الاثنين، 18 أبريل 2022

تجربة الفنانة العراقية عفيفة لعيبي ...

 

تجربة الفنانة العراقية عفيفة لعيبي ...
خالد خضير الصالحي

لم تكن الرسامة عفيفة لعيبي لتعير، طوال تجربتها الماضية، أي جهد لإجراء تغييرات في قوانين التشريح، والمنظور الكلاسيكية إلا نادرا، تلك القوانين التي كرس أخوها الرسام فيصل لعيبي جهده لها من خلال ما اقترحه من تحويرات واعية وجريئة كان يجريها على أشكال شخوصه، وكذلك كان يغير بها قوانين المنظور التي يعالج بها مشخصاته الأخرى ويعالج بها الفضاء ووجهة نظر المتلقي تجاه كل جزء من أجزاء اللوحة، بينما لم تكن عفيفة لعيبي لتعير كل ذلك أدنى اهتمام، فهي ببساطة كرست جهدها، متتبعة خطى رمبراندت ، في سبر أغوار شخوصها مع استراتيجية تقليلية لا تبقي إلا القليل من عناصر اللوحة التي تحيط بالشاخص الرئيسي، ولهذا كان الظلام الأسود حلا تقنيا يلف أجواء اللقطة فيفرض منطقه ألتقليلي، فتبدو نساؤها وهن يغرقن في عالم موحل من الظلام والمياه الضحلة.

ولكننا في السنوات الأخيرة لمسنا تغييرين أساسيين هما: نظرة الشاخص المتجهة إلى الخارج (=نحو المتلقي) والتي تعني، محاولة لردم الهوة مع الخارج(=خارج اللوحة وخارج النفس)والتي قد تكون تعبيرا سيكولوجيا لبداية مرحلة جديدة من (التصالح) مع العالم الخارجي من قبل هذا الشاخص (امرأة غالبا)، وهو يحتل صدارة المشهد وربما هو محاولة من الرسامة ذاتها للتصالح مع الواقع. وكان الأمر الآخر المهم هو انحسار الظلام من اللقطة واكتساح الضوء لها مما كشف عن الموجودات التي ظلت، طوال المدة الماضية، خبيئة، فبدأت بالظهور في المشهد الخلفي للقطة مدنا كانت غارقة في ظلام أطلنطي قبل ذاك، فظهرت معالمها الآن، وهو ما فرض علاقات جديدة بين موجودات اللوحة، علاقات ذات طابع نفسي وشكلي معا فبدأت اللقطة تأخذ طابع المكان المؤسس وفق ذات الأسس التي تحكم اللقطة الفوتوغرافية ذاتها.






 الرسام – الكاتب شاكر حسن آل سعيد ..

إعادة تأسيس الصلة بين:

 اللوحة (كواقعة مادية) وأسانيدها التدوينيه

خالد خضير الصالحي


كان شاكر حسن آل سعيد رجلا قلقا لا يستقر، ولا يهدأ لحظة عن إعادة قراءة ؛ ثم إعادة كتابة خطابه النقدي ، ومنجزه الفني باستمرار؛ فكانت تهيمن عليه بقوة رغبة عارمة في مسك كل شيء بقبضة واحدة، فلم يترك لإتجاهه التجريدي ان يكتسب الشرعية من خلال “الانطلاق من الوعي التجريدي abstraction واختزال الأشكال الطبيعية الى أشكال هندسية تمثل المحيط نفسه أو بعض أجزائه وقيمه values” والتي يعتبرها آل سعيد “مفردات أبجدية يستطيع بواسطتها (بناء) منظومته” بل كان يبدو في المحصلة النهائية وكإنه يدفع بكل الاتجاهات التي تؤكد كونه ناقداً طامحاً ومؤسسا لرؤية قادرة على وضع التشخيص ، والتجريد معا، تحت سلطته النقدية والتنظيرية ، فحيثما كان آل سعيد يتجه ، كان يترك لنفسه جسرا للعودة إلى الطرف الآخر من الفن (= الرسم)؛ فحينما أدار ظهره للفن المشخّص إلى الأبد، واتجه بكليته إلى أقصى مديات التجريد مقتفياً خطى عدد من الرسامين ، أهمهم الفرنسي تابيه . كان يترك الباب موارباً ليطل منه إلى عشقه الأثير التراث ، من خلال الفكر الصوفي الذي بدا وكأنه الصلة الوحيدة التي يمكن لها أن تترك الوشائج حية مع التراث ، وبدرجة اهم مع المتلقين الذين تشبعوا حد الإقفال بطروحات خطاب النهضة العربية حول المزاوجة بين الحداثة والتراث ؛ وبذلك فقد كانت ستراتيجية آل سعيد ثابتةً، لم يغيرْها منذ الخمسينيات وحتى أيامه الأخيرة : الاتجاه نحو الاختزال ثم نحو التجريد اللامشخص بما يحقق البحث في شيئية اللوحة التي لن تجد متحققاتها سوى في ميدان وحيد هو سطح اللوحة، فيما كان التنظير لـ (مشخصات) الواقع (وللتراث في الوقت عينه) يتم على الورق، كفاعلية لغوية وكتابية؛ فكان هدف ذلك التنظير في النهاية، (دعم) التجربة وان يكن ذلك من خارجها، بهدف الإبقاء على الصلة حية مع المتلقين، فأضحت تجربته وكأنها تعيش محنة حقيقية استمرت طيلة حياته، محنة وقع فيها رسامو جيل الستينيات بعد آل سعيد ، فانتهى بهم الأمر الى ما أسميته (الشيزوفرينيا الثقافية) ، وهي الحالة التي انفصلت اللوحة عن خطابها اللغوي، فكانت لوحات هؤلاء، ولنأخذ صالح الجميعي نموذجا، تتجه نحو المستقبل؛ فتنهل من آخر الصرعات (المتيريالية) بينما ظل خطابهم (جماعة الرؤية الجديدة وغيرها) مرتهنا بالمحركات القديمة التي تعود الى عقود الى الوراء.

ففي الوقت الذي كان آل سعيد يطمح لإعادة الصلة مع التراث الصوفي من خلال الكتابة، كان يدعو في الوقت ذاته الى الاشتغال على (الواقع المادي الشيئي) للوحة أي (الخامة) دون الحاجة الى استنادات خارجية ، حتى انه صنّف تجارب مثل عبد القادر الرسام، الرسام المغرق في كلاسيكيته، وارتباطه مع مشخصات الواقع ، على أنها تنتمي بدرجة او بأخرى الى فن الحقيقة المحيطية من خلال “اتخاذ رسوم الغمامات والأجواء الفضائية الرحبة في أعماله وسائل للتعبير عن رؤيته المحيطية” مع ان عبد القادر الرسام “لم يتوخَّها لذاتها”، وهو ما يعترف به آل سعيد ذاته.


لقد كان شاكر حسن آل سعيد يعيد قراءة خطابه عن الرسم العراقيّ، وربما عن تأريخ الرسم العراقي كذلك ، في كل مرة طبقاً لمتّجِه اشتغالي يهيمن على تجربته التنظيرية ، فقد أعاد في ثمانينيات القرن الماضي ، إعادة قراءة تجربة الرسم العراقي وفق مفهومه (فن الحقيقة المحيطية) فصنف رؤية كل رسام طبقاً لذلك : فكان رافع الناصري عنده مهتماً بالسحنة الخلوية ، وبناء العمل الفني من خلال خط الأفق الذي يختزل شكل الطبيعة ، موحياً بأجواء صحراوية، بينما اعتبر اهتمام سلمان عباس “بالأجواء التراثية منها وكأنما كانت تأملاً في : القباب، والمآذن، وكف العباس، وهي تبدو مختلطة بكتابات وزخارف وبنود”, وكان سالم الدباغ يتمسك (بالشكل المربع) أساساً لرؤيته الفنية، فيجد في نقاوة الألوان غايته من التجريد حتى يبدو وكأنه كان يتخذ من كل ذلك ما يوحي بمعنى العدم او العماء فلجأ الى “السحنة الملمسية للأرض والجدار”، وقد “انهمك مهر الدين بالبحث المحيطي باستخدامه الكتابات والإشارات كالاسم والدوائر ورسوم الأطفال وما الى ذلك من مفردات أو لقى”، وكان هاشم الطويل مهووساً “بالكتابات السحرية القديمة بخاماتها الورقية، وربما الجلدية (محيطياً) بالمفهوم الماورائي لهذا المعنى”، وكان لعجيل مزهر، وهو رسام ستيني من البصرة اهتمامات بالملمس Texture تطورت في مديات مدينته البصرة لدى فاروق حسن ، محمد مهر الدين وشوكت الربيعي.










وهكذا نجد آل سعيد يبني تجربته في الرسم والنقد على نمطين من التعامل مع المنجز شكّلا تعاملا موضوعاتيا دلاليا وشيئيا ، متيرياليا ، حتى أنه يؤكد في المقال ذاته افتتانه “بقيمة الجدار… كمرآة تعكس واقع الحياة الإنسانية الحضارية اليومية”؛ بينما يستدرك “ان هذا الاستقصاء ظل مرتبطاً (بالخامة اللونية) لذاتها، أي بالواقع المادي الشيئي للمعطيات وليس (بواقعها الاعتباري) فحسب”؛ فكان استخدامه للخامات اللونية المعروفة، ولمواد الفن المعماري : كالسمنت، والجص، والأصباغ المنفوثة ، واستخدامه (للفضاء الفعلي) كفراغ ، او شقوق ، أو فوهات.
وبذلك يتضح ان فن (الحقيقة المحيطية) الذي بشّر به آل سعيد خلال عقد الثمانينيات كان حاله كحال كل منجز آل سعيد، مركباً من جهدين: جهد نقدي يتواشج مع الصوفيات والأساطير ونحوها، وجهد حداثي شيئي يتفهّم اللوحة باعتبارها واقعاً مادياً شيئياً لم يكن موضوعها إلا مناسبة لوضع المادة (=اللون وكل المؤثرات المادية الملمسية) على سطح اللوحة.


لفوتوغرافي زيني سعيد..تركز الرؤية بعين السيكلوب!

 

الفوتوغرافي زيني سعيد..
















تركز الرؤية بعين السيكلوب!

 

خالد خضير الصالحي

خلال احتدام جائحة كورونا استضافت الجمعية العراقية للتصوير، في برنامجها الثقافي الأسبوعي الذي كان يجري على منصة برنامج الزوم (ZOOM)، المصور الفوتوغرافي زيني سعيد، الشاب الذي ابتدأ التصوير الفوتوغرافي قبل بضع سنوات، وقدم في الجلسة اضمامة من صوره الفوتوغرافية التي تنوعت على ثيمات متعددة كانت أهمها وضوحا، وشكلت مركز الاهتمام الأول، هي تصوير الحياة اليومية المعيشة التي يصورها بعناية، ولكن مع حرص شديد على العناصر الفنية للصورة من خلال فنون استخدام الكاميرا لأنه قليلا ما يوظف تقنيات المعالجة ما بعد التصوير؛ فكانت الصور الفوتوغرافية لزيني سعيد، في غالبيتها، لقطات مفتوحة، وتبدو (اقتناصا) لفرصة التقاط الصورة، كما يحلو له وصف اللقطات غير المخططة التي انتجها، وهو ما تصفه سوزان سونتاغ بانها (الطبيعة الاغتصابية) للفوتوغرافيا التي تمنحنا "حقنا في المراقبة"، او ربما حقنا في التلصص على العالم وعلى الاخر.

ان الصور غير المخطط لها يخفت فيها صوت البطل المهيمن، وسطوته في غالبية الصور باستثناء البورتريتات، ولكن حرص زيني سعيد على الحفاظ على بؤرة لامة للتعبير، قد تتمثل أحيانا بالتفاتة بسيطة تجلب اهتمام المتلقي، فتشكل ما يسميه رولان بارت الـ(بونكتوم)، او البؤرة اللامة للقطة، في كتابه الشهير (الغرفة المضيئة.. تأملات في الفوتوغرافيا)، وكثيرا ما كانت تلك البؤرة اللامة عين احد شخوص الصورة وهي تقوم قام (الوخزة) الضرورية للصورة، وقد يمكن ان نسميها (البؤرة التعبيرية) في الصورة، حيث يمتد الخط التعبيري من خلالها بين المتلقي وبين الصورة، وغالبا ما تكون تلك العين المحدقة في تفاصيل الحياة اليومية، عين ابرز ابطال الصورة.

ان اشد الصور تعبيرية في تجربة زيني سعيد صوره التي يهيمن عليها الكونتراست التي انتجها من اجل كبح قدرة الألوان على جذب عين المتلقي وتوجيه عملية التلقي، فصور حياة عمال صناعة الطابوق التي تفتقر بالأساس الى وجود الألوان في الواقع، وصور البورتريه التي يكون البطل فيها بعين واحدة لسبب ما، فقد صور زيني سعيد عدة لقطات يمتلك فيها البطل عينا واحدة سليمة، فصور امرأة عجوزا من مدينته (الديوانية) بعين واحدة، وصور رجلا إيرانيا بعين واحدة والأخرى مطفأة بسبب الماء الأبيض، فكانت خطوط التلقي كلها تلتقي في البؤرة التعبيرية للعين السليمة لتتجه بعد ذلك لاستطلاع أشياء الواقع المحيط.

إذا كان الفوتوغراف يبنى بالضوء الذي يبدد الظلمة، تماما كما هو جوهر السينما الذي تشترك به مع الفوتوغراف، فان زيني سعيد يبني يعتبر السواد، وتحديدا الكونتراست، كجوهر مادي أهم في بناء صور البورتريت، حيث اتساع هيمنة السواد الذي يمنح الصورة تعبيرية قوية، مما جعل اشتغالاته في هذا النمط من الصور وكأنما كان يشتغل على التباين اللوني بين الضوء والظلام (الظل).

يتفنن زيني سعيد توظيف زاوية التقاط استثنائية في بعض الموضوعات، فقد صور عمال الطابوق من مكان مرتفع على سطح كورة صناعة الطابوق بزاوية نظر (عين الطائر) فكانت سحنة الغبار والابخرة والدخان الأسود المتصاعد من الكورة.. فكان للقطة دلالات تعبيرية قوية، كما انه يوظف بعد عين الكاميرا من وجه النموذج المصور فكان يبدو وكأنما يحاول الدخول بكاميرته الى دواخل النموذج.

لا يضع علي زيني من اهتماماته توثيق اثر ما بالمعنى التاريخي للتوثيق، انما يهدف الى (تسجيل) انطباع سريع لحدث ما، ليلاحق تفاصيل حياة الناس في القرى الجبلية وفي اهوار العراق،  من خلال لقطات لأطفال يلعبون، وامرأة تكنس باحة الجامع، فتاة صغيرة تنظر من ثقب في زجاجة مكسورة، او من ظلفة الباب، فتاة صغيرة تهم باجتياز زقاق قصير،

ان الرغبة العارمة التي تتلبس زيني سعيد من اجل خلق حركة ما داخل الصورة وان كانت طفيفة في صور الببورترت الساكن من خلال دخان سيجارة النموذج الذي يصوره زيني سعيد.  

الأربعاء، 13 أبريل 2022

 









































 ·   ·

الفوتوغرافي أنور الدرويش..احتضارُ المدنِ واختفاءُ أبطالها

خالد خضير الصالحي

١٢ أبريل ٢٠٢١

"تلك زوجتي الراحلة معلقة على الحائط ترنو كما لو كانت حية" (براوننغ)

        نعتقد أن تجارب الفن التشكيلي، والفن الفوتوغرافي كذلك، غالباً ما تنبني على موضوعة (ثيمة) أساسية مهيمنة، أو ربما ثيمات مهيمنة، تستعاد، وتتكرر إعادتها طوال التجربة، وما جلب اهتمامنا في تجربة الفوتوغرافي أنور درويش إنها تعمل على الارتقاء بالعابر، والمهمل، والمندثر، الى مرتبة الفن الجمالي الراقي دونما تفريط بالعناصر التقنية للتصوير الفوتوغرافي ومنها:

التكوين، والإنشاء، والاتزان، ومادية (شيئية) الصورة، وزاوية الالتقاط، وكل هذه العناصر يجمّعها، ويؤطرها، (الأثر) و(المندثر)، وعلاقات الأشكال والعلامات المتهرئة على السطوح والجدران وغيرها، وهو ما يسميها أنور درويش (التاثيرات التشكيلية)، ونحن نسميها (مادية) أو (شيئية) الصورة الفوتوغرافية، فحينما يصور الدرويش الكرسي الفارغ في صورة من أجمل صوره فانما هو لا يصور ما هو موجود قدر تصويره ما هو مفقود وغائب، لذلك أجده يتتبع، بأرقى الدرجات، خطى رولاند بارت، وسوزان سونتاغ اللذين تمثل الفوتوغرافيا عندهما تسجيلاً للموت، والفقدان، والأثر، والاندثار، وهو ما عناه الدرويش حينما صور مئات الصور التي أرخت لتهديم مدينة الموصل بعد إخراج داعش منها، كما أن غياب الإنسان من غالبية صوره كان بسبب انغماسه الكبير في محاولة تسجيل غياب الإنسان أكثر من تسجيل حضوره، حيث إن افتقاد الصورة للوجود الإنساني قد يشكل سمة من سمات الثقافة المدينية، وتسجيلاً لآثار جدرانها، كما إنها تصب في بناء الصورة الفوتوغرافية لتكون حقلاً خصباً للتلقي، فلا يكتفي المتلقي بالرؤية السلبية للصورة انما ينغمس في قراءة تأويلية (هرمنيوطيقية) تحاول ملء (فراغات) الصورة، بجعل هوامشها متوناً لها..

          لا يكتفي أنور الدرويش بوثائقية الصورة، فلا تشكل تلك الوثائقية إلا منطلقاً أولياً للصورة الفوتوغرافية، لذلك نحن نؤكد بان ملاحظاتنا لا تشكل دليلاً على أن المصور الفوتوغرافي (أنور درويش) كان يهمل (مادية) الصورة الفوتوغرافية مطلقا، بل كان في أشد حالات الحرص على توكيد (مادية الصورة) و(شكلية الصورة) التي نعني بها شيئاً أوسع من طبيعتها المادية كونها أحباراً أو مركبات على ورق، أو ضوءاً على شاشة، بل إنها تعبير يستند على مادية التعبير الذي بسببه اعتبر غاستون باشلار علم الجمال حقلاً مهمِلاً بإجحاف لـ(مادية الصورة)، التي كان أنور درويش مخلصاً لها بقوة، وتلك واحدة من أهم الخصائص الجوهرية في تجربته الفوتوغرافية.

          إن تجربة الفوتوغرافي أنور الدرويش تؤكد أنه يمتلك خبرة تقنية وجمالية في التعامل مع عناصر الصورة، وقدرة استثنائية على تركيب وإنشاء أهم عناصرها التي يبدو واضحاً بانها ناتج اعداد مسبق، في اختيار عناصرها الأهم، واختيار الزاوية الأمثل والأشد فاعلية للالتقاط بالترابط مع مصدر الإضاءة في المشهد، وهذه الخبرة كانت مرتكزه في الارتقاء بالأحداث العابرة التي قد لا تلفت نظر أحد غيره؛ فيصنع منها لقطات فوتوغرافية تشكل موضوعاً للتلقي الجمالي.

         تعتبر مسوحات كاميرا أنور درويش للأمكنة تسجيلاً أميناً لتحولات أمكنة المدن العراقية نحو شيخوختها، فكان أن قضى عقوداً، وهو يسجل موت المدن العراقية رويداً رويداً ربما الى الحد الذي اعتبر فيه تلك جوهر مهماته، وجوهر تجربته الفوتوغرافية التي يضع لها مهمة صعبة وخطيرة وهي توثيق احتضار الأمكنة عبر سلسلة من اللقطات التي تسجل مرور السنوات عليها، موت كان مستمراً تحت شتى الأسباب والمسوغات، وهو كذلك يسجل أمراً خطيراً آخر سجله بعض من كتب عن تجربته، وهو اختفاء الأبطال من كل نوع: الأبطال المنفردون الذين كانوا فاعلين في الرسم التشكيلي، واختفاء المجاميع المهمشة التي أورثها السرد الروائي الى القصة القصيرة، تماما كما أورثها الرسم الى الفوتوغراف، بل واختفاء الأبطال المهمشين هؤلاء أحيانا كذلك، حتى يمكن القول إن تجربة أنور الدرويش كانت تجربة دونما أبطال حينما تحولت الأمكنة فيها الى أبطال متخفين، فكانت تحكم هيمنتها على الصورة بغياب الإنسان الفرد، وذلك أمر مهم في الفوتوغراف الذي تشكل إطلالة الواقع أمراً لا فكاك منه في كل التقاطة فوتوغرافية، وكل سحنة مهما كانت ضئيلة الشأن، وذلك أهم فروقات ىالفوتوغراف عن فن الرسم بتقاليده الغابرة التي تمتد الى آلاف غابرة من السنوات منذ الكهوف الأولى.

الثلاثاء، 12 أبريل 2022

 

 

الفوتوغرافي عبد الرحمن عدي..

  

تحوّل الحياة كلها الى (بورتريت) بالأسود والابيض

 

 خالد خضير الصالحي

 






























رغم ان التصوير الفوتوغرافي فعالية قديمة في اهتمامات، ونشاطات عبد الرحمن عدي، ولكنه مازال يؤكد ان البداية الحقيقية له كانت فوزه بالجائزة الأولى في مسابقة فوتوغرافية كانت قد جرت في المانيا عام 2003 وشارك فيها 150 مصورا فوتوغرافيا من مختلف بلدان العالم؛ فكانت تلك بدايته الحقيقية.

لم تجعل فكرة المماثلة مع اشكال الواقع في فن الفوتوغراف، الامر صعبا على الفوتوغرافي عبد الرحمن عدي في التعامل مع الصورة الفوتوغرافية باعتبارها واقعة شيئية (مادية)، فحصل على مكاسب حقيقية في بناء صورنه الفوتوغرافية باعتبارها حقلا ماديا تتم فيها تجارب اللون والتكسجر والعناصر المادية للصورة الفوتوغرافية بالاسود والأبيض التي هي بطبيعتها تفتح الباب بقوة لتناول الصورة الفوتوغرافية باعتبارها واقعة مادية بشكل مماثل للوحة المرسومة اطثر من الصورة الملونة..

لقد شكل عنصر الضوء (البياض)، ووجوده السلبي الأسود (الظلام)، العلامة الفارقة في المنجز الفوتوغرافي للمصور عبد الرحمن عدي، فهو بفضل انتاج صورة فوتوغرافية تترسم خطى الرسم الزيتي الكلاسيكي لرمبراندت وغيره من الرسامين الذين برعوا في توظيف أجواء الظلام ومنهم مثلا: جريكو، وكارافاجيو حينما رسموا قصص الكتب المقدسة، حيث الأجواء التي يغرق فيها الشخوص في حندس الظلام فلا تبين منهم الا الاجزاء الكافية للتعبير عن موضوع الصورة، وانفعال النموذج (الموديل).

يبني عبد الرحمن عدي صورته في تصوير البورتريه، على زاويتين متعاضدتين هما: زاوية التقاط الصورة، وغالبا ما تكون زاوية تقليدية لا انزياح فيها عن المألوف في تصوير الفوتوغراف، بينما تشكل زاوية الاضاءة، وسعة البقعة المضيئة الساقطة على الموديل، مرتكز بناء الصورة، وغالبا ما تكون زاوية الإضاءة منحرفة قليلا حيث ان هدفيها الأهم: إظهار التفاصيل بشكل واضح ودقيق اولا، وطمس معالم بقية الأجزاء غير المرغوب بها من الصورة ثانيا، وقد تأتي الانارة أحيانا من مصدر شديد الغرابة، واحيانا تأتي من منطقة تقع خلف النموذج، وبما انه يستخدم مصدر ضوء واحد في الصورة فان الناتج يتسم أحيانا بنتائج غرائبية في بناء الصورة، ونحن نعتقد بان نجاحه في استخدام مصدر وحيد للضوء راجع الى أنه لا يحتاج الى الكشف عن مناطق الظلام المعتمة التي يراد منها إخفاء كل التفاصيل غير الضرورية في كل مساحة الصورة عدا البقعة المضيئة، وان كان ذلك قد يعطي انطباعا لدى المتلقي بان الصورة قد مرت بعملية تخليق صناعي، ولم تأت بطريقة ولادة طبيعية..

تتخذ البنية المادية للصورة سمات التصوير الأسود والأبيض حتى وان انطوت تلك الصورة على بعض (الضربات) اللونية هنا او هناك، فتلك البقع اللونية تبدو ثآليل صغيرة مقابل التأثير المتعاظم لجوهر الصورة التي يشكل الظلام والضوء جوهرها البنيوي الراسخ.

ان الايمان الراسخ لعبد الرحمن عدي بان على الصورة ان تلامس واقع الانسان وحياته، وان اهم موضوعات التصوير الفوتوغرافي جعله يتجه الى تصوير البورتريه الذي هو في حقيقته ينقل موضوعات الفوتوغراف من سطح الواقع ويومياته وتفاصيله الى الدواخل الإنسانية. 

ان خلاصة التجربة الفوتوغرافية لعبد الرحمن عدي، هي انها تجربة كرست نفسها من اجل تصوير الممحو (المحذوف او السواد)، اكثر من تصوير ظاهر الصورة (البياض) من الواقعة الفوتوغرافية، فاذا كان النحات الشهير جايكومتي قد وصف الوجه الإنساني بانه غابة لم تكتشف بعد، باعتبار ان الطاقة التعبيرية التي يتمتع بها الوجه البشري لا حدود لها، نجد ان الفوتوغرافي عبد الرحمن عدي قد ادخلنا ادغال غابة الوجه الإنساني هذه؛ فتلمسنا صعوبة الإحاطة بتلك الغابة التي لم تكتشف بعد، الا انه بسعيه الحثيث استطاع ان يخلق نظاما بصريا يلف العالم الإنساني من خلال سعيه الحثيث الى تحويل من يلتقي بهم الى صورة بورتريت، بل ان الحياة كلها عند عبد الرحمن عدي تحولت الى صور (بورتريت) بالأسود والابيض.