الاثنين، 15 أكتوبر 2018

النحت العراقي .. وروح المادة الأولى


النحت العراقي .. وروح المادة الأولى

خالد خضير الصالحي

تثير منحوتات نصب الحرية المنجزة بمادة البرونز في نفسي حقيقة ان البرونز مادة مخادعة او ذات قدرات استثنائية من أهمها قدرة الإبقاء على آثار المادة الأولى، او روح المادة الأولى التي صنعت منها المنحوتة، هذه الروح التي تماثل ما سبق وكررته مرات بشان بقاء العلامة الأولى المشخصة في الرسم كامنة في بنية اللوحة مهما أوغل الرسام في إجراء الأسلبة التي تبدو وكأنها تغير من طبيعة تلك العلامة الأولى باتجاه محوها؛ مما يجعل روح العلامة الأولى باقية لا يمكن محوها من اللوحة..، ففي نصب الحرية ظلت روح المادة الأولى (=الطين) كامنة في المنحوتة تظهر من خلال آثار أصابع النحات التي مازالت بقاياها مؤثرة في سطح البرونز، وكذلك آثار أدوات النحات واضحة كبصمات على جسد المنحوتة، فقد قام جواد سليم باقتطاع أجزاء من جسد حاملة المشعل التي تتوسط النصب بشكل مازال يحمل مرونة الطين، وهي واحدة من أهم البصمات (=العلامات) التي وضعها جواد سليم لترسيخ الصلة السيكولوجية بين المتلقي وبين المنحوتات، وبينهما معا وبين مادة الطين، فلم يحاول جواد سليم إخفاء مادته الأولى رغم انه صنع النصب ليتخذ الأخير جسد مادة أخرى هي البرونز،لقد ترك كل آثار وبصمات يديه فاعلة لا بهدف ان يكون التمثال مصنوعا من مادة البرونز بل بهدف ان يكون التمثال مصنوعا من البرونز ولكن بروح مادة الطين، وهو ما فعله النحات محمد غني حكمت وهو ينجز تمثال المتنبي حينما صنعه من الطين ليبقى محتفظا بروح مادة الطين حتى وان تحول إلى مادة قاسية مختلفة هي البرونز؛ وبذلك فقد حاول النحات محمد غني حكمت على سمتي الرقة والقسوة معا، رقة الشعر التي كرستها آثار مادة الطين، وقسوة الصحراء التي سيكرسها البرونز بعد صبه، عكس تمثال كهرمانة الذي أنجزه محمد غني حكمت تمثالا برونزيا أولا وأخيرا حيث تفتقر الشخصيتان المنحوتتان إلى رقة الطين، وهي مفارقة غريبة في بابها.
ان تجارب كاملة يمكن ان توصف بأنها تجارب نحت تحمل روح الطين، بينما تحمل تجارب أخرى روحا قاسية ريما تنتمي إلى البرونز او الحجر، فلم تكن العديد من منحوتات رودان تحمل روح المادة الأولى وبدت منحوتات كأنها صنعت أولا وأخيرا من مادة البرونز، بينما يمكن وصف تجربة جواد سليم بأنها تجربة نحتية تحمل روح مادة الطين التي تظل عالقة في وجود المنحوتة مهما كانت المادة التي صنع منها التمثال، فحتى تماثيله الخشبية تحمل (مرونة) الطين، وهو ما نجده في أهم سمات تجربة النحات إسماعيل فتاح الترك او النحات المصري محمود مختار في ابرز أعماله المنحوتة بالحجر، فيبدو تمثاله الشهير (رياح الخماسين) وكأنه منحوتة طينية جافة، فالتمثال هنا يتنكر لمادته الحقيقية، ويحاول الانتماء إلى سحر المادة الأولى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق