الاثنين، 15 أكتوبر 2018





هناء مال الله وشاكر حسن آل سعيد: (تأملات في المحيط) وشيئية اللوحة
خالد خضير الصالحي
أغسطس 9, 2008
“إنّ الحكم على العمل الفنّيّ في ضوء مضمونه، سبيل يؤدّي إلى تدخّل كلّ أنواع الأهواء والتحيّزات التي لا صلة لها بالأمر”
(هربرت ريد / معنى الفنّ / دار الشؤون الثقافية العامة ، بغداد 19 ، ط1 ، ص 79 ).
{{(المدوّنات التأسيسيّة) للنقد التّشكيليّ العراقيّ}}
تكتسب إعادة قراءة ما أسمّيه (المدوّنات التّأسيسيّة) للنقد التّشكيليّ العراقيّ في هذا الوقت أهمّية كبيرة في إعادة تأسيس مرتكزات النقد التشكيليّ العراقيّ، ونعتقد أنّ أهمّ هذه المدوّنات هو ما تركه اتجاه النّقد العراقيّ الذي ابتدأه الراحل شاكر حسن آل سعيد وحاول تكريسه عدد من النقاد منهم: د.هناء مال الله ود.شاكر لعيبي وبعض الكتاب الآخرين حيث سنتناول هنا مقالا للدكتورة هناء مال الله، ثم ما قدّمه الناقد شاكر حسن آل سعيد من كشوف وتأسيسات نقدية توّجها بآخر كتبه وهو (البحث في جوهرة التفاني بين الأنا والآخر.. تأمّلات ودراسات في الأسطورة واللغة والفنّ)2003.
{{هناء مال الله .. (تأمّلات في المحيط)}}
تحاول الناقدة هناء مال الله، في مقالتها (تأمّلات في المحيط)، أن تنتهي إلى الفكرة المركزية لمنهجها النقديّ حينما اعتبرت اللوحة، في النهاية، (شكل المعنى)، فتبتدئ الكاتبة بالتوكيد على هشاشة “التحقيب الذي ترتّبه الذائقة الجمالية”مما يجعل أنماطا من الرسم: كالرسوم الكهفية واللقى المتحفية جزءا من النتاج التشكيليّ الحيّ والقادرة على “بثّ قيم جمالية جديدة” وهو ما جعل “الندوب والشقوق والإحالات اللونية من: تأكسد وصدأ، والتكسّرات والتراكمات، والتعرّيات وفقدان بعض الأجزاء قيما فنية جمالية ولّدتها مسيرة الأثر الزمانية والمكانية (البيئية) وأصبح حضور اللقية المتحفية متشاكلا مع حضور الأسطورة”، وإذا كان اندريه بارو يؤكد أنّ انقطاع اللقية المتحفية عن واقعها الأصليّ ودخولها عالم المتحف يؤدّي إلى تخريب بثّها باعتبارها وثيقة تاريخية فإنّ هناء مال الله تعتبرها بداية جديدة وملزمة حيث “تلغى تاريخيتها، وتنأى القيم الجمالية التحديثية بالأثر عن تاريخيته” ممّا يجعله مؤهّلا “للبثّ خارج قيمته التاريخية”، وهو ما يؤكده ال سعيد كذلك بقوله “لاحظت أنّي أتذوّق (القطعة المتحفية) في حاضري وحاضر العمل الفنّيّ على السواء على أساس (القيمة الجمالية) التي يحملها وليس على أساس القيمة التاريخية أو العلمية له… فكان أن تقاسمت عدة عناصر (زمانية-مكانية) جمالية القطعة المتحفية وهي: ما كان قد اقترحه صانعه بضوء القيم الواقعية أو التقليدية لأساليب العصر وقتئذ ثمّ ما أضافته قوى الطبيعة من اثر نفس العمل الفنّيّ وكذلك ما أضافته قوى بشرية عابثة كسرقة بعض الأجزاء والكسور وأخيرا ما أضافته قوى الصيانة إلى العمل الفني الآثاريّ ليخرج من مجموع تلك العناصر كيان جديد… وقد استخدمت نفس المؤثرات تقريبا للخروج بنتائج جديدة تقنية وأسلوبية” (البحث في جوهرة التفاني بين الأنا والآخر، الشارقة 2003، ص 278،ص 279).
وهذا مرتكز نقديّ مهمّ غالبا ما يتمّ إهداره بقسوة في كتابات العديد من نقّاد الفنّ التّشكيليّ التي تتصدر واجهة ما ينشر اليوم وانّ تحوّلا خطيرا في نمط الكتابات النقدية التشكيلية سوف يحدث حينما نفترض أنّ الانقطاع التاريخيّ سيشكّل الخطوة الحاسمة والأولى نحو “تهميش دور المُنجِـز (الفنان)”، ونحو فرض دور محايد عليه إلى درجة فنائه باتجاه تمظهرات جديدة لقيمة العمل الفنيّ الذي هو ضرورة وجود فيه “لم تعد التقنية قشرة للمفهوم (المعنى) بل أصبحت هي المعنى” و”أصبحت اللوحة تُثرى من ثراء الاستكشافات داخل المحيط”، ليكون “المرجع الواضح الذي يحرّره المحيط بكل مستوياته مصدر إثراء للعمل الفنّيّ بالبثّ والتأويل”.
لقد نظرت الناقدة إلى الانطباعية باعتبارها اتجاها جعل “خامة الرسم وتقنياتها من قبيل تحصيل الرؤية … وجعل الرسم يمارس ذاته خارج أعباء السرد” باتجاه “إمكانية إنجاز لوحة تحتفل بموادها الخام وسطوحها وأبعادها خارج سياق ثنائيات الشكل والمعنى” باتجاه تكريس (شكل المعنى)، وقد اقترح الناقد شاكر لعيبي، في حديث لي معه استخدام مصطلح (الرسم الملموس peinture concrete ( ، بينما اقترح عمران القيسي استخدام (متيريالية اللوحة).
{{آل سعيد .. تأسيس تواشج بصريّ ـ نظريّ}}
لقد أصدر شاكر حسن آل سعيد (البيان التأمّليّ)، عام 1966، الذي نعدّه المساهمة الشخصية الأولى في التنظير الفنّيّ لآل سعيد، تلك المساهمة التي تستند إلى المستوى البَصَريّ للمادّة (أو الواقعة الشيئية) للوحة، فكان بياناً يؤذن بأنّ آل سعيد قد تخلّى عن التشخيصية ذات (الدلالات الاجتماعية الطبقية) كما يصفها، صوب تأسيس تواشج بصريّ ـ نظريّ لا يستقل فيه العمل الفنّيّ عن الخبرة المشيدة بواسطة الفكر، مانحاً تجربته الجديدة صفة (اللا شكلية) مؤسّساً فكره التّنظيريّ ـ مفترقاً عن التجريديين التقليديين ـ على أوّل مصادره المعرفية وهي التراث الصوفيّ الإسلاميّ، وبذلك فقد فارق مجايليه في التطبيق اي الرسم) فكانت رسومه منقطعة عن تراث الرسم العربيّ لكنه فتح باباً جديداً لبقاء الصّلة حيّة مع ذلك التراث عبر التنظير، مؤسّساً معادلته التي تعيد الموجودات إلى النقطة، كوجود، وكمعرفة، علم النقطة ليس كمثله شيء) وكآلية تجريدية فاعلة تكون فيها النقطة أزل كل شيء، حيث تعود: الكتلة إلى أزلها السطح، والسطح إلى أزله الخطّ، والخطّ إلى أزله النقطة، وبذلك كان آل سعيد يقترب حثيثا من فهم التجريد باعتباره منظومة لغوية، وكان طرحه لموضوعتي الأثر والمحيط أثرا في إبقاء النسغ الرابط مع آثار الواقع، وسطوحه، وجدرانه قائماً، ثم جاءت دراسته للشقوق التي كانت تظهر في أعماله، والتي كان لها ما يماثلها في الجدران، وكان يفلسفها باعتبارها معارج (مفردها معراج) تشقّ اللوحة نحو الأعالي.
{{جوهرة التفاني}}
لقد كان آخر كتب شاكر حسن آل سعيد هو (البحث في جوهرة التفاني بين الأنا والآخر.. تأملات ودراسات في الأسطورة واللغة والفن)، وتمّ إصداره ضمن فعاليات بينالي الشارقة الدولي في دورته السادسة عام 2003، ويُعدّ هذا الكتاب مدوّنة تنظيرية (استثنائية) بحثت موضوعات مهمة ومتنوعة في تجربة آل سعيد النقدية.
وقد بلغ المستوى التقني للكتابة عند آل سعيد في كتابه الأخير أرفع مستوياته، ففي هذا الكتاب يدرس شاكر حسن الترابط الذي يفترضه وثيقاً بين ثلاثة مصادر للمعرفة، تشكل مرتكزاته الفكرية وهي: الأسطورة (=الأساطير العراقية القديمة)، ولغة التصوّف الإسلامية (=اللغة)، وأخيرا متيريالية فن الرسم (شيئية اللوحة).
{{التعرية.. صلة بالواقع ونبوءة بالموت}}
إنّ أكثر ما يلفت الانتباه في رأينا، هو الطابع النبوئي لهذا الكتاب بالموت، من خلال تكريسه ما يسميه آل سعيد (التعرية الشيئية)، وهو “العدّ التنازليّ من أجل الوصول إلى معنى (الصفر) بالمفهوم الرياضيّ” باعتبار أنّ العمل الفنيّ وهو على مكانته الأولى يمثل قيمة صفر، نقبل أن يكون مجرد سطح تصويريّ فهو لم يصل إلى (نقطة الصفر) بعد، حيث لم يزل خامات بطورها غير المتشكل. فالتعرية الشيئية في مفهومها الرياضيّ تكمن ما قبل حالة (الصفر) في التعبير الفنيّ، فالتعرية هي عملية حفريات آثارية، أي (الإزالة) القصدية للمظهر التراكمي للطبقات الآثارية من أجل المعرفة، وهي معنى معاكس (للحدس) بالتراكم.إنّ التعرية مفهوم كونيّ، فالطبيعة تتعرّى بفعل مؤثراتها وعشتار تتعرّى بفعل قوانين العالم السفليّ، وهكذا تظهر معالم التضاريس السّلبية أي (المتقعّرة) لا (المحدودبة) كنتائج في (التعرية) كالأخاديد وشقوق الأرض.
تظلّ التعرية بمثابة المحور الأول في الكشف عن (تشيّؤ) العمل الفنيّ وفي النقد ومعاملة اللوحة (لذاتها) دونما احتكام للفنان أو الجمهور، وبذلك يجد الناقد آل سعيد (التبرير) الفكريّ لمنجز (الرسام) آل سعيد في بحثه في التخريز والشخبطة والتخديد (من أخدود)؛ وبذلك فهو يستعير القوى الفاعلة للطبيعة في عمله الفنيّ وتأثيرها في ذلك العمل. إنّ للتعرية والتراكم جوانب فعل في الإنسان وإن لم يذكرها المؤلّف، لكن المتلقّي يستشعرها باعتبارها مسكوتاً عنه، فإنّ عمل شاكر حسن الدؤوب كان محاولة دائمة لإجهاض فعل (التعرية) التي يتعرّض لها شخصياً عبر الوهن) بالتراكم الذي يحدثه في (كمّه) الثقافي، أي في تطوره الثقافيّ الذي كان يطوّره في كلّ مقال ينشره.
{{ذروة اكتمال البناء التنظيريّ}}
إنّ الفنّ في جوهره، من وجهة نظر آل سعيد، هو ذاته مفهوم (شيئية اللوحة) الذي هيمن على فهمه للوحة باعتبارها سطحا تسكنه الألوان، ولم يكن يعني في النهاية إلا بحثا في استخدام المادة على سطح، فقد اعتبر الرسم “فنّا يكتشف (ذاته) في السطح التصويريّ” (السابق، ص 206)، وهو السبب الذي دعاه إلى استقراء الحيطان في الأزقة الشعبية باعتبارها سطوحا تمتلك مسوّغات اعتبارها لوحة، حيث يتوفّر لها وجود شيئيّ يجعلها لوحة، أي جزءا من نسق الرسم دونما حاجة إلى: وجود صانع محدّد، ونيّة مسبقة عند ذلك الصانع، بإنتاج لوحة تنتمي للفن، أي لنسق مّا، فيتّخذ الجدار ـ (مقام الجسد مقابل الجثة) ـ جسدا، إنّه جسد اللوحة النابض بالحركة في سكونه، والنابض ربما بالوجود كواقعة شيئية بماديتها أولا، وبتقنياتها الأربع وبآليتيّ: التعرية والتراكم اللتين سنأتي إلى تناولها؛ وبذلك يتخذ الجدار مقام العمل الفنيّ بعناصره المادية المختلفة مما يجعل الفن نشاطا يتعلق بالسطح التصويريّ، حيث “يختزل الفيض الفنّيّ عبر إشراقه الفعليّ”.
إنّ عنصري شيئية اللوحة، من وجهة نظر آل سعيد، هما: المادّة واللّون، فكان آل سعيد يؤكّد انّه “لا يمكن فصل الخامة عن اللون أبدا” (السابق ص 61)، كما أنّ كليهما: اللّون والخامة (=المادّة) لا يمكن أن ينفصلا عن الوجود الشيئيّ، وأيضا عن الوجود التقنيّ للوحة، من خلال تصنيف الألوان إلى أربعة فصائل، هذا الوجود الذي يعيده آل سعيد إلى عناصر التكوين الأربعة باعتبارها أوجها للوجود الشيئيّ، فكان يعتقد أنّ “أربع طاقات ذات صلة بالوجود الشيئيّ في المحيط أو (هي) بمثابة الوحدات الأبجدية الخليقية الأساسية وفي مجال (التقنية) وليس (الموضوع) وهذه الطاقات هي: الماء والهواء والتراب والنار” (البحث في جوهرة التفاني بين الأنا والآخر، الشارقة 2003، ص 267-277)، وهو يصف استخدامه (القوى) أساسا للبناء اللغويّ بمثابة استقصاء البناء في داخل المؤثرات التقنية وليس في خارجها على السطح التصويريّ، فكان استخدامه عناصر: الماء عند معاملة اللوحة وما عليها من ألوان بحيث يظهر تأثيره على مستقبل اللوحة أو استخدام (السيولة) في التقنية اللونية (اللون السائل)، بينما كانت النار للحصول على ألوان وفوهات بواسطة الحروق “اللون الذي يوحي للمشاهد بأنه تكوّن في حالة حرق المادة..”، وكان التراب (اللون ذو الكثافة) حينما يهدف إلى إسباغ الطبيعة الطينية الكثيفة على عجينة الألوان، بينما يجيء الهواء من ألوان مسقطة على اللوح بطريقة النفخ (اللون المنفوث)، كما يصفه آل سعيد ونقلناه بتصرف طفيف (البحث في جوهرة التفاني بين الأنا والآخر، الشارقة 2003، ص 277) ، وبذلك كرّس مفهوم الوحدة الخليقية في اللوحة باعتباره جزءا جوهريا من مفهوم (الواقعة الشيئية للوحة)، فكان مفهوم التشيؤ objectivation قد تحقّق برأيه، حينما “يمتلك، أيّ عمل فني، (شيئيته) بهذا الشكل أو ذاك، وسواء أكانت الظاهرة الفنية هي اللوحة، أو المنحوتة، أو القطعة الموسيقية، أو الغنائية”، وهو ما قاد آل سعيد إلى اكتشاف المفهوم الثوريّ المهمّ ذي الوجهين: (التعرية الشيئية ـ ومبدأ التراكم) (السابق ص 203) باعتبارهما تمظهرين لنسقيْ الفعل الميكانيكي الذي يتعرض له سطح اللوحة من خلال مفهومين متعارضين هما: الحذف والإضافة، باعتبارهما آليتيْ البناء المادّي للوحة.
لقد شكلت آليتا: (التعرية) و(التراكم)، عند آل سعيد، مراحل تطور نسقيّ قي منجزه الفنيّ، فبعد أن بدأ بإضافة مواد استثنائية للوحة، مفعّلا مبدأ التراكم، بدأت اللوحة لديه، تتعرّض لشتّى ضروب التجارب المخبرية من خلال الحرق والخرق والخرم، بينما بدأت في أواخر أيامه تتآكل من أطرافها، وذلك واضح في تجربة اللوحة الورقية ذات الوجهين التي تسندها من الوجهين صفيحتان زجاجيتان، فكانت تجسيدا ماديا لشعور داخليّ بالتآكل الداخليّ بفعل تقادم العمر.
هكذا بدا لنا الواقع الشيئي للوحة عند آل سعيد من خلال ثلاثة مستويات: الأول، المستوى المادّيّ: اللون والخامة، والثاني، المستوى التقنيّ الذي يرتبط بوشيجة مع عناصر التكوين الأربعة: الهواء (اللون المنفوث)، والماء (اللون السائل)، والأرض (اللون ذي الكثافة)، والنار (اللون واللوحة المحروقين)، والمستوى الثالث، هو المستوى البنائيّ: بمبدأي التعرية والتراكم، فكانت اللوحة، وفن الرسم في جوهره، مادة على سطح، مادة يتم اشتغالها بمستوى تقني كان متواشجا لديه من تقنيات نابعة من عناصر التكوين التي اتخذت لدى آل سعيد بعدا تقنيا يؤدّي في النهاية إلى تخلف بقايا أفعال تلك العناصر في اللون والمادة ذاتها، فعل الهواء والماء والنار والتراب، ومن خلال مستوى تقنيّ يتمظهر في مستويي التراكم حيث المواد المضافة إلى سطح اللوحة والتي تخلف ملمسا ناتئا texture أو يؤدي في مراحله السرطانية المتقدمة إلى هيمنة الخروم والثقوب والخروق والشقوق على اللوحة، وربما الأدق شكلها المقدس الذي اتفقت عليه البشرية قرونا.
يبسط آل سعيد آخر تطوراته الثقافية في مقال كتبه في 6/ 7/ 1984، ونشر ضمن كتابه الأخير، ويلخص تلك التطورات بما يأتي:
أوّلاً: الإيمان بأن تقييم الأعمال الفنية لا ينجز بالحكم على أسلوب الفنان، بل بما (يكمن وراءه) من (فكر تنظيريّ) يمتلكه الفنان.
ثانياً: امتلاك المتأمل لنظرة شهودية للعالم تنتهي إلى التعامل مع العمل الفني باعتباره امتداداً للعالم المحيطي العيني وباعتباره وسيلة للتعبير عن الحرية.
ثالثا: امتلاك العمل الفني كيانه الذاتي وهو يتمتع (بقطيعة) ابستمولوجية بينه وبين الفنان والمشاهد، وبذلك تتحقق (الاستقلالية) الشيئية للعمل الفنيّ.
رابعاً: تواشج العلاقة بين الذات والموضوع وتمرحلها في انتماء الفنان إلى العالم المرئيّ ثم اكتشافه (التجريدية) باعتبارها توكيدا للعلاقات الإنسانية للطبيعة، وبناء الفحوى المطلقة للمرحلة الحضارية المعاصرة، ثم عودة الفنان للانتماء إلى العالم المرئيّ من خلال الانطباع العينيّ (الحسّيّ البصريّ ثم الوجدانيّ)، ثم الوصول باستبدال الواقع الشخصيّ أو التجريديّ إلى الواقع الموضوعيّ أو الذي يكونه مفهوم الأثر، الذي يعرفه آل سعيد بأنه (الشكل الموضوعي للنزعة التشخيصية)، وأخيراً يصل إلى (الموضوعة ـ الذات) وتبرز فيها النزعة اللغوية في الفنّ التشكيليّ، حيث يوغل في إحالة العالم الإشاريّ إلى العالم اللغويّ، حيث يستوعب مفهوم الأثر (جزئيات العالم وتفاريقه كفنّ بصريّ مشحون بـ(الطاقة اللغوية)، حيث الإشارة والصورة، وحيث (فنّ الفعل) المرتكز في رأيه بظهور أثر عناصر التكوين الأربعة وهي: الماء عند معاملة اللوحة وما عليها من ألوان بحيث يظهر تأثيره على اللوحة في استخدام (السيولة) في التقنية اللونية. والنار للحصول على ألوان تعطي إحساس (المعتم ـ المضيء) وفوهات تحدثها الحروق القوية، ثم التراب في إسباغه روحيته على عجينة الألوان، وأخيراً الهواء في الألوان المسقطة على اللوحة بتقنية النفخ؛ وبذلك تكون تلك (المؤثرات) هي (الوحدات الأبجدية) للخامات من خلال (آثار) تلك القوى وايجابية الرسام.
لقد كان آل سعيد يطمح إلى تكريس الجانب الإشاريّ ومعناه الأبجديّ من خلال (الشقوق والآثار والندبات والحروق والخدوش والفوهات) باعتبارها (وحدات تقنية).
{{الوجود الشيئيّ والانتماء إلى العالم المرئيّ}}
كان شاكر حسن آل سعيد يعتقد أنّ تحقّق “الاستقلالية الشيئية للوحة أو المنحوتة بالنسبة للفن التشكيلي” يتم “من خلال (القطيعة) الابستمولوجية ما بين العمل الفنّيّ من جهة وما بين الفنان والمشاهد من جهة أخرى يتحقق (حضور) العمل الفني بصورة موضوعية” (البحث في جوهرة التفاني بين الأنا والآخر، الشارقة 2003، ص 273).
يؤكد آل سعيد أن صلة الفنان بـ(ـالوجود الشيئيّ) تتحقق من خلال انتماء الفنان إلى العالم المرئيّ من خلال انطباعه الحسيّ البصريّ، واكتشافه الصيغة التجريدية كفحوى مطلقة للمرحلة الحضارية… واعتبار الكيان التجريديّ للوجود المرئيّ بمثابة الحقيقة الموضوعية للظواهر المادية، وعودة الفنان للانتماء إلى العالم المرئيّ ولكن من خلال الانطباع العينيّ، وأيضا استبدال الواقع الشخصيّ أو التجريديّ وهو ذاتيّ المنطق بالواقع الموضوع أو الذي يكونه مفهوم الأثر trace الذي هو “الشكل الموضوعي للنزعة التشخيصية”، وأخيرا “بناء شكليّ جديد لواقعية الأثر حيث يحوّر شكل قدم الإنسان إلى شكل النعال” باتجاه الحصول على نتائج بصرية من جزئيات العالم وتفاريقه … فإنّ العالم (كأثر موضوعيّ) يخرج من اختيار الفنان ويظلّ فنّا وليد الصدفة المحض، أي “إحياء للصدفة” من جديد. إلا أنّ أهمّ المكتشفات التي رسخها آل سعيد هي اعتباره اللوحة والعالم نصا لغويا قابلا للقراءة وبذلك كان يبحث في تمظهرات هذه الأبجدية اللغوية في العمل الفنيّ، وبذلك تكون “المؤثرات بمثابة (الوحدات الأبجدية) للخامات… زائدا (ايجابية) الفنان… وايجابية عنصر (الصدفة) أو تأثير (قوى الطبيعة)” ويرفع تقنيات تصنيعية أخرى إلى مستوى (الوحدات الأبجدية) ومنها: التلصيق collage والترقيع والتخريق حيث يستطيع الفنان بواسطتها “أن يضاعف بها العنان من نتاج قوى الطبيعة نفسها” ويصفها بأنها (أبجدية التقنية)، وأنها محاولة لتطوير الجانب الإشاري إلى معناه الأبجدي، فتكون “الشقوق والآثار والندبات والحروق والخدوش والفوهات … بمثابة وحدات تقنية مستمدة من ملامح المحيط .
لقد كان آل سعيد ماضيا، من خلال بحثه في (المعالجات التقنية الأربع) أن يصل إلى “تقييم جديد للألوان في فن الرسم، حيث لا تكتفي الألوان بأن تصبح (خامة لونية) بحيث لا نستطيع أن نفصل فيها المادة الأولية عن اللون، فهما كيانان متنافذان، حيث لا يقتصر اللون على (الإحساس البصري) ليشوبه (انعكاس لمسيّ) فينصهر اللون البصري-اللمسيّ في جوهر الوجود المحيطي، وتحيى الألوان حياتها وكأنها كيان مستقل عن عناصر العمل الفنيّ وعن عالم اللوحة، بينما كانت هناء مال الله كانت تطرح شيئية اللوحة من خلال الوجود المحيطيّ بينما كان آل سعيد يحاول الانتهاء إلى اعتبار أن (الوجود الشيئيّ) للوحة هو نظام (لغويّ) لعناصرها وقواها الفاعلة: تربيع تابيه والقوى الأربع للألوان.

النحت العراقي .. وروح المادة الأولى


النحت العراقي .. وروح المادة الأولى

خالد خضير الصالحي

تثير منحوتات نصب الحرية المنجزة بمادة البرونز في نفسي حقيقة ان البرونز مادة مخادعة او ذات قدرات استثنائية من أهمها قدرة الإبقاء على آثار المادة الأولى، او روح المادة الأولى التي صنعت منها المنحوتة، هذه الروح التي تماثل ما سبق وكررته مرات بشان بقاء العلامة الأولى المشخصة في الرسم كامنة في بنية اللوحة مهما أوغل الرسام في إجراء الأسلبة التي تبدو وكأنها تغير من طبيعة تلك العلامة الأولى باتجاه محوها؛ مما يجعل روح العلامة الأولى باقية لا يمكن محوها من اللوحة..، ففي نصب الحرية ظلت روح المادة الأولى (=الطين) كامنة في المنحوتة تظهر من خلال آثار أصابع النحات التي مازالت بقاياها مؤثرة في سطح البرونز، وكذلك آثار أدوات النحات واضحة كبصمات على جسد المنحوتة، فقد قام جواد سليم باقتطاع أجزاء من جسد حاملة المشعل التي تتوسط النصب بشكل مازال يحمل مرونة الطين، وهي واحدة من أهم البصمات (=العلامات) التي وضعها جواد سليم لترسيخ الصلة السيكولوجية بين المتلقي وبين المنحوتات، وبينهما معا وبين مادة الطين، فلم يحاول جواد سليم إخفاء مادته الأولى رغم انه صنع النصب ليتخذ الأخير جسد مادة أخرى هي البرونز،لقد ترك كل آثار وبصمات يديه فاعلة لا بهدف ان يكون التمثال مصنوعا من مادة البرونز بل بهدف ان يكون التمثال مصنوعا من البرونز ولكن بروح مادة الطين، وهو ما فعله النحات محمد غني حكمت وهو ينجز تمثال المتنبي حينما صنعه من الطين ليبقى محتفظا بروح مادة الطين حتى وان تحول إلى مادة قاسية مختلفة هي البرونز؛ وبذلك فقد حاول النحات محمد غني حكمت على سمتي الرقة والقسوة معا، رقة الشعر التي كرستها آثار مادة الطين، وقسوة الصحراء التي سيكرسها البرونز بعد صبه، عكس تمثال كهرمانة الذي أنجزه محمد غني حكمت تمثالا برونزيا أولا وأخيرا حيث تفتقر الشخصيتان المنحوتتان إلى رقة الطين، وهي مفارقة غريبة في بابها.
ان تجارب كاملة يمكن ان توصف بأنها تجارب نحت تحمل روح الطين، بينما تحمل تجارب أخرى روحا قاسية ريما تنتمي إلى البرونز او الحجر، فلم تكن العديد من منحوتات رودان تحمل روح المادة الأولى وبدت منحوتات كأنها صنعت أولا وأخيرا من مادة البرونز، بينما يمكن وصف تجربة جواد سليم بأنها تجربة نحتية تحمل روح مادة الطين التي تظل عالقة في وجود المنحوتة مهما كانت المادة التي صنع منها التمثال، فحتى تماثيله الخشبية تحمل (مرونة) الطين، وهو ما نجده في أهم سمات تجربة النحات إسماعيل فتاح الترك او النحات المصري محمود مختار في ابرز أعماله المنحوتة بالحجر، فيبدو تمثاله الشهير (رياح الخماسين) وكأنه منحوتة طينية جافة، فالتمثال هنا يتنكر لمادته الحقيقية، ويحاول الانتماء إلى سحر المادة الأولى.