الأربعاء، 27 يناير 2010

الرسم العراقي ما بعد التغيير.. محمد مسير نموذجا


رسم دونما.. شروط (خارج بصَريّة)







"ليس هناك معنى خارج الإشارة، سابقا لها، وليس هناك أي حضور ضمني لخطاب أولي يجب إعادة إنشائه لإيضاح المعنى الأصلي للأشياء" ميشيل فوكو


(الكلمات والأشياء، مركز الإنماء القومي،1989، ص 75)


خالد خضير الصالحي
يصاب بالخيبة من يحاول ان يتتبع مسارات التحولات الثقافية، ربما بسبب الفشل الذي سيلاحقه جراء عجزه عن إمكانية إيجاد خط تطور واضح و(منطقي) ينتظم كل التحولات التي طرأت على الإبداع الأدبي والفني في النصف الثاني من القرن الماضي في العراق، فقد قرأت للكاتب علي الفواز رأيا يقول ان جيل السبعينات، في الشعر، كان "جيل الانفصامات الكبرى، والانفصامات الأيديولوجية، والانفصامات عن موروثات الحداثة التقليدية"(جريدة المدى، ملحق موقع ورق، 30 أب 2009)، قد أثار عندنا سؤالا، هل ان جيل السبعينات ذاته بالضرورة يجب ان يكون جيل الانفصامات في الرسم كذلك.



نؤكد أولا إن استخدامنا الجيلية التقليدية لا يكرس الجيلية العشرية التي قد تكون أو لا تكون مقبولة في الشعر، بينما نحن نعني بها هنا؛ فاعلية الهوية الأسلوبية التي تشكلها سيول من الخصوصيات الفردية المتقاربة، الهوية الأسلوبية ليست بفهمها الجمعي السابق باعتبارها لازمة إبداعية قبلية لا تتحقق صفة الرسم إلا بتحققها، لذلك نؤيد رأي الدكتور حاتم الصكر بأن "القطيعة سمة معرفية وليس عداءً أو اختراقاً تقابلياً ضدياً"، عند أجيال الفن العراقي منذ الستينات، وثانيا نحن نعني بالفن التشكيلي هنا على الأغلب فن الرسم تحديدا رغم انه يشمل أحيانا طيفا من الفنون البلاستيكية المعروفة.



شكّل جيل الستينات حلقة (رابطة _ فاصلة) بين مرحلتين في الرسم العراقي فاستحق ذلك الجيل ان نؤرخ به، وكان جيل ما بعد الستينات رزمة من جيل ما قبل (الحروب) وهو جيل السبعينات، وأجيال الحروب التي تسمى بجيل الثمانينات، ذلك الجيل الذي طحنت الحرب، بضراوتها، وقسوتها، وعبثيتها، آماله، وعطلت التطور الثقافي العراقي الذي قاد بدوره إلى تخريب البنية التحتية الثقافية، وكانت أهم نتائجها: الفوضوية، والإرهاب، والطائفية، وكل الأمراض الاجتماعية الكامنة في المجتمع العراقي وفئاته التي لا صلة لها بالتعليم والثقافة والمعرفة والحضارة، مباشرة بعد إسقاط النظام السابق.



لقد بدا لي جيل الستينات، في الرسم العراقي، جيل الانفصامات الكبرى، فقد كان منطقة فاصلة بين جيل الرواد بلازماته (اللابصرية) التي خلقتها طروحات خارج بصرية، أهمها (التعبير عن الروح المحلية بقوانين اللوحة المسندية) باعتبارها لازمة للإبداع، فزحزح جيل الستينات (عمليا) هذه الاشتراطات؛ رغم انه لم يكن شجاعا كما ينبغي، في ميدان التنظير؛ فأبقى الباب مواربا هنا، وحاول المداورة بالنصوص للمحافظة على المتناقضات كلها رغبة منه في ديمومة الصلة بالجمهور عبر أسهل الطرق: اللازمة السابقة والجاهزة والخارج بصرية (التعبير عن الروح المحلية ... )، ومحاولة إقناع الجمهور بقبول تغير أنماط التعبير بين تجربة وأخرى، وبين مرحلة وأخرى، سواء بسبب التحولات الاجتماعي أو ربما بسبب التحولات العالمية في الرسم.



أولى الغرائب التي نواجهه ان جيل السبعينات في العراق كان جيلا ارتداديا سادت فيه الايديولوجيا ومتطلباتها، بطريقة قاسية ومكشوفة، بسبب الوضع السياسي، فشاعت أساليب الرسم المدرسي الأكاديمي والبوسترية الإعلامية سواء تعلق الأمر برسم لوحة أو منحوتة أو أي عمل (فني)، لقد ضمّ هذا الجيل أولى الدفعات من الخريجين الذين تتلمذوا على يد فناني الستينات الذين بدؤوا التدريس إلى جانب الأساتذة الخمسينيين وأبرزهم فائق حسن الذي اثر في شخصية السبعينيين بشكل كبير: صلاح جياد، وفيصل لعيبي، ونعمان هادي، ووليد شيت، وعفيفة لعيبي، وإزاء (الفراغ الحداثي) الذي لم يكن بمستطاع السبعينيين ملؤه؛ استمرت فاعلية جيل الستينات الذين كانوا أكثر حداثة من السبعينيين الذين هيمنت عليهم الايدولوجيا التي كانت تروجها الأحزاب في تلك المرحلة، إلا ان الأمور لم تكن تتطور بهذا الشكل؛ فتحْتَ السطح، وفي خضمّ الحرب العراقية الإيرانية، وظهور أجيال من الرسامين ذوي الرؤية المتجاوزة من الذين خرجوا من عباءة شاكر حسن آل سعيد، أو التفوا حوله، وتبنوا طروحاته في (الفن التأملي)، و(الحقيقية المحيطية)، و(النزعة الخليقية)، و(البعد الواحد)، إلا ان صوت هؤلاء لم يكن الأقوى وقتها، فقد كان الصوت الأقوى هو صوت النقاد الرسميين الذين بشروا بالتعبيرية باعتبارها (فن المستقبل) في العالم!، التعبيرية التي تمّ تبنيها رسميا باعتبارها النمط الرسمي للفن العراقي، فماذا نسمي هؤلاء الرسامين؟، هل نقول جيل الثمانينات؟، لكننا على كل حال نعني بهم تحديدا جيل: هناء مال الله، وفاخر محمد، وكريم رسن، وغسان غائب، وحيدر خالد، ونديم محسن، ونزار يحي، وإيمان علي، وهيمت محمد علي، وسامر أسامة، ومحمود العبيدي، وحسن عبود، وهاشم حنون، وعاصم عبد الأمير، وإيمان عبد الله، وجسام خضر.



لقد كان الميل للاصطفاف يجري عند هؤلاء حول القناعات التحديثية والرؤى الفنية المغايرة، وكانت الانشغالات النظرية لشاكر حسن آل سعيد فكانت مفاهيم: (الفن المحيطي)، و(النزعة الخليقية) تؤلف المناهل التي كان هؤلاء الرسامون يشتغلون عليها، وقد استعنا بالناقد حاتم الصكر الذي كان قريبا من أجواء هذا الجيل؛ فذكر بأن:



هناء مال الله كانت مهتمة بـ"إشارات المحيط وأيقوناته" وإنها "تكشف قناعتها بالفن المحيطي ورؤيتها لوجود اللون عنصراً متعيناً في اللوحة، وربطها لذلك كله بما أسمته (التنقيب داخل الوجود) و(اكتشاف المحيط وتوثيقه)" وذلك يستتبع يقينها "بدخول المحيط بمستوياته المتراكبة والمتجاورة كبنية أساسية في هيكلة العمل الفني" وبذلك تعلل ظهور "الاستعارات المحيطية ضمن جغرافية اللوحة"، مع إيمان راسخ يشاركها فيه رسامو (جيل الحروب) "بـ(اختزل) المحيط وأشكاله المرئية بتشفيرها وتحويرها ، إدراكاً منه بأن ليس ثمة شكل نهائي أو (استقرار شكلي) للمرئيات" ..



وكان فاخر محمد مهووسا بالنزعة الخليقية التي كرسها من خلال "احتفائه باللون واحتشاد اللوحة بالأشكال المشجعة على البحث عن خيط سردي (حكائي) ينتظمها... فتآزرت في أعمال فاخر محمد مخيلة عفوية وحرية قصوى لاستعادة سحر المخلوقات الأولى".



وكان التجريد مسيطرا على منجز غسان غائب منذ بواكير عمله الفني و"غالباً ثمة مساحات لونية فارغة، في أعمال غسان غائب.. تناظر بتوزيع ذكي ذلك الاحتشاد الكتلوي للألوان في مساحات مجاورة لها. فكان من أكثر زملائه استخداماً للزيت على القماش".



لقد كانت حرارة الحرب، وهيمنة النفس الأيديولوجي المحرك للسائد النقدي الذي كان يقوده عدد من النقاد المروجين لطروحات خارج بصرية تشد الرسامين إلى إنتاج فن يتلاءم وطروحاتهم، إلا ان هذه التعبيرية سرعان ما تبخرت بفعل الضعف الذي أصاب محركاتها الخارجية، فقد هاجر العديد من الرسامين خارج العراق فتبنوا أساليبهم بحرية ومن هؤلاء: كريم رسن، ونزار يحيى، وسامر أسامة، وهاشم حنون، وغسان غائب، وهاشم حنون، وهناء مال الله، ومن الستينيين: رافع الناصري، وضياء العزاوي، وعلي طالب، ومحمد مهر الدين، فبدؤوا بإنتاج فن اتجه نحو فضاءات أكثر حداثة من خلال اطلاعهم على آخر صرعات الرسم العالمي، رغم ان بقايا من عناصر منجزهم ظلت كامنة كأطلال باهتة (لا يمكن محوها)، وخاصة ممن كانوا تعبيريين سابقين مثل علي طالب وهاشم حنون وعاصم عبد الأمير، وحتى الذين اتجهوا بقوة نحو التجريد التعبيري كهناء مال الله وفاخر محمد في تحولاته التجريدية؛ تجد في تجاربهم بقايا واهنة، بينما تحولت تعبيرية الآخرين من الذين اتجهوا إلى التجريد الهندسي إلى إحساس طغى في طريقة تعاملهم مع اللون في مساحات هندسية ليس فيها أية مشخصات كما في التجارب الأخيرة لكريم رسن، ونزار يحيى، وسامر أسامة، وكأنما كان الجميع متفقين على تصريف شحنة التعبيرية بشكل ما ودرجة ما، وهو تصريف لم يكن قادرا على محو السمات التعبيرية كلية فظلت عالقة، ولو بشكل واهن وضعيف ولا يمكن تلمّسه إلا بصعوبة شديدة، وهي بقايا تمثل برأينا الوجه الآخر لما لم يتمكن الستينيون من الإجهاز عليه، وهو الحاجة إلى الجمهور الذي تشده العناصر التعبيرية في اللوحة باعتبارها الخيط الرفيع الباقي الذي يحفظ صلة الرسم بالواقع.



لقد بقي الرسم في مرحلة ما بعد التغيير، ولا اعلم ترقيمها جيليا، محتفظا بذلك التوازن بين الأساليب والعناصر؛ فظهرت تنوعات كبيرة هي في حقيقتها تعكس الوضع الحقيقي للرسم الحديث الذي أجهز على (الأسلوب) الجمعي لصالح (طابع) فردي لكل رسام، كما ان الانفتاح على العالم عبر الهجرات الكثيفة للمبدعين إلى خارج العراق بعد التغييرات التي حدثت عام 2003 وبعد سقوط الهيمنة الأيديولوجية الموجهة للفن التشكيلي وجعلت الفن التشكيلي يتطور بالشكل الذي تقوده إليه محركاته الداخلية (الداخل بصرية).



لقد ظهرت بعد التغيير (هل نسميه المرحلة جيل ما بعد التغيير؟؟، او ربما ما بعد الحروب) تجارب لم تكن تعول كثيرا على الاستنادات النظرية، وبذلك لم يعد احد يعول على العناصر الـ(خارج بصرية)، وبذلك ستجد الأساليب المتناقضة فرصة التعايش معا، ليس فقط جنب بعضها، بل وداخل المنجز الواحد، وهو ما قدمته تاتو باختيارها نموذجا حافظ على توازن مقبول للعناصر البصرية بين التجريدية والتعبيرية؛ تلك هي تجربة الرسام محمد مسير الذي نشرت أربعة أعمال منها مجلة تاتو الثقافية في العدد 7 (15ايلول2009) حيث كانت اللوحات الأربع، حالها حال منجز محمد مسير، تتأرجح بحركة بندولية بين التعبيرية حينا وبين التجريد حينا آخر، فقد كانت تلك الأعمال نموذجا لما يمكن ان يكون عليه منجز محمد مسير حينما تتصالح عناصره مع بعضها وتتعايش (بحرية كاملة) كما تصف ذلك مجلة تاتو نفسها (ص16) الأعمال التي تحتل هذه الزاوية، لقد كان محمد مسير حريصا على ان تنطوي لوحته على عناصر تحافظ هي الأخرى على توازن مماثل لذلك الذي في منجز محمد مسير ككل، فلم يكن الرسام مسير ليتورع عن إقامة معرض ينتمي إلى أقصى درجات التعبيرية يعقبه معرض لا تجد فيه أثرا لمشخّص، بينما هو الآن في (معرضه) المصغر هذا (أربعة لوحات) على صفحات مجلة تاتو تجمع معا كل (تنوعاته) الأسلوبية في لوحات منفردة تنطوي كل منها على ذات العناصر بترتيب يزحزح كل مرة بدرجة طفيفة، ان أي من هذه الأعمال تتشكل من ثلاثة عناصر رئيسة: مسحة من اللون الصافي على مساحة واسعة من اللوحة لا تحتوي أي عنصر آخر، ثم مجموعة من الأشكال الملونة بأشكال تقرب من أشكال المربعات المرصوفة جنب بعضها تتغلغل فيها مجموعة من الخطوط (=الشخبطة) واهم هذه الخطوط الشكل المثلث، بينما يمتد العنصر الوحيد الذي يبدو انه مستمد من مشخصات الواقع وهو يقطع اللوحة باتجاه شاقولي بلون غامق نسبة إلى ألوان اللوحة ويبدو شبيها بكف أو بيد ترتدي كفا من المطاط.



حسنا فعلت تاتو وهي تختار تجربة يمكن ان تقدم باعتبارها نموذجا لتعايش الأساليب ذات الطابع الفردي بحرية في سوق حرة دون مسبقات واشتراطات قبلية.



كتاب عن الرسام (علي طالب)


الموت والحياة ... عناصر ما قبل تجريدية

"وحين يأتيه الجسد/الطيف، ثمة ما يشبه الفاجعة يملأ الغرفة/المسرح، فالحب قد سبقه الموت. وتحولت قصيدة الحب الممكنة إلى قصيدة رثاء" جبرا إبراهيم جبرا

ضم كتاب (علي طالب) الذي صدرت الطبعة الأولى 2009 منه خلال معرضه الأخير الذي أقيم في عمان 2009، ضمن سلسلة صدرت عن العديد من الفنانين العراقيين منهم فيصل لعيبي وهاشم حنون وغيرهما، ان هذه السلسلة التي أصدرت قسمها الأعظم دار الأديب البغدادية من مقرها في عمان، تستمد أهميتها من كونها تحاول ان تعكس الوجه الحقيقي للفن العراقي وللكتاب العراقيين بدرجة ما؛ حيث ان المقالات قد كتب غالبيتها كتاب عراقيون درسوا تجارب مواطنيهم من الفنانين.



1
كتب مقدمة كتاب علي طالب الكاتبة الهولندية انجريد روليما، بينما كتب فصول (نصوص) الكتاب: جبرا إبراهيم جبرا، وشاكر حسن السعيد، وعبد الرحمن منيف، ومي مظفر، وقد أصدرت الكتاب (شركة تُجْ@ أرت، لبنان).
كتبت انجريد روليما في مقدمة الكتاب عما "يحكم حقل الفن بشكل دائم، حيث يتعامل الفن بشكل متواصل مع الموت والحياة من جهة، والحب والكراهية من جهة أخرى... وقد استطاع علي طالب أن يعبر لنا عن مشاعره حول الحب والموت بطريقة شخصية جدا دون أن يتدخل في خصوصياتنا؛ فنقل إلينا في اللوحة الواحدة الشعور بالحب بشكل تدريجي يدعونا إلى الخوض في أعماق لوحاته. وفي تعبيره عن الموت هناك دائما التحول إلى نوع آخر من الوجود. فالحب هو ما يمنحنا الطاقة التي تجعلنا نواصل الحياة ونبعد الموت عنا".
وخلصت الكاتبة والفنانة ومديرة أكاديمية فري للفنون في لاهاي (هولندة) إلى أننا في لوحة علي طالب " نجد أنفسنا بلا دفاعات، فلغة اللوحات تخبرنا بأننا متساوون كبشر، ولكننا لسنا سواسية في اللعبة"



2
وكتب جبرا إبراهيم جبرا بان المرء "يُدهش حين يرى لوحة لعلي طالب يكون فيها وجه الشخص المرسوم مستديرا بكامله نحو المشاهد.... فعلي طالب من دأبه أن يرفض مواجهتنا بشخوصه، نحن المتعاملين معهم: إنه يجعلهم يأتون جمهورهم مواربة، فلا يرى المشاهدون منهم إلا البروفيل" في محاولة لعزل ممثليه عزلا يقتضيه الموقف الدرامي رغم أن الفنان يجعلنا شهودا عليها. انه "بروفيل غامض أساسا،ً لأن احتمالات المعاني التي شحنه بها الفنان كثيرة ومتداخلة... فهو وجه وقناع معا:ً هو حقيقة واقعة، وهو رمز لشيء ما وراء هذه الحقيقة" في واقعة أقرب ما تكون إلى المأساة التي يعبر فيها الفنان عن وضع إنساني هو في صلب الدراما المتكررة في لوحاته. وهي دراما مقلقة، تثير تساؤلا مستمرا،ً وتطالبنا بإعادة النظر في أعماقنا وتجاربنا رغما عن أنفسنا..
لقد اعتمد جبرا إبراهيم جبرا على المنهج النفسي بآلياته القديمة التي تدرس الجوانب النفسية لشخصية المبدع لا الجوانب النفسية للمبنى المتحقق للأثر الإبداعي.

3
لقد كتب شاكر حسن آل سعيد نصا بعنوان (جماليات رسوم علي طالب) بحث فيه عناصر لوحة علي طالب: الرأس والكف والأصبع باعتبارها "الوحدات الأساسية في رؤيته الفنية"، وإيمان الكاتب "بأننا من الناحية الجمالية (الأسثاتيكية) لا نستطيع أن ندرك همومه الفنية بغير
هذا التأصيل الإنساني، ولسوف يختصر في بعض لوحاته الأصبع إلى إنملة أو العين إلى دمعة"، وبذلك يكون علي طالب برأي ال سعيد "يحاول أن يحقق واقعه الذهني التجريدي محيلا إياه إلى (تجريدية ما بعد الذات) أو بعبارة أخرى إلى (واقعة فنية) ما بعد، تشخيصية (ذلك أن ثمة نقطة ما بين التشخيص والتجريد كهذه النقطة) لابد من عبورها وباستطاعة أي متأمل الإمساك بها تماما،ً كالنقطة المعروفة في علم البصريات (بالبؤرة) وهي التي تفصل ما بين الرؤية الطبيعية والرؤية المقلوبة في عملية الإبصار..( ولنقل إن الفكرة التجريدية عند علي طالب تستبطن وجودها التشخيصي، ويصح العكس، أي أن الظهور التشخيصي لديه يستبطن وجوده التجريدي".. وهذا الظهور التشخيصي يتمثل بالرأس المقطوع الذي يسميه (الرأس المنفرد) والذي ظل راسخا في مخيلته منذ طفولته.
لقد اعتبر آل سعيد البروفيل، أو الوجه الجانبي، الذي هو من موتيفات علي طالب المتواترة طوال ربع قرن، مليئا بغوامضه الموحية، ومليئا بأسرار مأساته، مسحوقا،ً متهما،ً رافضا،ً مؤكدا حضوره العنيد على نحو ما في هذه اللوحة أو تلك، كعنصر من عناصرها، ويخلص آل سعيد إلى ان "المتلقي أمام هذه الأعمال في غمرة ذلك الغموض الغني، الواقع أبدا بين منطقتي الوعي واللاوعي، ليحمل بعضا من توتراته، بعضا من نشواته وعذاباته، إلى حيث تغتني تجربة المتلقي بمحاولة الفنان السيطرة على تجربته، أسى وفرحا،ً كشفا وعمقا،ً في تضاد جاد الوقع في النفس، وقوي الفعل في الذاكرة".
ويؤكد آل سعيد النزوع التجديدي للفنان علي طالب الذي اشترك مع عدة فنانين شباب عام 1964 في تأسيس جماعة المجددين الفنية التي كان لها فضل تمثيل الفكر الفني في العراق في الستينات، كموجة تالية لموجات الجماعات الخمسينية. فهي بمثابة ذلك الانفتاح العالمي نحو الفكر التكنوقراطي حينما نادى المجددون (بالرؤية الجديدة).

4
وقرر عبد الرحمن منيف في نصه الذي بعنوان (علي طالب.. وحالة التساؤل) "ان المصورين الذين يطرحون، من خلال العمل الفني، أسئلة على المشاهدين، قليلون؛ لأن السائد أن يكون العمل الفني إجابة على تساؤل، أو تحقيقا لرغبة وطموح، أي أنه جواب وليس سؤالا.ً هكذا يفعل أغلب الفنانين، وهكذا تعود المشاهدون". فكان علي طالب يحرص على (إيصال رسالة)، ومن هنا كان علي طالب يعتبر عنوان اللوحة حلا لإنقاذ موضوع اللوحةً ليضمن عدم إمكانية وقوع خطأ في قراءة اللوحة!.
ومن أجل الدخول إلى عالم علي طالب يقترح محمد منيف "أن نأخذ بعين الاعتبار طبيعته الخاصة وتكوينه، ثم المرحلة التاريخية التي عاش خلالها ... وربما تكون مدينته الأولى، البصرة، عاملا،ً فإن هذه المدينة نهاية الصحراء وبداية عالم المياه الفسيح، بكل ما يعنيه ذلك من رغبة اكتشاف، الآخر، ورغبة المغامرة، والوصول إلى الأماكن القصيةّ. فإذا أضيفت: الذاكرة التاريخية للمكان، والمتمثلة بقصص المغامرات والعجائب (التي) يرويها المسنون، والتي ترد في الكتب التي خلفها الأقدمون، فعندئذ تكون الحصيلة نداء لا يهدأ يدعو إلى السفر والمغامرة، ومعهما التساؤل عما وراء هذه المياه من عوالم وغرائب .... فقد كانت البصرة تاريخيا،ً المدينة التي تستقبل وتودع باستمرار، إذ بمقدار ما تغري بالسفر وركوب البحر إلى الأماكن البعيدة والمجهولة، فإنها الميناء الذي يستقبل الآتين من كل الأصقاع .... وهذا ما يمنح أبناءها نكهة مختلفة"
لقد اعتبر عبد الرحمن منيف الرسام علي طالب فنانا ظل مثابرا على البحث والتجريب؛ فقدم معارض متتالية، فردية وجماعية، ولم يكن مكتفيا،ً إذ واصل عمليات البحث عن احتمالات جديدة؛ فكان الوجه الجانبي "مصدر اكتشافات لا تنتهي، وعاملا محرضا للفنان لكي يبحث ويتقصى حالات واحتمالات دائمة التجدد" فإذا كان من دأب هذه الرسام أن يصور شخوصه مواربة، فإن صور هذه المرحلة جانبية غامضة، يضاف إليها القناع لتبدو كثيمة .... في تصوير للمفارقة الأليمة بكل سخريتها الجارحة، التي يعبر فيها الفنان عن الوضع الإنساني.

5
اعتبرت مي مظفرّ، في نص (علي طالب: اللغز والرمز)، ان جوهر الرؤية عند علي طالب (طقس غامض يتوخى السريّة والتكتم)، ولعبة ملغزة تنبع من عوالم داخلية ما تكاد تفصح حتى تتكتم، فكان التداخل ما بين الظاهر والخفي سمة لصيقة بفن علي طالب ظلت تلازمه على مدى السنوات، وإحساسا عميقا بالعزلة والتوحد.
لقد كان التمرد على القيود، والنزوع نحو التغيير من السمات التي تطبع المبدعين العراقيين، وقد تجلت على نحو خاص بالفنانين التشكيليين والشعراء. كان هذا التمرد قد بلغ ذروة اندفاعه وتوقه للتجريب، وتحريك الجمود الذي خيمّ على الأجواء الفنية بعد وفاة جواد سليم في مطلع عام 1961 ،فالاتجاهات الحديثة، والإنعتاق من القيود، والأشكال التقليدية، مع حرية البحث والسعي للنهوض بتركة جواد سليم ....
لقد تحولّ الرأس ، وهو الثيمة الرئيسية عند علي طالب، إلى صخرة حفُرت فوقها خطوط عميقة وملامح تاريخ الأرض برمتها، لقد تحول الإنسان إلى رأس، وتحول الرأس إلى حجر.
ولكن حينما تحول الرأس، الذي هو خلاصة الإنسان، إلى حجر، تحولّ الحجر بدوره إلى إنسان.
فكان الفنان يوظف الخطوط التي تشقق السطح مكونّة صورا وعلامات وأرقاما، هي رموز ذات علاقة بمرحلة مبكرة من تاريخ الفرد.
كانت عملية الرسم عند علي طالب أشبه ما تكون بالممارسة الذهنية، وكان المجاز لديه وسيلة فعاّلة في عملية التكوين، فهو المعبر الذي يتم من خلاله التحولّ تحت تأثير الضوء واللون.
وقد كانت البصرة وأجواؤها الأدبية، وهي أجواء مشبعة بحب المعرفة والإبداع،، كفيلة بأن تعمقّ لدى علي طالب نزعته الفكرية التأملية وتدخل في صلب تجربته لتغذيّ تمرده وتطورّ بحثه الفني.
كانت أعمال علي طالب مقلقة حقا، بل محيرة بقدر ما هي مثيرة للجدل. إنها تتأرجح بين التشخيص والتجريد، تتضح مرة وتغمض مرات، فتترك المشاهد معلقا بخيط من أمل للتوصل في توغله إلى الإمساك بملامح تظل أبدا هاربة، ولعل وجود هذا الشيء الهارب في اللوحة ليس دخيلا على فنه بقدر ما هو أصيل فيه، إنه جوهر كل موضوع يقترب منه.
وقد تجسدت المشاهد ذات الطابع الدرامي، بشكل يشعر فيه مشاهدو أعمال هذا الفنان، أي صراع يخوضه مع شخوصه، وأشكاله، وفضاءاته. ومن يقترب من عناصر تكوينه اقترابا أشد، يحس بالنار المستعرة التي انعكس جمرها على سطح اللوحة. فإذا كانت هذه الشعلة حافزا رئيسيا، ربما، في الإبداع عموما، فإنها لدى علي طالب السر الكامن وراء القوة التعبيرية التي تفرض نفسها وتشكل عالمها الخاص.
يختار علي طالب للوحاته عموما أسماء لها طابع أدبي، بل إن تكوينات لوحاته ذات مسحة سردية تغري المشاهدين بالغوص في متاهات التأويل فتلهيهم، ربما، عن التمتع بالجماليات البصرية المؤثرة للوحة والمهارات التصويرية للفنان.



الأربعاء، 20 يناير 2010

معرض النحات العراقي إياد القرغولي في استراليا


علامة المادة الأولى




خالد خضير الصالحي



البصرة





1
أقام النحات العراقي،المغترب في استراليا، إياد القرغولي، أول معرض شخصي للنحت يقيمه في استراليا، ضم منحوتات مشغولة بالبرونز، تلك المادة الأثيرة لديه، والتي انشغل عنها أحيانا إلى منحوتات نصبية كبيرة الحجم مشغولة بالقنب والقار... وقد انشغل النحات القرغولي منذ بداياته الأولى بالإنسان شكلا وموضوعا لمنحوتاته، فشكّل النحت ما افتقر إليه منجز الرسام في لوحاته أي الشكل الإنساني.
لقد ظل النحت، فترة طويلة مقارنة بالرسم، الفن الأكثر ارتباطا بالمشخصات، فلم يتحرر منها إلا بدرجة ما وفي فترة متأخرة ترقى إلى النحات البريطاني هنري مور، بينما كان الرسم يمارس منذ القدم ضروبا شتى من أظهار شيئية المادة والاعتماد على طاقتها التعبيرية إلا بدرجة اقل بكثير من الرسم، حيث لم يظهر في الفن العراقي نحات (تجريدي) بالمعنى الذي نقصده هنا إلا عبد الرحيم الوكيل، وربما ظهرت بعض المحاولات هنا أو هناك فلم تشكل تيارا واضحا له سماته الواضحة.

2
كتبت مرة ان منحوتات البرونز مادة مخادعة أو ذات قدرات استثنائية من أهمها قدرة الإبقاء على آثار المادة الأولى، أو روح المادة الأولى التي صنعت منها المنحوتة، هذه الروح التي تماثل ما سبق وكررته مرات بشان بقاء العلامة الأولى المشخصة في الرسم كامنة في بنية اللوحة مهما أوغل الرسام في إجراء الأسلة التي تبدو وكأنها تغير من طبيعة تلك العلامة الأولى باتجاه محوها؛ مما يجعل روح العلامة الأولى باقية لا يمكن محوها من اللوحة..، ففي المنجز الذي قدمه النحات العراقي إياد القرة غولي في معرضه المقام في استراليا مؤخرا فقد ظلت روح المادة الأولى (=الطين) كامنة في المنحوتة تظهر من خلال آثار أصابع النحات التي مازالت بقاياها مؤثرة في سطح البرونز، وكذلك آثار أدوات النحات واضحة كبصمات على جسد المنحوتة، فيكون التمثال مصنوعا من البرونز ولكن بروح مادة الطين.

3
يبدو النحات القرغولي وهو ينحت كأنه يتبع إليه النحت التجميعي حيث تضاف المادة إلى الفراغ، عكس النحت بالحذف التي يحذف الفراغ فيها من المادة، ولكن إياد القرغولي في إليته تلك كان يمارس في الحقيقة النحت التجميعي بروحية النحت بالحذف فهو يضع الأقل القليل من المادة التي تحفظ للمشخص أهم سماته فلا يتبقى من ذلك المشخص إلا القليل، رغم حرص النحات ونجاحه في أحيان كثيرة، على ان يجعل ذلك المشخص (الكائن) يعبر عن نفسه ما يريد، وبأقل قدر من المادة المتبقية والضرورية لذلك، فقد كان الكائن وعبر معارض القرغولي المتتالية يتجه صوب مزيد من الاختزال الذي لا يبقي إلا جوهر الكتلة الضروري لبقاء ذلك الكائن.

4
من السمات التي يتفرد بها معرض القرغولي الأخير هو انه نحت (يرسم) شخوصه بالخطوط الرفيعة من المادة التي بقيت للكائن، فظهرت المنحوتة وكأنها رسم كاليغرافي، خطوطياً يستخدم اقل ما يمكن من الخطوط كذلك لإظهار الكائن وتفاصيل الموضوع الأخرى، وهو ما كان يفعله بيكاسو في الرسم التخطيطي، وما كان يفعله جايكوميتي في النحت كذلك، رغم ان حركات الشخوص عنده تمتاز بكونها حركات عنيفة، فهو ينجز الكائن في ذروة حركته وانتقاله في المكان؛ وبذلك يتحول النحت إلى اعتماد قوانين اللقطة الخاطفة التي تلتقطها الكاميرا بسرعتها الخاطفة رغم ان محيطها مرتب ومخطط له بعناية هذه المرة.

5
يطر إياد القرغولي كائنه، كما كان يفعل الرسامون: فرنسيس بيكون وكاظم حيدر ومحمد مهر الدين، بإطار يطره ويحاول ان يقنن حركته وتوقه إلى الحرية فيبدو أحيانا وكأنه مسجون في قارورة يسبح في مياهها كما تسبح اسماك الزينة في وعائها وكما يطير العصفور في قفص... إنها منحوتات تلامس التوق الأزلي للإنسان إلى الحرية... وهيمنة الضغوط الكابحة لحريته وتوقه إلى الانعتاق..

6
يهندس القرغولي منحوتاته وكأنما هي ماكيتات (مصغرات) ستتخذ عند التنفيذ أحجاما نصبية ضخمة لتحتل إحدى الساحات العامة بأحجام تأخذ عدة أمتار ارتفاعا ؛ وبذلك يكون على المتلقي ان يضع في حسابه هذا الأمر كبعد إضافي يسبغ على اللوحة طابعا دراميا كامنا..

7
عندما يترك النحات علامات أصابعه على المنحوتة فإنما هو يعاملها بأقصى ما يستطيع من الإحساس المتيريالي (الإحساس بشيئية المادة) واضعا المتلقي أمام آثار المادة الأولى للمنحوتة (الطين) رغم ارتدائها الآن ثوبها الآخر بعد الصب (البرونز)، إلا انه يترك مخلفات أخرى مناقضة ومربكة لعملية التلقي برأينا تلك هي العناوين النثرية والسردية التي هي موجهات قرائية خارج متيريالية...










القاص نزار عبد الستار في مجموعته القصصية (رائحة السينما)







السرد.. بطريقة كولاجية



خالد خضير الصالحي


1
صدرت (رائحة السينما) عن دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد في منتصف عام 2002، فعانت مما عانت أمور كثيرة في حياتنا الثقافية حينما اكتسحتها رياح التغيير التي اجتاحت قوتها المنفلتة أمور حياتنا كلها؛ فظلت (رائحة السينما) مكدسة في مخازن دار الشؤون الثقافية العامة حتى الوقت الحاضر، ربما بسبب اعتبار القادة الحاليين للثقافة بأنها من مخلفات العهد السابق؛ "فبدت العديد من الكتب التي صدرت عن دار الشؤون الثقافية في تلك السنة الحاسمة وكأنها لم تصدر، واستفاق المثقفون، بعد سقوط الديكتاتورية، على كتب جديدة، وتغير مزاج القراءة نفسه. ولم يبد غياب كتب معينة من واجهات المكتبات أو أسواق الكتب المعتادة مشكلة إلا لأصحابها، لأصحاب هذه الكتب التي صدرت ولم تصدر"، ثم صدرت مجموعة (رائحة السينما) عن دار أزمنة في عمان/ الأردن، وضمت سبع قصص هي: (أبونا، رائحة السينما، صندوق الأماني، بيت الخالات، تماثيل، شمورامات وقبل ان يذهب إلى مصيره)...

2
ينتمي القاص والروائي نزار عبد الستار جيليا إلى جيل التسعينيات من القصاصين العراقيين، ولكنه ينتمي، فيما يخص استراتيجه السرديّ الذي يتبعه، إلى نهج اتبعته، في السرد العراقي، مجموعة من القصاصين الستينيين حاولوا تطوير السرد العراقي مستعينين بآخر كشوفات القصاصين العالميين المحدثين: كتابات بورخس وايكو، والواقعية السحرية لماركيز وغيره من كتاب أمريكا اللاتينية، فجاء اهتمام نزار عبد الستار بالمثيولوجيا الرافدينية والأسطورة، والموروث بأشكاله المتحققة في النص القصصي والروائي، فكانت زحزحة الثوابت وقواعد المنطق من خلال الانتقالات المكانية والزمانية، غير المبررة منطقيا أو سببيا، مما يعطي القص طابعا فنطازيا سحريا، تجعل القاص متتبعا لخطى مجموعة من هؤلاء القصاصين الذين استدرجوا التاريخ إلى أحضان السرد بطريقة سحرية ومنهم: محمد خضير ومحمود جنداري، ولطفية الدليمي، ومحسن الخفاجي ...

3
يقول الراحل شاكر حسن آل سعيد، في كتابه (أنا النقطة فوق فاء الحرف، بغداد، 1998): "ان تأليفي يتم على وفق تصميم مسبق يعتمد على مبدأ (التوليف) بين عدة محاور، متنوعة الهوية، وان كانت إلى حد ما موحدة التوقيت، ذلك أنها لا تضم (جنسا) واحدا من التأليف من حيث الموضوع ولغة التعبير وأنا اعتمدت على مبدأ (التجميع) "

4
كانت الوحدات السردية المكونة للقصة، عند نزار عبد الستار، تتجمع أحيانا بطريقة كولاجية تتوفر على شيء من الحداثة السردية، بهدف استكمال وحدة التأثير، كجزء من الخلخلة، أو الزحزحة التي يجريها نزار عبد الستار في قواعد وتقنيات السرد التقليدية، وهذه الكولاجات تبدو واضحة في الحلول محل الجوهر الحكائي لقصة نزار عبد الستار، كحكاية قصة (رائحة السينما) التي تم تمزيق أوصالها من خلال مجموعة من اللقطات التي تتجمع تأثيراتها كالينابيع الصغيرة، ونحن نعتقد ان بنيتها السردية غير التقليدية هي التي دفعت القاص إلى اختيارها عنوانا لمجموعته القصصية بسبب تقنيتها الكولاجية التي تفارق بشكل اكبر من بقية القصص، للنسق التقليدي للقص.

5
غالبا ما يضع نزار عبد الستار شخصياته تحت رحمة سارد عليم بدواخل الشخصيات، وقادر على الحديث عن كل الأزمنة والأمكنة والأحداث، فهو يستمد معرفته تلك أما: من كونه مشاركا عارفا بدقائق الأحداث، أو شاهدا عليها بعدما حدثت أمام عينيه فهو بالنسبة لها الشاهد الثقة، أو من قدرته على إجراء حفرياته متعددة المستويات التي يجريها سواء داخل الشخصيات المسرود عنها، أو من ذاكرة الشخصية الساردة ذاتها، أو من حفرياته داخل النصيات (السرديات)، الشفوية أو المدونة: تاريخ الحوادث، والأماكن والشخوص، فهو باختصار كما يصفه الكاتب حميد حسن جعفر "شخص قادر على ان يضع يده على جغرافيات واسعة وعميقة وعلى تاريخ يعود لأشخاص وجماعات وأفراد وسلالات" (تاتو، 15 أيار 2009).

6
لا يبحث نزار عبد الستار عن بطل نمطي يتشدق بنقل (ثقافة) المؤلف، وينطق بلغة ذلك المؤلف بل يختار أبطاله من الهامش الذي قصمت الحرب ظهره، فكان بطلا يتحدث بلغته الشخصية، وهمومه، بعد ان رفع المؤلف يده عنه، وتركه يعيش مصيره، ويعبر عن ذلك المصير من خلال سرده هو، أو من خلال سرد الآخر عنه، فمثلا "في قصة (صندوق الأماني) يقترح القاص بطلا نموذجيا، قادرا على تجسيد الخصائص الفنية في قص نزار عبد الستار، وهي الشخصية المهمشة، المسحوقة، ولكن (المتميزة) في الوقت نفسه ...... والذي يتركه القاص ليحكي بأفعاله كل الأفكار التي يريد ان يوصلها إلى المتلقي، وتلك واحدة من أهم صفات القاص الجيد الذي لا يتحدث بلسان أبطاله، ولا يقوّله ما يريد قوله، بل يترك ردود أفعالهم تكشف عما يريد هو، ان يقول".

7
يتلاعب نزار عبد الستار بزمن السرد في القصة الواحدة طارحا أحيانا أنماطا من الزمن من الصعب تصنيفها في اللغة العربية، فقد كانت قصة (أبونا) نموذجا لهذا التلاعب الذي كان ناتجا عن وعي مأزوم لعائلة تعيش على ذكريات، ربما تكون ذكريات موهومة، أو ناتج اضطراب عصبي واضح، وربما وراثي على ما يبدو، فجاء السرد مصابا هو الآخر باضطراب يعطي صورة دقيقة عن الخلل في وعي تلك العائلة التي اختلطت الحقائق عليها، فاضطرت إلى نقل احد أبنائها إلى المصح العقلي دونما عودة: "عرفنا بعدها ان الشرطة قبضت عليه لقيامه بفعل فاضح، فقد تعرى تماماً وتسلق تمثال إبريق شجاع بن منعة الذي أمام مبنى البلدية وراح يرقص بجنون. تم ترحيله إلى مستشفى العاصمة. رافقته أمنا في تلك الرحلة لكي تتعرف على الطريق الذي ستسلكه بعد ذلك في يوم الاثنين من كل أسبوع ولمدة تسع سنوات ، وفي محطة القطار بدا مقمط الجسد ، محبوس الروح ، تسبح الأسئلة في بياض عينيه وهو ينظر إلينا باتساع يريد ان يشبع وكأنه يعرف بأنه لن يعود".
ففيما يبدو ابتداء القصة وكأنما يوحي بالزمن الحاضر "أقفلت أمنا الباب لأننا لا نعرف كيف نعود إذا خرجنا. أدارت المفتاح في القفل الأسود وأخرجته بالخفة نفسها التي تعيد بها للمطبخ بهاء ما قبل الأكل، وبالتدبير الذي يليق بأم بيت مثلها"، يتحرك الزمن إلى الخلف شيئا فشيئا حينما "فعلت هذا بنية لم نكتشف قسوتها إلا بعد ان نسينا وزنه والمكان الذي كان يوضع فيه. احتفظت به إلى زمن أجبرنا على ان نألفه كما ألفناها، وان نبر بتبعيته لها كعضو تأنث بالتوصيل ، أو كشيء كنا نلاعبه في مرحلة القماط ، نعضه ، ونحك به لثتنا في موسم الأسنان. علمنا حرصها ان ننظر إليه وهو في يدها كأصبع سادس نبت لها لكي تمسكنا بقوة حتى لا نضيع منها كإخوتنا الذين ذهبوا ، وكأبينا الذي لم يعد" حيث يتبين القارئ شيئا فشيئا ان زمن السرد يجري بعد سنوات من الحدث، وربما يمتد إلى أمد عقدين من الزمن " كنا نحاول إخلاء أجواء تحركاتها الصباحية. نتركها تمسح وتكنس وتقترب من صورته (الأب) التي في صدر الإيوان. كانت تلعن الشيطان ومخاطه ، والعناكب ولعابها وهي تدنو من ضوئه القديم وأناقته المحنطة. تضبب الزجاج ببخار أنفاسها القلبية لتعيد لأنفه وشفتيه وحاجبيه وشعره المدهون بريقهم الطبيعي وهو أمام عدسة مراد الداغستاني وكنا نساعدها فنفرغ ذاكرتها في طقوس حلاقة ذقوننا وبقياسات عظمنا الخشن. نتقاسم ثيابه الخارجية والداخلية وأحذيته وأربطة عنقه ومقادح الكاز والخواتم والأحزمة والدشاديش ولم نترك لها غير تلك الاستذكارات السرية التي كانت تجعلها تنثر ابتساماتها المترملة في فراغها الواسع".

 

الخميس، 14 يناير 2010

فيصل لعيبي ومظهر احمد في غاليري البارح في البحرين



فيصل لعيبي ومظهر احمد في غاليري البارح في البحرين
5 يناير(كانون الثّاني) - 5 فبراير(شباط) 2010


معرض (العراق: وجهان)..


                 إعتراف بتعدد القراءات




خالد خضير الصالحي
1
لا يبدو معرض (عراق: وجهان) اختيارا بريئا لرسامين اثنين من رسامي جيل السبعينات (جيل المنافي: نعمان هادي، صلاح جياد، فيصل لعيبي، مظهر احمد، عفيفة لعيبي..... ) هما الرسامان: فيصل لعيبي ومظهر احمد اللذان يبدوان من الوهلة الأولى وكأنهما يقفان على طرفي نقيض: فمن طرف فيصل لعيبي تتوسل واقعيته بنقيضين هما: الفن الكلاسيكي الأوربي بقانونينه للمشخص: التشريح والمنظور، وبالرسم الإسلامي بقوانينه المناقضة لذات القضية: الافتقار إلى المنظور والتشريح كما هو في الفن الأوربي، فكان الرسام لعيبي يتعامل مع هذا الأمر بهدي من (تعاليم) جماعة بغداد للفن الحديث (التعبير عن الروح المحلية بقوانين اللوحة المسندية) ووفق أسلوب باذخ بالتفاصيل التي تم كبحها في هذا المعرض خاصة في خلفية اللوحات التي بدت احادية اللون وباردة امام ازدحام تفاصيل الشخوص، أما من طرف مظهر احمد فتجربته تجريدية مقتصدة في كل شيء: الألوان والخطوط والسطوح، إلا ان جمع هاتين التجربتين بدا لي وكأنه محاولة جمع التجريد والتشخيص عبر اسلوب التعامل مع أشكال الواقع، فبدت التجربتان وهما مجتمعتان معا كتجربة بيكاسو عندما إعاد رسم لوحات كلاسيكية مشهورة بأسلوب اختزالي تجريدي يومئ من بعد للمشخص، فبدت لوحات مظهر احمد كأنما هي إعادة لرسم المشخصات العراقية التي قضى فيصل لعيبي أكثر من أربعة عقود وهو يرسمها، ويعيد رسمها باعتبارها الموضوعات الأثيرة لديه، بينما يحاول مظهر احمد التخلي عن التجريد اللامشخص الذي شكل تجربته طوال أكثر من ثلاثة عقود، باتجاه تجريد شكلي تتراءى فيه ظلال شواخص الواقع مرسومة بأسلوب طفولي من خلال شخابيط حرة، وكأنما قد نفذت بالقلم الرصاص على ورقة بيضاء وليس على لوحة زيتية أو أية مادة تقليدية للرسم، وبذلك اوجد الرسامان أرضية مشتركة لالتقائهما في معرض واحد هو الاعتراف بتعدد القراءات للروح المحلية من خلال طرح مقترح تجريدي جديد لها متمثلا بتجربة مظهر احمد... وتلك دلالة إلى ان الروح المحلية ليست قضية موضوعات فولكلورية وإنما هي مظاهر بصَرية، وان كلا الرسامين: مظهر احمد وفيصل لعيبي قد تناولاها التناول البصري الذي يقترحانه شخصيا ولم يكن للموضوعات الخداعة الأمر الحاسم الموهوم في تجربتيهما.




2
ان أهم من كتب عن مظهر احمد هو الكاتب الرسام علي النجار الذي أوضح طبيعة أعماله في موضوعاتها "كونها تشير ولو ببعض من الخفاء إلى مرجعية مصادرها البيئية(العراقية) الأولى مثلما تشير لانتمائها لبيئات أخرى، فهي بهذا المعنى جزء من سيرة تعلي من الأثر البيئي بإيحاءات كونية... وان بدت مغرقة بوسائلها ووسائطها التقنية"، وإنها من ناحية عناصرها الشيئية المادية فهي تعلي من شأن "الأثر الخطي الحاد الجريء والمطاوع في رسوماته الكرافيكية الورقية بالطباعة القماشية البدائية العراقية المحلية وبالخط الكرافيتي العربي وقوة وثبات خطه. فسنجد إشارات واضحة لهذه المقارنة. فرسوماته تتشكل و تتمظهر خطوطا جريئة ومطواعة لكنها تتعرض لإرادة الفنان التفكيكية كتلا جسدية بقدر ما تفقد الكثير من أجزائها تشير إلى محنة فقدها في وسط حاضن هو فضاء مفتوح على احتمالات احتضان معادل مناقض لقسوتها. فضاء غالبا ما يتكون من عدة طبقات احفورية شفيفة تبهر النظر لرقتها"، وان كل ذلك لم يمنع ان يكون "الجسد الإنساني المساحة المفضلة للفنان لأجراء تجاربه الفنية ضمن حيز محيطه الكفافي في أعماله الكرافيكية التجميعية. لكنه جسد مطاوع للحالة التعبيرية التي يضمر تشكيلها حركة متزامنة متتابعة أو منفردة. وهو إذ يختزل خطوط هذا الجسد لتوائم حالته الجديدة التي لا تخفي غالبا كم الانفعال وتقنينه بما يناسب هذه الحركة".

3

وصلني من الرسام مظهر احمد ملف (بي دي اف) باللغة الانجليزية عن معرضه المشترك مع الرسام فيصل لعيبي، وقد وجدت فيه مدونة لغوية مرفقة لم اعرف كاتبها، لكنها، برأينا، تنطوي على أفكار مهمة أحاول تلخيصها وترجمتها إلى العربية بتصرف، وأضيف إليها رأيي الشخصي بتجربتهما الفنية.

تقول المدونة: "يأتي معرض (العراق: وجهان) في غاليري البارح في البحرين كأول تقديم لأثنين من أكثر الرسامين العراقيين شهرة، وبعد ستّة وثلاثين عاما سنة بعد هجرتهم من وطنهم لم يدركا كل طموحاتهما التي كانا يحلمان بها، لكنهما استطاعا ان يخلقا أسلوبا شخصيا متفردا ومختلفا عن الفنّ الأوربي.

لقد استبد صدام حسين، في سنوات هجرتهم، فادخل العراق في الحرب العراقية الإيرانية وحربي الخليج مما سبب في هجرة جحافل من المثقّفين العراقيين، والفنانين، وأفراد بارزين آخرين، ولم يتمكن لا فيصل لعيبي ولا مظهر احمد من العودة إلى وطنهما من1 خروجهما من العراق، ولكنهما كانا يبديان أسلوبا متفردا ومستقلا كتعبير عن رغبتهما في المشاركة في التغييرات المهمة تحدث في عالم الفنّ العراقي.

لقد وظف هذان الفنانان فنّهما لمتابعة أحلامهما الفنية لبلدهما، فصار فنّهما سفيرا يمثل العراق في الأوساط الفنية الدولية، وجامعي الفنّ والمثقّفين.

(العراق: وجهان) ليس إلا منتخبات من اللوحات التي تلخّص النظرة المميّزة لفيصل لعيبي والروح الجريئة لمظهر أحمد؛ فكانت النتيجة مجموعة غير عادية: واقعية حديثة، وفنّا ثنائي الأبعاد حديث يتضافر أسلوبان مختلفان التي تعايشت لثلاثة عقود ولكن بهدف واحد هو إعادة تعريف العالم بتقاليد العراق المعاصرة والطليعية.

كان فيصل لعيبي، وطوال أكثر من عقود أربعة ماضية كان حريصا ان يطرح نفسه كأحد الرسامين العرب القلائل الذين انتهجوا الواقعية الحديثة التي تعتنق تقاليد عراقية كعمق إلهامي لها، فكانت أعماله تعيد إنتاج مشاهد عراقية نموذجية تصور الواقع الاجتماعي، والثقافي، والتأريخ الملحمي الصاخب لشعبه: فكان يسافر إلى كل أنحاء العالم ليعرض صور بغدادييه المشهورين، ويقدم المحاضرات عن الفنّ العراقي والعربي المعاصر.

لقد حصد مظهر احمد خلال أكثر من ثلاثة عقود العديد من الجوائز الدولية، وكانت صوره مقتناة في العديد من بلدان العالم، وهو ينتهج نهجا تجريديا في تراكيب متحررة وفي وسط ثنائي الأبعاد، ومن خلال مزيج مثير من العناصر التي أتاحت له تحقيق سمعة قوية.

يحتل فيصل لعيبي ومظهر احمد موقعا متفردا ضمن جيلهم ليس فقط بسبب نجاحهم، ولكن بسبب مثابرتهم وعنادهم في الدفاع عن الفن التشكيلي العراقي، فكان هذا المعرض جذّابا ثقافيا؛ حينما عرضا العراق: من خلال وجهين هما الجسر الهامّ الرابط بين الواقعية الحديثة جنب الحداثة في عصر الفراغ في التأريخ العراقي.

يتيح الرسام مظهر في أعماله حرية العبث الطفولي من خلال تقنية طفولية كاليغرافية فيقوم بدمج تراكيب متنوعة في وسط ثنائي الأبعاد بلغة بصرية تم استئصال كل الزوائد النثرية وأهمها نمط السردية التي أثقلت افن قرونا طويلة؛ فكان استراتيجه الذي لازمه طويلا ان يتم بطلاء اللوحة باللون الأبيض؛ فيشكل خلفية تتقدمها عناصر اللوحة وذلك بهدف المحافظة على روح الورقة البيضاء التي يشتغل عليها عليها الطفل عند انجاز شخبطاته الأولى".