه الأولى، في خضم الحداثة العالمية، وخلال مرحلة مهمة في الفن العالمي، وان كل الأساليب المدرسية الانطباعية التي قدمها الفنانون العائدون من مقاعد الدراسة في الأكاديميات الخارجية التي درس فيها المبعوثون الأوائل، ليست إلا أساليب مدرسية تعلموها لأغراض تعليمية فتحجر البعض بها بسبب ضعف ثقافتهم البصرية، كما ظل البعض مكتفيا بها، ومنهم فائق حسن الذي طور تقنية عالية في الفن الانطباعية شفعت له وأهلته ان يكون المعلم الأول في الفن العراقي كمدرس فن، وذلك برأينا لا ينتقص من قيمته كمبشر بحداثة بصرية قائمة على شيئية اللوحة، إلا ان فاعليته الأساسية كوته معلم رسم من طراز انطباعي رفيع.    

 

                                              5

ان الكتاب ثلاثتهم في اتفاقهم واختلافهم حول أركان مثلث الحداثة في الرسم العراقي، إنما كانوا يتجهون إلى نقطة واحدة من اتجاهات مختلفة، فقد كان (التعبير عن الروح المحلية بأساليب اللوحة المسندية الحديثة) هو الأمر الحاسم لديهم جميعا، إلا أنهم اختلفوا في الانجاز الأهم لكل رسام ليؤهله ليكون ضمن متجه الحداثة، ففيما اعتقد فيصل لعيبي ان قدرة الفنانين على الامتثال لتلك اللازمة هو الأمر الحاسم والمهم في حداثتهم، وهو ما توفر لهؤلاء في مراحلهم الأولى، كان الصائغ يعتبر الأمر الأكثر أهمية يتمثل بقدرة الرسام على إعادة تعريف تلك اللازمة القبلية والخروج بنتائج (جديدة) منها، وهو ما فعله هؤلاء في مراحلهم المتأخرة التي اعتبرها الصائغ الجزء الأهم في انجاز هؤلاء وامتثالهم لشرط التعبير عن الروح المحلية بأساليب حديثة، فكانت واقعية الكم وبغداديات جواد سليم والمرحلة التجريدية (البعد الواحد) عند جواد سليم مراحل مهمة وشرعية في تأسيس فن محلي ممتثل للحداثة، وهذا هو السبب الذي جعلهما يغفلان اعتبار كاظم حيدر واحدا من اقانيم الفن العراقي بسبب كونه شكل مرحلة وسيطة لم تمتثل لشروط الكاتبين وتعريفهما وربما ذائقتهما، رغم ان تجربته تعد، برأي الكثيرين، واحدة من أهم المراحل الانتقالية في الفن العراقي بين مرحلة الخمسينات، أو مرحلة الرواد، وبين مرحلة الستينات التي وضعت الفن العراقي وفن الرسم منه بشكل اخص على تخوم الحداثة فكان الرسام كاظم حيدر رأس الحربة في ذلك من خلال منجزه وخاصة معرض الشهيد الذي بشر بجيل جديد في الفن التشكيلي العراقي هو جيل الستينات، بينما كان فاروق يوسف يعتبر ان القلق الأسلوبي والخصوصية الفردية والعصيان على الامتثال إلى (الأسلوب) أو الطابع المحلي هو الأمر الحاسم الذي جعل هؤلاء الرسامين الثلاثة يعدون من الفنانين الخالدين من جيل الخمسينات، وبذلك تكوم الإشكالية الحضارية لعصر النهضة العربية التي تبلورت في مفهوم (التعبير عن الروح المحلية بأساليب اللوحة المسندية الحديثة) هو الأمر الحاسم فكان موقف الامتثال الذي أبداه الرسامون فائق حسن ومحمود.صبري وجواد سليم هو الذي جعل فيصل لعيبي يعتبرهم أركان المثلث الذهبي، بينما كانت إعادة النظر التي أبداها الرسامون: جواد سليم وشاكر حسن آل سعيد ومحمود صبري هو الذي دفع صادق الصائغ إلى اعتبارهم أعمدة المثلث، بينما كان فاروق يوسف يعد تمردهم على الثبات الأسلوبي وتأكيدهم على الخصوصية الفردية هو الأمر الحاسم في اعتبارهم الحداثة المنبثقة من جيل الخمسينات باتجاه الستينات.

 

                                            6

نحن نعتقد بحاجتنا إلى نفض أيدينا من شرط (التعبير عن الروح المحلية) باعتباره لازمة قبلية لصفة الرسم ولصفة الحداثة، ونعيد تقييمها باعتبارها ليست سمة موضوعاتية قدر ما تكون قيمة بصرية ليس إلا، وذات طابع فردي ليس إلا؛ وبذلك فسيكون المجال رحبا لإعادة تعريف قيم الحداثة في الفن العراقي واعتبار منجزات هؤلاء الرسامين في مراحلهم الأولى والتالية بوابات شرعية لحداثة الرسم العراقي التي فتح أبوابها هؤلاء ورسخت حضورها الأجيال اللاحقة لما بين الخمسينات والستينات، واعتبار كل من: فائق حسن وجواد سليم وشاكر حسن آل سعيد ومحمود صبري وكاظم حيدر اقانيم مهمة في تأسيس حداثة الفن التشكيلي العراقي القائم على مرتكزات بصرية أكثر منها موضوعاتية، ونعيد تشكيل مفاهيمنا وقيمنا على أساس ان تحقق الواقعة الشيئية هو الأمر الحاسم في أحكامنا بشان فن الرسم في العراق. 


 

قراءة في كتاب: 


(بلاغة اللغة الايقونية...الصورة بوصفها بلاغة)



الصورةُ بلاغةً..والبلاغةُ صورةً

ربما لم ينتبه الكثيرون إلى صدور كتاب (بلاغة اللغة الايقونية... الصورة بوصفها بلاغة) للدكتور شاكر لعيبي،

ربما بسبب طبيعة بحثه التي تتناول موضوعا يتعلق بالبصري الذي هو حقل بعيد عن اهتمامات الكثير من القراء وحتى المثقفين لأنهم يعتبرونه أمرا خارج اختصاصاتهم، وهو أمر يلقي بظلاله المحزنة على واقع الفن والنقد التشكيلي تحديدا حيث يعاني هذا النمط من الكتابة غربة مضاعفة حينما تضاف له غربته داخل حقل الثقافة هو الآخر، والدكتور شاكر لعيبي مقيم في تونس ويعمل أستاذا في تدريس السيمياء الحديثة قي جامعة قابس هو شاعر عراقي له عدة دواوين وبحوث في ميدان الشعر عامة، والشعر العراق خاصة، كما هو أـيضاً ناقد ومنظر وكاتب في الفن وتاريخه، وفي السينمائيات البصرية.

 

2

طرفا الصورة

منذ عنوان  كتابه كان المؤلف (يداور) بين (طرفي) الصورة، وهو ما فعلناه تنصيصا عليه في عنوان مقالنا هذا، في اللعب على (المداورة) بين الصورة البصرية كطرف، والمجاز الشعري طرفا آخر لاعتبارهما طرفي القضية، أو شكلي تمظهرهما؟ بين الصورة (بمعنى العلامة البصرية) وبين الصورة في اللغة المنطوقة، فهو يؤسس عنوانه على ثنائي الصورة (البصرية) مقابل اللغة المنطوقة، فيبين عنوان كتابه على تعاكس مرآوي بين طرفي هذه الثنائية، تقديماً وتأخيراً بين طرفيها، (مداورة) ودونما تصريح "بلاغة اللغة الايقونية... الصورة بوصفها بلاغة" وبذلك فهو يدلل منذ العنوان بأنه: أولاً، يقف ضمن الاتجاه السيميولوجي الذي يعتبر السيميولوجيا جزءا من اللسانيات حينما يؤكد منذ السطر الأول في الكتاب على ذلك "ما زالت اللغة المنطوقة على ما يبدو ضرورة في قراءة اللغة البصرية" إلا انه ومنذ السطر الثالث من الكتاب، ينتقل إلى مستوى آخر في هذه القضية حينما يميز بين مستويي البداهة في استخدام اللغة فيدعو إلى ترك المستوى المباشرة والنفعي في استخدام الألفاظ المتواطأ عليها اجتماعياً، ويؤكد ان ما يهمنا هنا "المستوى غير المباشر الجمالي الذي يقول المعاني ذاتها بشكل غير مباشر: مداورة،ويكون وقعه في أغلب الأحوال أعمق"، إلا أننا، ومنذ الصفحة الثانية (في النص)، المرقمة (6) بالتسلسل العام للكتاب نكتشف ان مقاصد المؤلف ليست كذلك إلا بهدف إيجاد آلية مرحّلة من اللغة إلى حقل الصورة البصرية، تلك الآلية التي هي الاستعارة او المجاز والتي تتضمن معنى (الانحراف)، وبذلك فهو يستعيد ذات الآلية الني كرس لها مؤلفا كتاب (الشعر والرسم) اهتمامهما لها باعتبارها الآلية الأكثر فاعلية لدراسة (الصورة الشعرية)، وبذلك فإننا نتقل إلى مستوى أعمق من قضية استنطاق العلاقات بذاتها، او استنطاقها بمعونة اللغة المنطوقة. ويبدو المؤلف وكأنه قد شعر بالخوف من ان يوجس القراء في أنفسهم ريبة فيؤكد "عندما يتعلق الأمر بالبلاغة الصورية، لا يتعلق الأمر، بحال من الأحوال، بعمل تلفيقي، ولا باستجلاب قسري لمصطلحات حقل إلى حقل مختلف، ولا بتقويل البصري ما تقوله البلاغات اللفظية" والسبب برأي المؤلف يتعلق "بامتلاك البصري، بطبعه أصلاً، بلاغة تأويليه ومجازات تتماس مع المجازات اللفظية المعهودة" ويماثل المؤلف بين المجاز اللغوي والصورة البصرية هنا في قوله "ان المجازات اللفظية هي ( انحراف متعمد) للغة عن استخدامها القاموسي... والصورة image بطبعها تتضمن شيئاً يمكن ان يوصف بالمجازي طالما فيها موضوعاً غائباً فعلياً لكنه حاضر دلالياً: لوجود الغائب" لذلك فهو يستنتج ان "المهم في الصورة ليس ما يحضر فيها ولكن ما يغيب" ونحن ربما تختلف معه في إعطاء الأهمية (لما يغيب) من الصورة، فأن ذلك سيؤدي إلى نقل الصورة من اعتبارها (واقعة شيئية) من خلال عناصرها الشيئية إلى معاملتها باعتبارها موضوعاً سردياً وفي ذلك تخسر الصورة جزءا من وجودها الشيئي.

 

3

البلاغة والمشابهة

يعيب شاكر لعيبي على بعض البلاغيين العرب لتبسيطهم للمجاز بأنه "فكرة (المشابهة) بين دالين"، ورغم ان فكرة التشاكل الصوري بين (حقلين صوريين) لا تختلف كثيراً عن محاولة تصنيف المجازات الايقونية التي أجراها المؤلف والتي اعتبر فيها دروس البلاغة "تقدم بضعة مفهومات مفيدة عن مفهوم التشبيه" وكانت تلك المفهومات لا تعدو ان تكون ذاتها التي اعتبرها تبسيطاً للقضية وهي " إقامة مماثلة بين أمرين أو أكثر قصد اشتراكها في صفة أو أكثر بأداة لغرض مقصود" بينما يؤكد في الوقت ذاته أن "في اللغة الأيقونية نجد تماثلات بين أمرين مرئيين بسبب اشتراكهما في صفة أو أكثر بأداة لغرض مقصود" بينما يؤكد في الوقت ذاته ان "في اللغة الايقونية نجد تماثلات بين أمرين مرئيين بسبب اشتراكهما في صفة أو أكثر" وبذلك سنعود إلى المربع الأول وهو ان (التشاكل الصوري) عند مؤلفي كتاب (الشعر والرسم) والى غيرها من المفهومات التي تدرس الصورة الشعرية من خلال الصورة البصرية وهي ذاتها التي نجدها هنا حيث يحاول شاكر لعيبي ان يدرس الصورة البصرية من خلال مجاز الصورة الشعرية، أي استخدام المفهومات ذاتها، وبذلك تتحقق ذات البنية الدورانية والمرآوية جيئة وذهاباً بين ان تكون أولاهما أصلاً للثانية، وثانيهما، في الوقت ذاته، أصلاً للأولى، وفي كلتا الحالتين نجد سبباً قوياً لهما يربط الشعر بالرسم من خلال نقطة الالتقاء هي الصورة بنمطيها البصري والشعري.

 

 4

البلاغتان اللغوية والايقونية

يستعرض المؤلف تحت عنوان (تأصيل العلاقة بين البلاغتين اللغوية والايقونية في التراث) ويثبت إقرار "الفلاسفة المناطقة المسلمين بأغتراف الشعر والتصوير كليهما من (التشبيه)، والمراد بذلك هو سعي الفنين لمحاكاة الطبيعة وهذه هي فكرة ارسطرطاليسية عن جدارة". ويستشهد المؤلف بقول الفارابي عن العلاقة بين الشعر والصورة البصرية، "ان فعليهما جميعا التشبيه، وغرضهما إيقاع المحاكيات" ويستشهد بأقوال أخرى لابن سينا وابن رشد وأخوان الصفا والجرجاني، وكلها "نصوص تشدد بشكل رئيسي على مشكلة المحاكاة المختصرة إلى مصطلح بلاغي سائد في المجاز العربي وهو التشبيه".

ويقرر المؤلف تحت عنوان "حدود المعاني في اللغة المنطوقة وتعددها في اللغة الأيقونية"، سعة حدود تأويل الصورة مقارنة باللغة وذلك "لان من النوادر ان تفرض الصورة فرضا معنى وحيدا واحدا وهو ما يحصل غالبا عندما يجري التعبير بالكلام. وهو ما يقصد بالمصطلح المكيف للصورة (تعدد المعاني poly semie )، لذلك فهو يؤكد طوال الكتاب بطريقة مختلفة بين الشد والارتخاء "اتساع حقول تأويل الصورة بالنسبة للمشاهدين، "إزاء نص مكتوب يضل حقل التأويل فيه أقل أتساعا قليلا، أقل فحسب لأنه متسع كذلك على طريقته، ولكنه ملموم إلى حد واضح، ومقارنة بالبصري دائما" وهي القضية الثانية التي ربما نختلف فيها معه أيضا فنحن نقول ان من الصعوبة الاتفاق بشكل مطمئن مع مقارنات كهذه في أمور ليست معياريه تماما. وتحت عنوان (تعدد المعاني في البلاغتين اللغوية الايقونية) يُرجع أسباب ذلك التعدد إلى ان "تعدد المعاني اقل مرونة في اللغة المنطوقة بالمقارنة مع اللغة الايقونية وذلك راجع برأيه إلى مفهوم التماثل، وهو وجود تشابه بين العلاقة التماثلية ومدلولها، بينما لا تشابه بين العلاقة الرقمية (في اللغة المنطوقة) لمدلولها، أي ان علاقتهما اعتباطية، لذا فان العلامات التماثلية ذات صفة عالية وهي تنطلق من الملموس الحسي لأنها تشير إلى شيء مدرك، ملموس ومخصص بينما تقول العلامات الرقمية (اللغوية) معناها انطلاقا من التجريد، فكلمة (أم) لا تشير إلى (أم) محددة مخصوصة كما يفعل الفوتوغراف أما السبب الأخير فهو وجود استمرارية بين العلامات التماثلية، فإذا ما تشابهتا فان دالهما يضل هو نفسه، أو انه يضل متشابها، إلا ان هذين النمطين العلاماتيين حينما يشتغلان في حقل المجاز فأنهما (يتماسان) فيحيل بعضهما بعضا ضمن الحقل الدلالي الواحد الواسع، فنرى أدوات التشبيه بعيوننا في الصورة البصرية، ونقرؤها في المنطوقة" وان تعدد المعاني برأي المؤلف هو ضروري في تأويل الصورة وقراءتها، حيث يمكن للصورة ان تقول عدة معان في ان واحد، كما هي في حقيقتها تضم عدة مجازات في نفس الوقت. ويؤكد المؤلف "ان مجموعة من العلامات الصورية قد تشكل لنا مدونة بصرية نستطيع قراءتها عبر نظام العلاقات البصرية وحدها أو بمساعدة نظام لغوي مجاور".

 

5

وقد ضم الكتاب نماذج تطبيقية في قراءة الصورة الفوتوغرافية تشكل علامات مهمة في تواصل البحث السيميولوجي، مما يجعل كتاب الدكتور شاكر لعيبي برأينا محاولة جادة في تناول الصورة الفوتوغرافية تناولا سيميولوجيا تطبيقيا سيشكل مقدمة لدراسات أخرى أكثر عمقا.