الأحد، 30 أغسطس 2009

عفيفة لعيبي







القطيعة عن الحياة ..
لا تمنح سوى مخلوقات مشوهة



خالد خضير الصالحي

لقد احسست وانا اكتب واعاود الكتابة عن الرسامة عفيفة لعيبي بذلك التواشج الكبير لعنصر المماثلة ، وهو، برأينا، العنصر المشترك الاعظم بين التصوير الفوتوغرافي والرسم الاكاديمي، وهو يعتمد محاولة (النقل) المماثل لمشخصات الطبيعة، فكانت تجربة عفيفة لعيبي واحدة من اهم تلك التجارب العراقية في هذا المجال (محمد عارف، ماهود احمد، فيصل لعيبي)، اكثر من اية تجربة (انطباعية) تتميز بالاشتغال على قوة التكنيك اللوني والتي تتبع خطى تجربة فائق حسن (محمد صبري، سيروان بابان، وسعيد شنين) فتلك التجارب تكون اقرب الى المعالجات الشيئية لمادية التعبير، وبذلك فهي تبتعد كثيرا عن التصوير الفوتوغرافي الذي تتراجع فيه شيئية اللوحة الى الخطوط الخلفية، وتبرز الى الواجهة المماثلة عنصرا مهيمنا، وهو مايتوفر في تجربة عفيفة لعيبي اكثر من غيرها.
وعلى الرغم من ان مكونات الصورة ذات طبيعة بصرية وأيقونية فان "التفكير بالصورة هو ، في غالب الاحيان، انتاج لا للصور بل للغة الكلمات" كما يقرر ميتز، فالصور موجودة لأننا نقرؤها، فتكون السيمولوجيا البصرية ليست اساسا نشاطا بصريا، بل تكون تأويلا لغويا في النهاية، وهو يبدو الهدف الاهم لكل تأويل لاحق. فهل يمكن ان نتحاور مع الرسامة المبدعة عفيفة لعيبي من اجل المساهمة في استنطاق بعض مغاليق تجربتها رغم تحفظنا الشديد على الاعتماد على تصريحات الفنان، واعتمادها مقترحا تأويليا، او مقترحا قرائيا. سألتها اولا:
@ يقول الناقد الأمريكي جورج كوبلر "إن تعريف (كاسيرر) الفن بأنه لغة رمزية" وهيمنة هذا التعريف على الدراسات الفنية في القرن العشرين .. قد كلفنا ثمنا باهضا حيث استأثرت دراسات المعنى كل اهتمامنا ، وأهمل تعريف آخر يقول أن الفن نظام من العلاقات الشكلية .. وهذا التعريف الثاني للفن أهم من المعنى"، هذا ما يقوله جورج كوبلر، ويبدو هو الأمر الأهم الذي كان يفتقره الفن والنقد التشكيلي العراقي. ألا تعتقدين إن بناء اللوحة بشكل (حكائي)، أو اعتماد الرسام على المعنى، وهو ما يبدو جزء منه في أعمالك أحيانا، قد يساهم في إشاعة نمط من الفن ، ونمط من فهم الفن، تستأثر قضية المعنى فيه بجزء كبير على حساب الجوانب الشكلية والبنائية والتقنية، وهو ما رزح تحته الرسم العراقي طويلا برأينا، حينما كرس قضية التعبير عن الروح المحلية باعتبارها لازمة وشرطا لتحقق صفة الرسم؟ ماذا ترين في ذلك؟
- كل مرحلة لها خصوصياتها، وهذه الخصوصيات مرتبطة بأسباب عديدة، وشروط مرتبطة بالنظام الاقتصادي- اجتماعي- سياسي، هذه الشروط توحد العلاقات وتنفرها في آن واحد، والفكر الناتج من كل هذه العلاقات يحدد توجه وشكل الثقافة السائدة، والفن والفنان وإبداعه هو جزء من هذا الكل، يتأثر ويؤثر.
في ألأزمان البعيدة القدم كان ألإنسان الفنان الذي لا يملك الوسائل لفهم أسباب كل ما يجري حوله كان يعتمد الخط واللون للتعبير عن مخاوفه وإبعاد الخطر عنه أو عن عائلته، ثم تأتي التغيرات والمرتبطة بشكل النظام والذي يحكم طرق الحصول على القوت اليومي من أجل البقاء بدأت معه تتغير كذلك طرق التعبير وأشكاله. فأصبحت الحرب موضوعة للتصوير عند العراقيين القدماء والموت وأسراره عند الفراعنة ، وعند ألأغر يق كان الجمال والكمال هو الهدف بعد أن ساد نوع من الترف اقتصادي واجتماعي والذي بالضرورة لحق به ترف فكري ، أما أهل روما بعد أن أصبحوا شكلوا قوة تهدد، توجهت ألأفكار مرة أخرى إلى تمجيد البطولة ارتباطا بالرغبة في التوسع وإخضاع البشر، وعندما أصبحت ألأفكار المسيحية ذات حضور وسطوة بدأ ت ألأفكار الروحانية والقدرة الربانية وفكرة القيامة وما بعد الموت والنار والجنة هي الموضوعة السائدة في كل أو معظم ما كان يبدعه المثقف في تلك ألأزمان. وإذا استمر سردنا سنأتي إلى عصر النهضة حيث بدأت الكنيسة تفقد سطوتها ومع سيادة فكرة الرأسمال الذي أصبح هو السطوة الجديدة والوسيلة ألأقوى لامتلاك العروش و ألاستمتاع بالحياة الدنيا في هذه الفترة بدأت الثقافة إلى حد ما تتحرر من السطوة ويبدأ فيها الفنان أو المبدع يستعيد أو يؤطر الأشكال من ألإبداع فيها نوع من الحرية ويستطيع أن يؤسس لبعض الخصوصية فمع تراخي قبضة الكنيسة والدين في ألإمساك بمفاتيح الجنة والنار, أخذ ألإنسان يستعيد البعض من إنسانيته وبدأ بالتأكيد عليها كحقيقة قائمة بذاتها.
أشارتي المختصرة أعلاه أردت فيها أن أؤكد إلى إن الثقافة عموما والفن كجزء منها هو ليس فقط نظام من العلاقات الشكلية بل هو أيضا انعكاس لأشكال واستمرارية لنظم وعلاقات وبالنتيجة لا يمكن الفصل بين كل هذه ألأمور عندما نريد تفسير ظاهرة معينة أو التوصل إلى فهمها واستيعابها. والآن نأتي على الفن العراقي وسؤالك هو حالة الفن العراقي المعاصر أو ما يمكن أن نسميه هكذا, لأن الفنون عموما والفن التشكيلي بالذات يكاد أن يكون معدوما تماما وعلى مدى خمسة قرون تقريبا في معظم المناطق التي كانت تحت ألاحتلال العثماني ومنها العراق.
ان تاريخ الفن العراقي المعاصر لا يملك امتداداته أو هو ليس استمرارية أو نتيجة لتطورات جاءت صعودا أو هبوطا في المجال التشكيلي في حدود العراق آو ما يحيط به من بلدان. اعتقد أننا في هذا المجال من فنانين ونقاد ما نزال نتدرب على العثور على ألأسس والتي نستطيع عليها أقامة صرح ما , رغم كل ما بذله الكثير من الفنانين العراقيين وعلى مدى السنين الخمسين الأخيرة من جهود للتأسيس لكن كان للسياسة والمرتبطة بالعنف دائما في هذه المنطقة بالذات دور لا يمكن التغاضي عنه في الدفع إلى الأمام أو العودة إلى نقاط الصفر وعليه سادت ثم بادت أنماط من السلوك والعمل، المشكلة هنا لا يمكن أن نحددها فقط في التوجهات التي اختارها الفنان العراقي أو النتائج التي استطاع أن يحققها أو يتوصل إليها ودور النقاد أو ألمختصين واللذين هم في الواقع غير موجودين أصلا.
المشكلة هي اكبر من ذلك , أنها مشكلة حضارية مرتبطة بتراكمات التخلف و ألانقطاع عن كل ما هو حضاري وعلى مدى قرون حيث لا يمكن التجاوز والقفز على مثل هذه التراكمات وإذا فعلنا ذلك فسيكون المولود مشوها بالتأكيد, فعندما نناقش الفن التشكيلي في العراق أعتقد إننا نظلم أنفسنا إذا وضعنا أنفسنا على خط واحد مع ما جرى أو يجري في أوربا و الشئ الوحيد الذي يمكن أن ننصف به أنفسنا هو, إن كل ما قد جمعناه في فترة الخمسين سنة ألأخيرة كان نتيجة جهود فردية كانت ذات طموح لتحقيق شيْ أو محاولة للتحريك و تعتمد مقولة على قدر أهل العزم تأتي العزائم.
@ ولكن ألا تعترفين أن الفن ، رغم كل ما ذكرت، يبقى جهدا فرديا أهم اشتراطاته القطيعة مع الآخرين لكي يشكل إضافة ضرورية، والا ما قيمة الرسم الذي يمتثل لاشتراطات: شكلية أو فكرية مسبقة تجعل منه نسخة مقبولة من (الآخرين) الذين يمتلكون سلطة المعرفة كما كان يحدث في العراق منذ بدايات تأسيس الجماعات الفنية ثم خلال الفترة الماضية اللاحقة؟
- كل التاريخ البشري هو اجتهادات فردية لكنها ناتجة من تراكمات معرفية وخاضعة لشروط ذاتية و موضوعية، مكانية وزمنية وبالنتيجة لا يمكنها أن تعيش القطيعة حتى لو سعينا إلى ذلك .أردنا أم أبينا ، فأن أي نشاط إنساني يملك في داخله الدوافع في أن يكون أو يتشكل ، وهذه الدوافع دائما كامنة في الظرف القائم والمحيط .
كما قلت في جوابي على السؤال ألأول إن القطيعة عن الحياة لا تمنح سوى مخلوقات مشوهة وغير قادرة على العيش و ألاستمرار لأنها غير قادرة على التواصل ولا تملك شروط بقائها ، كما لا يمكنها أن تشكل إضافة. بل قد تعطي تصور حيوي عن معنى العميق للقطيعة.
أنا أؤمن بأن أي جهد بشري مهما حاول أن يكون عبثيا أو لا مباليا ، تكمن في أعمق دواخله رغبة دفينة ومخنوقة للتواصل ، لكني أؤمن كذلك إن التواصل لا يعني القبول بكل الشروط ولا يعني الخنوع والخضوع وهذا برأي ما يميز الفعل الجاد عن غيره من ألأفعال البشرية التي كانت تتحرك لإرضاء واقع موجود أو مفروض أو سلطة معينة.
فهم الواقع بالنسبة لي لا يعني استنساخه بل حسب تصوري إعادة بناؤه بروح أكثر وعيا وإبداعيا.
@ لم يقل احد بانعزال الفن عن الحياة، فالقطيعة تعني الانقطاع الاسلوبي عن الاخرين، ومحاولة البداية في كل مرة مما اسميته مرة (درجة الصفر الاسلوبي) ، فدعوة جماعة بغداد مثلا قد انتجت تجارب متناسخة كان همها ليس مادية اللوحة ، اي الاخلاص لمعالجة مادة الرسم بفهم حداثي بل الاخلاص لموجهات خارجية (غير بصرية) والتضحية بمادية الفن او مادية التعبير (التي تعني ان اللوحة في النهاية ليست سوى تجربة بلاستيكية مادية). ما رأيك بذلك؟
- اعتقد إن طرح السؤال بهذه الطريقة غير المفهومة وعدم استخدام الكلام البسيط والواضح لا يفيدنا ولا يخدم الجهود المبذولة لتوصيل فكرة معينة وقد حاولت جهدي إن افهم بالضبط ما الذي تعنيه بهذه العبارات مثل مادية اللوحة أو الموجهات الخارجية والغير بصرية أو تجربة بلاستيكية مادية. برأي الشخصي نحن ليس بحاجة لكل هذا التعقيد حتى نستطيع أن نفهم ماهية الفن التشكيلي خصوصا. العملية ببساطة هي محاولة الفنان أن يجسد فكرة أو موضوعة معينة ومجردة في الوقت نفسه وتنفيذها ماديا بالشكل الذي هو يعتقد انه هو الشكل أو ألأسلوب الصحيح والمناسب للفكرة وتقديمها إلى شاهد هو ألآخر له حضور مجرد لكن بعد العرض ألأول تصبح اللوحة حقيقة ملموسة والمشاهد كذلك يصبح له حضور وتأثير على تفسير اللوحة وإعطائها الصورة التي يرتئيها أو القيمة المناسبة حسب التقدير الشخصي وهذا طبيعي له علاقة حميمة بمستوى وعي المتلقي وسعة خياله.
@ سيكون معرضك الاخير، الذي اقيم قبل مدة، فرصة (لأعادة تقييم) لمنجزك الابداعي ومعايرة لما سبق، من قبلنا نحن النقاد على الاقل، فقد اشرت ، في مقالين لي عنه، حقيقة اولية هي انك لم تكرسي جهدا كاقيا لاجراء (زحزحة) اسلوبية او ما اسميته (الايقاع في تحولات الاسلوب): لا في قوانين المنظور ولا في التشريح، وهما ما ركز عليهما فيصل لعيبي جهده، فكانت معالجته في ذلك معالجة استثنائية في اسلوب الرسم الاكاديمي، بينما كنت تكتفين في معالجاتك الشكلية بالمطابقة مع المشخصات بما يحفظ سمات اسلوب شخصي متفرد عن الاخرين. السؤال: اين انت من تيارات التجريب في الرسم العراقي المعاصر الذي وصل حدودا قصية في التجريد ، والتجريب بالمادة، ما موقفك مما اسميه (تيار الحداثة) هذا؟ وهل تعتبرين اهتمامك بمزيد من بالضوء والتفاصيل في خلفية اللوحة كافية لتجديد اسلوبك، امام تحولات اسلوبية جذرية يجريها الاخرون على اسلوبهم بين الحين والاخر؟ وهل ستستمر عفيفة لعيبي بالسير الحثيث بنهج اسلوبي اختطته لنفسها منذ مرحلة التلمذة ومازالت وفية له دونما زحزحة طوال تلك السنين الماضية؟ وما هي التطلعات التجديدية التي بذهنها الان كاستراتيج عام؟
- كل إنسان له أسلوبه في الحياة وعنده الكم الهائل من العلاقات المرئية والمجردة والتي تشكل تجميع مادي ومعنوي لمجموعة من القيم والتي يحتفظ بها لنفسه وهي في الوقت نفسه تشكل خصوصية تميزه عن غيره من البشر وبشكل شخصي أتابع على قدر ألإمكانيات المتوفرة لي و بالارتباط بقدراتي المحدودة لأني ليس بالإنسان السوبر ومن أجل تطوير قدراتي سواء على صعيد العلاقات الاجتماعية أو في مجال اختصاصي أحاول أن استفيد من هذا الكم ألخزين لدي إذن علاقتي مع ما اعمله أو أنتجه هو ليس علاقة تناحريه مع الآخر أو تنافسية ناتجة عن شعور بالعزلة أو الضعف بكل بساطة أنا أحاول أن أنتج ألأشياء القريبة إلى روحي وقلبي والتي تمنحني السعادة لكوني استطيع تحويلها إلى حضور قائم بحد ذاته ولهذا ليس همي هو الحداثة أو أن أنتج سطوح معقدة لأجل أن أدهش أو أثير ألآخر أو اعمل خطط واستراتجيات للهجوم أو الدفاع أو اعمل حركات بهلوانية لكسب الجمهور لأن كل هذه ألأمور لا تدخل في حساباتي الدفاع ولا تشغلني إطلاقا ولهذا فاني لا أتسابق مع الزمن ولا مع ألآخرين أنا أريد أن استمتع بما هو في متناول قدرتي أما كيف يفسر ألآخر تجربتي فله كل الحرية بأن يفسرها كما يشاء .
@ اشكرك على اجاباتك واتمنى لك مزيدا من النجاح.

هاشم حنون وربع قرن من الرسم







اللوحة بلغة الجسد

خالد خضير الصالحي
Khkh1956@yahoo.com


كثيرا ما صنفنا هاشم حنون، باعتباره رساما تعبيريا حتى حينما يكون في اشد حالاته غلوا تجريديا، فقد اعتمد هذا الرسام اختزال أشكال المشخصات وليس تأسيس رسم لاشكلي أو غير مشخّص، وبذلك فقد كان يعتمد الجسد الإنساني باعتباره منتجا للدلالة وللتواصل عبر استنطاق أعضاء الجسد ذاته أو امتداداته، فكان هذا الرسام، ومنذ أولى مشاركاته في معارض العاصمة العراقية، قد اتخذ الجسد كلا متكاملا كـ(ـمهيمنة شكلية) يؤسس عليها معمار لوحاته، جاعلا أعماله تلك مشبعة بإيماءات الجسد الإنساني من خلال ما تم التموضع عليه اجتماعيا من دلالات، وذلك يصدق عليه منذ لوحته (الأولى) التي تم اقتناؤها، والتي أطراها جميع من كتبوا عن بدايات هاشم حنون، ونعني بها لوحة الشهيد التي كانت تصور الجسد المسجى الذي تحيط به النسوة الناحبات، فكان يوظف إيماءة ذلك الجسد الإنساني من خلال نسق سبق وان وظفه دلاليا رسامون عراقيون عديدون: فائق حسن، محمود صبري، فيصل لعيبي، وآخرون، ونسق آخر هو من تأثيرات لوحات عصر النهضة وغيرها من الأعمال التي تصور جسد السيد المسيح (ع) وخاصة تلك التي كان رسمها جريكو ووظف فيها استطالات أشكال الجسد الإنساني ليوحي ببنية يرتفع فيها المقدس إلى الأعالي، وبذلك فقد كان هاشم حنون، ومنذ مشاركته المهمة التي استضافته فيها جماعة الأربعة في احد معارضها، حيث كُرس هاشم حنون باعتباره رساما سيشكل علامة في الرسم العراقي لجيل الحرب العراقية الإيرانية، كان يؤكد توجهه هذا بشكل قوي عندما طرح موضوعة الشهادة في معرضه الذي كرسه لها والذي أقامه في مركز الفنون عام ؟؟؟؟ ، ورافقته محاضرة لي أقمتها في المركز ذاته وأذن لي الصديق الناقد سعد القصاب بنشرها في نشرة (الواسطي) التي كان يشرف عليها، وكانت نشرة تعنى بموضوعات الفن التشكيلي وتصدر عن مركز الفنون في ذلك الوقت.
لقد كانت أشكال هاشم حنون في ذلك الوقت أشكالا تعبيرية مشخّصة ومحتفظة بملامحها بشكل كبير، وتكسوها غلالة لونية حليبية تماثل ألوان رينوار البيضاء، مع احتفاظها بالبنية التي كرسها عصر النهضة المتأخر والتي هي بنية هرميه لتوزيع الأشكال واتجاهها مرتفعة نحو مثلث الرأس العلوي.
كان احترام الجسد الإنساني دالة كبيرة في أعمال هاشم حنون المبكرة باعتبار ذلك الجسد موطنا للقداسة، رغم تعرضه للامتهان عند الوفاة، وذلك هو السبب القوي الذي جعل الرسام يعود إلى لوحات صلب المسيح ليتخذها هدفا للتناص في رسم أعماله التي تناولت موضوعة الشهادة، والتي كان الجسد الإنساني فيها هدفا تستوطنه الآلام ولكن تتجسد فيه القداسة في نهاية المطاف.
لقد أقام هاشم حنون معرضه الأول في بغداد والحرب العراقية الإيرانية في بداياتها، فلم يتكشف بعد ذلك الوجه القبيح الذي ظهرت به أخيرا حينما استعرت المعارك بعد الهجمات القاسية التي شنتها إيران لإخراج الجيش العراقي من أراضيها، ثم لاحتلال الفاو أخيرا، وهي معارك خلفت عشرات الآلاف من القتلى في كلا الجانبين، فشكلت جثث هؤلاء مادة تلفزيونية بشعة كانت يعرضها تلفزيونا البلدين كـ(ـصور من المعركة) ليبرهن كل طرف لشعبه إن ما فعلته قواته المسلحة (الباسلة) بالأعداء كان أمرا جللا تعجز عن وصفه الكلمات والصور، فظهرت الجثث نافقة، ومقطعة، ومحترقة، وتثير اكبر قدر من البشاعة والتقزز لتشكّل خزينا انغرس عميقا في لاوعي الناس في ذلك الوقت ثم ظهرت آثاره وآثار الحروب التي أعقبته، بعد سنوات حينما بدأت المجاميع المسلحة تستحل الجسد وتنتهكه بأبشع ما يكون عليه الانتهاك، فانتقل هاشم حنون من تقديس الجسد المقدس الذي يعرج مرتفعا نحو السماء إلى مرحلة لاحقة فبدأ الوجود البشري لديه ينفصل إلى جزأين من طبيعتين مختلفتين، جزء غير مادي يحمل القداسة ذات الطبيعة غير المادية وهي ترتفع إلى السماء كتلة هلامية لا معالم محددة لها وهي في طريقها نحو السماء، بينما تتخلف بقايا الجسد الممزقة التي كانت تعرض من على شاشات التلفاز في صور المعركة، أشلاء مقطعة تحتل قعر اللوحة وهي ليست إلا بقايا من كتل حمراء وسوداء غامضة ودامية وتشبه بقايا الدم المتخثر، وبذلك تمكن هاشم حنون من الكشف عن الطاقات التعبيرية التي ينتج بها الجسد وبقاياه الدلالات التعبيرية المضمرة فيه، فلا يعود الجسد يوجد خارج عالم الأشياء، بل يبدأ عالم الأشياء بالانتماء إليه بعد أن تكون الاشياء قد انفصلت عن عالمها بفعل قوة مدمرة؛ فتغدو كينونته كينونة لبقاياه، ولا يعود الجسد دالا مكتفيا وقادرا على توليد سلسلة لا متناهية من الدلالات انطلاقا من تنوع الأنماط الصانعة لكينونته؛ وبذلك يكشف هاشم حنون عن مسلك آخر تتحقق فيه كينونة الجسد من خلال فعل اندماجه ببقاياه التي تسد مسده، وحينما لا يتبقى منه إلا تلك البقايا، " عندما يستعصي العثور على معنى للكل، بإمكان المحلل أن يعود إلى الأجزاء. فقد لا يدل الكل إلا من خلال أجزائه، أو قد تختلف دلالة الكل عن دلالة الأجزاء المكونة له." كما يقول سعيد بنكراد.
لقد كرس هاشم حنون هذه الهندسة الشكلية واللونية والدلالية طوال عقدين من الزمن، لم يبتعد فيها أحيانا عن تناول الجسد باعتباره المكان الذي تمارس فيه أبشع جرائم البشر ضد أنفسهم إلا ويعود إليه سريعا بفعل الغربة، وأوضاع العراق التي لم تتبدل منذ حرب الخليج الأولى وحتى وقتنا الحاضر، فامتلأت نفسه بالحزن والغم على بلده الذي احترق وما زالت حرائقه مستعرة، فكانت عناصر لوحاته الأولى تختفي يوما لتظهر يوما آخر، ولتبلغ أقسى تمظهراتها من خلال تلك البقايا المادية لأجساد العراقيين: لبقاياهم التي لا تعدو أن تكون خرقا أو أشلاء أجساد محترقة، أو بقايا قطع جنفاص المواضع المحترقة التي ملأت المدن وهي تستعد للحظة الحرب، أو بقايا الآثار التي خلفتها الحرب الطويلة التي مرت بها مدينته البصرة، المدينة التي ولد وعاش فيها الرسام سنوات حياته الأولى، المدينة التي طالما اجتاحها الغزاة وموجات الطاعون على مر التاريخ.

ثقب في جذع نخلة










دهشة أزلية أمام الثقوب الغامضة
كما في المستحثات، آثار السطوح التي تركها الزمن بصمة مكوثه الطويل عليها، تستحث تلك المستحثات، وآثار الجدران، هي الأخرى، الذهن لاكتشاف عشرات الأشكال، والحيوانات والإشارات، فكان عالم النفس الألماني روشاخ قد رفع هذا التكنيك إلى ما يشبه الآلية الثابتة لديه في استدرار الذكريات من اللاوعي، وايضا جعلها كذلك الكثير من السورياليين كذلك لنفس الغرض، فقد كان ماكس ارنست يسميها (frottage) ، وهو تكنيك كان يتبعه لصنع (حقل متعرجات) يقوم باستقرائه، واكتشاف شتى اشكال الكائنات والمسوخ فيه، وهو ما فعلته صحيفة الصباح حين وضعت صورة ثقب في جذع نخلة امام عدد من القصاصين وتركتهم يتاملونه بهدوء.
لقد رافقت الملحق عدد من لوحات وتخطيطات الرسام محمد مهر الدين، ربما كانت هذه صدفة، وربما كانت تخطيطا مقصودا، وهي في كلتا الحالتين جاءت في محلها تماما؛ فهذا الرسام واحد من أولئك الر سامين الذين تعاملوا مع الثقوب في جسد اللوحة باعتبارها عنصراثابتا في ذلك البناء، وهو ما كان يفعله عدد من الرسامين الذين كانت الثقوب بالنسبة إليهم عنصرا بنائيا جوهريا في بناء لوحتهم، أكثرهم كان راكان دبدوب، وهو نحات كان يتعاطى الرسم، فكان يتعامل مع تلك الثقوب تعاملا يشابه تعامل النحات هنري مور مع ثقوب منحوتاته التي كان يصنها غائرة تخترق المنحوتات؛ فتخلق وشيجة تربط وجه المنحوتة بقفاها، هي "كائن تتواجه جهتاه على الفور" (فوكو، الكلمات والاشياء، مركز الانماء القومي 1990، ص 4) وهذا ما لا يتوفر في اللوحة ذات السطح الواحد، فكانت الثقوب في لوحة راكان دبدوب، ربما يمكن تصنيفها باعتبارها خيالا نحتيا يقع دون ملموسية النحت.
ان من تدارك حاجة الثقوب الى وجهين ليتم الربط بينهما كان الرسام الراحل شاكر حسن ال سعيد، الرسام الذي كان يصنع الثقوب حقيقية في جسد اللوحة، وربما كانت فكرة هنري مور قد ظلت جاثمة عليه وهو يرحّل ثقوب ذلك النحات من حقل النحت الى حقل الرسم ذي السطح الواحد، كان عليه اذن ان يخلق للوحة وجها ثانيا !!؛ وهو ما فعله هذا الرسام ذو الخيال الجامح والاستثنائي؛ فقد صنع لوحة ذات وجهين مثقوبة ثقوبا غائرة تربط بين وجهيها، فكان يغلفها بالزجاج الشفاف الذي لا يعتبره مادة مؤثرة، فتبدو اللوحة منحوتة مسطّحة، او لوحة بسطحين مثقوبة ثقوبا غائرة.
كان ثالث هؤلاء الرسامين: (صانعي الثقوب)، الرسام الذي استضافه ملحق الصباح: محمد مهر الدين؛ لترافق رسومه وتخطيطاته نصوص اولئك القصاصين، انه لم يكن يصنع الثقوب غائرة في جسد اللوحة، كما كان يفعل ال سعيد، كما لم يصنعها بوهم البعد الثالث، كما كان يفعل راكان دبدوب، بل كان يصنعها ثقوبا ببعدين تشكل فراغا (punch) ابيض يحتل غالبا اماكن مهمة في جسد اللوحة، تماما كالثقوب السوداء في عمق الكون، تلك التي حار الفلكيون في معرفتها ان كانت تؤدي الى وجه اخر من الكون ام لا، فكان هدف مهر الدين من خلالها، ومن خلال الثلمات التي يرسمها بالابيض، ليس الايحاء بوجود سطح ثان للوحة؛ ومن ثم العمل على ربط سطحي تلك اللوحة، بل الايحاء بوجود خرق في المساحة اللونية في سطح واحد لا ثان له، وبذلك فان ثقوب مهر الدين هي ثقوب ذات طبيعة تقنية، تخلق انقطاعات تماثل انقطاعات الشعر التي يملؤها القارئ.
ان هؤلاء الرسامين الثلاثة يستثمرون تلك الدهشة الانسانية امام الثقوب ايا كان شكلها، في حوار ثقوب "فان العينين، بنورهما المحدد تعكسان النور الاعظم الذي تنشره في السماء الشمس والقمر؛ والفم هو فينوسلان من خلاله تمرّ القبل وكلمات الحب؛ والانف يعطي صورة صغيرة لصولجان جوبيتر وشارة ميكور" (فوكو، السابق، ص 41)، وهو ما فعله القصاصون المشاركون في ملحق الصباح، الذين جعلوا العنوان (ثقب في جذع نخلة) قاسما مشتركا ومضمارا دلاليا وفنيا، في عدد يوم الاربعاء 28 ايار 2008، وقد ساهم في هذا المشغل القصصي كل من القصاصين: قصي الخفاجي، ناصر قوطي، نوفل عبد الواحد، عباس البغدادي، باسم القطراني، خيري القروي، فقد دهش هؤلاء من مرأى الثقوب في جذع النخلة، تماما مثلما كانت دهشتي في البصرة، عندما كنت ذاهبا، اثناء حرب الثمان سنوات، الى مديرية النشاط المدرسي، وكانت تقع خلف بهو الادارة المحلية في منطقة الجبيلة، وكانت، وقتذاك تقع وسط منطقة زراعية يخترقها شارع تقع بناية البهو بدايته، وكانت شظايا القصف الايراني على البصرة قد احدثت ثقوبا عميقة في حيطان الكثير من البيوت وقتها، فكانت هنالك على حائط احدى البنايات المحاذية للشارع، ثقوب في حائطها المبني بالطابوق الاصفر الناصع الذي كان يبدو تحت اشعة الشمس بلون الذهب، او ربما كان بشكل ادق، بلون (الخريط)، ذلك المسحوق الكتكتل الذي يصنعه المعدان في اهوار العراق من حبوب لقاح ازهار النباتات المائية التي تنمو في الاهوار، ويصب في قوالب تشابه (جبن العرب)، بدت لي تلك الثقوب وقتها مدهشة، فكنت اتاملها بعناية، كان ذهني مشغولا وقتها بالشظايا التي لم تستقر في الحائط ترى هل استقرت في قلب احدهم، لحظتها اطل عصفور علي براسه من ذلك الثقب، لقد كان ثمة عصفوران يبنيان عشهما في الثقب الذي صنعته الشظية، كان يبدو ذلك بالنسبة لي برهانا على ارادة الحياة في الحرص على نفسها، حرصها الذي يدفعها الى ان تخلق مقابل كل موت ولادة في الجانب الاخر منها، لم اكن قاصا لاكتب هذه الحكاية قصة، ولكني سردتها بما اعانتني عليه مقدرتي، كانت انسنة الثقوب اذن الية مشتركة للقصاصين هنا بالية التشاكل الصوري التي كان يتبعها الرسام ايف تانغي مثلا، حينما يتحول بين يديه الحصى الى حصى بشري يتدفق روحا انسانية!.
لقد وظف قصي الخفاجي الثقب في جسد النخلة ارتباطا مع الوعي الشعبي وما يسكن اللاوعي الشعبي كذلك من خوف من تلك الثقوب التي ترتبط بكائنات تسكن فيها؛ فكانت قصته حكاية ذات حكمة بالغة التقطير، حكمة شعب كامنة في لاوعيه الجمعي التي تجمعت على مدى قرون، بينما كان عباس البغدادي مازال يتحرك ضمن قوانين هذا العالم لم يبرحه وهو يتطلع الى الاف الثقوب التي صنعتها القذائف الغائرةفي اجساد النخل؛ فكانت ملاذا، هذه المرة، لكائنات من نوع مختلف، كائنات بالغة الصغر كالنمل وحشرة الارضة؛ فكانت تبدو "كدم الثقوب الاصفر، يفور في الليل، ويهدا في النهار".
استعار ناصر قوطي سطح الرسم الى القصة فبدأ يحكي قصته نقلا عن سطح مرسوم بالقلم الرصاص، وشيئا فشيئا يتبدى الثقب في جذع النخلة الغاطس في الماء "وكأن نحاتا عمل بازميله ليال طوال حتى يخرج بتلك النتيجة المذهلة"، فصار الثقب الاسود عند ناصر قوطي "اقرب الى عين انسان... كانت عينا فارغة الا انها واحدة... تشاركني رؤية وحشة المكان.. تشاركني الرؤية..."، وكان يصف الثقوب الاخرى الصغيرة بأنها "ثقوب سود صغيرة كانت تستشري وتنتشر كالبهاق وهي تحيط بتلك العين الوحيدة"، وبذلك فقد اسس الراوي بينه وبين ذلك الثقب "الفة غريبة فيها من البوح والشجن كما لو بين كائنين حيين"، ذلك الثقب الذي تحول في الغربة الى ضوء فنار يتلمظ من بعيد.
تحولت ثقوب جذوع النخل عند باسم القطراني الى افواه تصدر انينا كان الحاج مصطفى العثمان قد "ادخل راسه في بعضها واسنانه تصطك ذهولا. الان بوسعه ان يسمع الشهقات ترن في اذنيه وهي حبيسة تلك الجذوع الجرداء"، ثقوب نشقت روح الحاج مصطفى العثمان، فصار النخل بعدها قد "عاش واثمر وما يزال...".
لقد جعل القاص خيري القروي ثقب النخلة مرصدا له، اخرجه في النهاية من الجنة الى اتون الجحيم، بينما تحول الثقب في نخلة نوفل عبد الواحد نحو راس حبيبته، وكان في قصة كاظم حميد الزيدي ليس سوى ذكرى دموية في راس رجل كان فاقدا للذاكرة سنوات طوال.
نرى اذن اية دهشة، وذهول ذلك الذي يكمن في لا وعي الانسان امام ثقب غامض، ثقب عميق في جذع نخلة!!.

(مقترح للنزهة) مجموعة شعرية لعلي النجدي







المقطع الأخير جوهرا للقصيدة

خالد خضير الصالحي
khkhiraq@yahoo.com

"انتظريني
انتظريني
قليلا أيتها الروح
الصاعدة..
أغصانك
أصابع مودة فارغة
وشياهك
للريح"

******
غالبا ما نتخذ غلاف الديوان، باعتباره واقعة بصرية تشكل مدخلا إلى النص، فكان غلاف المجموعة الشعرية (مقترح للنزهة) للشاعر علي النجدي، يهيمن عليه هارموني لوني يشكله اللون الأخضر الضارب إلى لون الحشائش الذي تندس به خلسة صورة الشاعر في الغلاف الأخير وهي تكتسي بمسحة من ذلك اللون لتندغم ومقتبسا للدكتور لؤي حمزة عباس بالغلاف تماما، كما ينطوي الغلاف ولونه الحشائشي على حديقة مجتزأة من لوحة للرسام الفرنسي بول كليه وشذرات مقتطعة منها موزعة بذكاء اتسم به المصمم الرسام صدام الجميلي، فكان اختيار المصمم للرسام بول كليه موفقا حيث طالما حير تفرد ذلك الرسام بول كليه متلقيه الذين لم يتمكنوا في تصنيف منجزه، فقد نأى بنفسه بالوقوف بعيدا ووحيدا في طرف قصي من فن الرسم، فرغم انه يسير مع الرسامين كلهم ولكنه فريد فيما أتى؛ فلم يكن الرسم بالنسبة لبول كليه إلا حلم يقظة طفولية متواصلة يجب ان تنتهي إلى سبر أغوار اللامرئي من الوجود البصري.
لقد بدا غلاف المجموعة وكأنه أحد التحولات البصرية لقصيدة الشاعر (لي) في مجموعته هذه:
"بيت
لا يشبه البيوت
عشبة
لا تشبه المراعي
أطفال لا يشبهون الذكريات
أصدقاء
لا يشبهون المرايا
...
نافذة
لا تطل
شمس
من ورق
...
حياة
تتساقط
حبات
رمال"
******
لقد هندس علي النجدي نصه بدءا من العنوان فكان عنوان المجموعة (مقترح للنزهة)، عنوانا مولدا للعنوانين الفرعيين فالشعر عنده نزهتان (=رحلتان): (نزهة النهار) و(نزهة الليل)؛ فيولج رحلة النهار برحلة الليل؛ فينتهي الشعر عنده إلى نزهة تبتدئ من غلاف المجموعة وتنتهي بكل تفاصيل النص، فكانت نصوصه ناتج تقطير (إتلافي) للغة لا يبقي منها إلا جوهر الشعر (=الحلم) حلم يومي ليس إلا لمحة خاطفة تجمع ملتقطات احفورية من اليومي لتجعلها جوا سائدا يلف عوالم القصيدة: فكان جو الاستغراب يلف قصيدة (أطراف جديدة)، وحميمية الذكريات تلف عالم قصيدة (عند شاطئ هادئ)، وكذا جو الانتظار الخانق الذي يهيمن على قصيدة (لعبة).
يتاطر نص علي النجدي بحلمين كئيبين هما أولا قصيدة (وطن) "...يفكر بمدن لا مرئية" مثل مدن بول كليه الشهيرة، "بوجوه نابضة"... وينتهي فيه الأطفال بأن لا يعودوا "بحاجة، إلى مدنه الخفية، لتكون وطنا"، وانتهى بحلم قصيدة (نداء) حيث "البلاد الدخان، تبحر، شاحبة"... فقد "تغير كل شيء".
بدت لي كتابة علي النجدي بوحا مسموعا او خطابا راجعا موجها من الشاعر نحو ذاته:
"حين تدفعك الكوابيس
إلى الصباح
ادع نفسك لفنجان من القهوة
... "
(مقترح للنزهة)
"أتعرف
ان شخصا بداخلك
يعرف كل شيء
يمضي بك نحو بياض"
(روحه برتقالة)
"أرجعت سبابتك إلى الحائط
وقلت هنا"
(باب)
"قد يستوقفك احدهم ذات صباح
ترمقه بنظرة عابرة"
(نظرة عابرة)
"اسأل قميصك عن أسماء الفراش،
اسأل كينيك اللتين مازالتا ترعيان روحي
اسأل المروج"
(كل الحكايا، من دونك، عابرة)

******
رغم ان قصيدة علي النجدي "تحتفي... باللحظة العابرة، وتنشغل بالواقعة اليومية محاولة التقاط ما هو حلمي فيها" كما جاء في تشخيص دقيق لصديقي الدكتور لؤي حمزة عباس، إلا ان يومية الواقعة لم تثن الشاعر، عن هندسة (كل شيء) في ديوانه!، فقد كان يقلم أطراف النص إلى ان ينتهي الأخير إلى لقطة منفردة او صوت منفرد تلفه أنفاس جو منفرد وحيد يؤثث أرضية القصيدة، متمثلة غالبا في مقطعها الأخير الذي يبدو الشاعر وكأنه يبتدئ كتابة القصيدة منه، فان جوهر القصيدة يبتدئ من ذلك المقطع الذي يحتم على القارئ إعادة قراءتها، مرة ثانية، انطلاقا منه؛ وبذلك يكون ذلك المقطع جوهرا للقصيدة وتكون كل التفاصيل الأخرى ليست إلا إكسسوارات ملحقة او في أفضل الأحوال ليست إلا فلاش باك او تداعيات مضت (يسردها) الشاعر حينما يكتب (الآن)، حتى انه، في أحيان كثيرة، يلقي بإشارة نصية تدل على آنية الحدث هذه في القصيدة، وغالبا ما يلقي بتلك الإشارة في المقطع الأخير:
"هو الآن ..."
(وطن)
"يحدق الآن..."
(أطراف جديدة)
"الطائرة ما زالت"
(عند شط هادئ)
"ترى ما الذي افعله الآن"
(ظل كثيف)
"انك الآن ..."
(نسيان)
"على جذعها اتكئ الآن"
(غياب)

السبت، 29 أغسطس 2009

الفوتوغرافي زياد تركي





الصورة الفوتوغرافية .. مشروعا تأويليالانفصال عن الواقعة
حالما تنفصل الصورة الفوتوغرافية، عند زياد تركي، عن اية متعلقات بالواقعة: المعلومات الثائقية، والعنوان، واشارات المكان والزمان ونحو ذلك، فلن تعود جزءا من الارشيفات والسجلات التاريخية والوثائق والمعلومات .. وتندرج عندها ضمن مشروع بصري تأويلي ذي بعد انساني مفصول عن لحظته التاريخية، مشروع لمجاز منطو على ذاته، ومكتف بها، ويحمل صفة هامة باعتباره ليس الا اثرا من واقعة ذات بعد انساني عام، فتنتهي عندئذ تاريخية اللقطة، وتتسع المسافة، وتبتعد الشقة بين الواقعة والصورة حدّ اكتفائهما الذاتي، فينتهي المعيار التاريخي للصدق، ذلك الذي يقع في وهمه، كتّاب كثيرون حينما يتهمون انماط التصوير والصور التي يمكن (التلاعب) بتفاصيلها، بعدم الصدق جرّاء هذا التدخّل البشري، ولكننا نعتقد ان هذا المعيار يبدو ضيقا للغاية، وقد لا ينطبق الا على حدود ضيقة من التصوير الفوتوغرافي، كما لا تصحّ برأينا معايرة صدق الادوار التاريخية (=أدوار الاستحالة) التي مرّت بها الصورة الفوتوغرافية، وادت فيها مختلف المهام، خلال تطور (تكنولوجيا) التصوير عبر التاريخ؛ ومنها اعتبارها دالة على الواقعة التاريخية؛ وبذلك تتم اعادة انتاج مفهوم (الصدق)، وهو ما حاولت تجربة زياد تركي الفوتوغرافية الاسهام في تأسيسه حينما عرضها مؤخرا في معرض اقامه ضمن ملتقى المدى الابداعي في مدينة اربيل.
المحنة الانسانية
لقد كانت المحنة الانسانية هي الثيمة الكبرى التي قدمها معرض زياد تركي فيظهر فيها الانسان مقهورا، مقهورا، ومحطما، وحائرا، امام ابواب الحياة الموصدة دونه فكان التعبيرعن الحالة الداخلية من خلال عناصر الشكل الخارجي والعناصر الشيئية للصورة الفوتوغرافية، عند زياد تركي، يتم من خلالها توظيف عناصر الصورة والواقع كمجسدات لهذه الثيمة عبر تلاعبه بتوزيع الظلام في الصورة، بهدفين؛ هدفدرامي، حيث تطْبق تلك العتمة الثقيلة، كالكواليس، على الوجود الإنساني، تاركة له فسحة ضئيلة من مساحة الصورة (=الأمل) التي يظهر الضوء فيها، فكان توظيف الضوء من اجل إبراز "لحظة إدراك في وجوه وتلميحات الموضوعات؛ وكل ما سواه ملقي في الظلّ"، كما يصف الناقد (دونكان بول) أجواء مشابهة لتجربة زياد تركي، حيث تبرز التباينات بين الضوء والظلام، وثمة هدف سايكولوجي استبطاني يأتي ضمن محاولة للإمساك "بالحياة الداخلية لموضوعاته، عبر توزيع الضوء والظل لإبراز تعابير الوجوه التغضنة المحفورة بفعل الزمن القاسي الذي ترك اخاديد كان قد حفرها بقسوة لا توصف، فتبدو لحظات الإدراك والإستغراق في التفكير، والإنغماس في التأمل، في وجوه نماذجهالمختارة بالتزامن مع الجدران المرتفعة التي اخذت مساحة الجزء العلويّ الأعظم من اللقطة، فسحقت هيمنتها على فضاء الصورة أية مقاومة، يمكن ان تبديها تلك (الكائنات) البشرية المحشورة بين ظلفتيها تاركة إياهم غارقين في محنتهم، ساهمين، حائرين، بمصيرهم المحزن.
يقول زياد تركي
عن تجربته التي قدمها في معرضه في ملتقى المدى الابداعي الاخير في مدينة اربيل، يقول زياد تركي:داخل تلك المخلفات التي كانت يوما ما بنايات (محترمة !) تثير فينا الرعب ..والخدر ..والحذر ..والتقزز احيانا، والتودد احيانا اخرى,كانت هناك سجون وغرف تحقيق وغرف اجتماعات واخرى للنكات ,ولم تك تلك الغرف تخلو من صورة الاوحد ..الفريد ..العنيد.. الجبار .. اليوم لم تعد تلك الصورة معلقة ولم يعد له أسم مما كان . في جوف تلك البنايات ,وجدت من يفترش الاضابير للمنام وهناك من اقام مطبخه الصغير في زنزانة مفردة ,وهناك من يشارك زوجته غرفة رئيس التحرير الاطفال وجدتهم يلعبون في مكتب أمين سر الفرع ,وهناك صبي يغازل فتاته في غرفة المدير العام ... الى هؤلاء الى من يستحق منهم المأوى .الى عيون أطفالهم جميعا أهدي هذه الصور .
زياد تركي
ولد زياد تركي - 1964
معهد الفنون الجميلة - قسم المسرح 86
كلية الفنون - سينما 99
مصور فوتغراف وسينما
مشلركات في معارض عالمية
معرض شخصي في معهد غوته في سنغافورة
مصور فلم ومساهم في انتاج فلم (غير صالح ) اخراج عدي رشيد هذا الفلم حاز عل جوائز2004
مصور فلم العراق موطني لهادي ماهود 2005
مصور فلم زيارة الى جنة اخراج مقداد عبد الرضا 2006

الأحد، 23 أغسطس 2009

فاخر محمد وعاصم عبد الأمير وهاشم حنون













تماثل الهيكلية البنائية



خالد خضير الصالحي
khkhiraq@yahoo.com

حينما ظهرت تجارب الفنانين فاخر محمد وعاصم عبد الأمير في معارض جماعة الأربعة كانت تمتلك قدرا واضحا من القطيعة التي جعلت الكثيرين غير مقتنعين تماما بإمكانية بعث الجماعات الفنية، وبدعاوى جماعة الأربعة باعتبارهم جماعة ذات اتجاه فكري يجمع شتات تجاربهم المختلفة، إلا ان توالي معارض هذه المجموعة والمزاملة الطويلة لبعضهم واستضافتهم للرسام هاشم حنون بدأ يلاقح تجاربهم ببعضها، وينقل تأثيرات احدهم إلى تجربة الآخر؛ فبدأت تجاربهم تقترب من بعضها ونخص الآن منهم الرسامين: فاخر محمد وعاصم عبد الأمير وهاشم حنون، حيث لم تتشابه تجارب هؤلاء شكليا فقط بل وتماثلت بالهيكلية البنائية السرّيّة التي كانوا يبنون عليها تجاربهم فقد كان نسيج اللوحة عند هؤلاء الرسامين لا يمتد فقط في انتشار سطحي بل يمتد ويتغلغل عمقا، وفق بناء مؤلف من طبقتين (أي من مستويين = شريحتين بنائيتين) هما: مستوى (الباك كراوند) الخلفية (بعدان = طول X العرض)، وهو المستوى الذي يؤسسه تكنيك الألوان، حيث تستعاد علامات المحيط (= آثار الزمن في المحيط أو ألوانه التي تركها على المحيط) آثارا وبقعا وألوانا وسوائل مسكوبة دون وعي، وهو، أي هذا المستوى، يعالجه الفنان أولا، من الناحية الزمنية، فهو إذن مستوى غائر، تمثله بقايا مقتطعة من حائط أو بلاطة قديمة دونت الرطوبة والتعرية عليها آثارها، فبدا عليها فعل الزمن واضحا، وهي طبقة فاتحة من اللون دائما؛ لأنها مهيأة لاستقبال الأشكال الداكنة التي في مخيلة الرسام. بينما يبدو المستوى السطحي الكاليغرافي (العلامات = الخط = البعد الواحد)، داكنا، قريبا من السواد، الذي يقترب لونه من لون الحبر (الفاحم) الذي كان مداد تدوين المخطوطات، وهو يمنح اللوحة (بنيتها الشكلية) الأهم، ويجمّـعه فاخر محمد من عناصر شتى، من (مخلفات البشر) وآثارهم ورسومهم وعلاماتهم، من علامات جدران كهوف عصور ما قبل التاريخ وحتى الزمن الحاضر: أشكال حيوانات عاشت في تلك الأزمان وأسلحة صيد بدائية (سهام وأقواس)، وأشكال أنشأتها الحضارة :كالنقاط والمثلثات المتقابلة بالرأس غالبا، والنماذج والأشكال الهندسية الأخرى. خدوش وأطراف توحي بأشكال بشرية وحيوانية دونما تفاصيل محددة، نثار من خطوط كأنها مطر يرسمه الفنان فاخر محمد كما يرسمه الأطفال، وعلامات غائرة في الوعي الشعبي مثل أشكال البسط والسجاجيد وعلامة الكف التي يرفعها الناس في المواكب الدينية، أو التي تدق عند مداخل البيوت دفعا للحسد، بينما يتمثل عند عاصم عبد الأمير بوسيلة شكلية يعمد إليها الرسام ليؤكد أشكال اللوحة بعد الانتهاء من الطبقة السطحية للون وهو ما يفعله هاشم حنون كذلك ولكن بطريقة انتقائية لا تعدو ان تكون بضع لمسات خطوطية تشكل خارطة طريق للمتلقي ليتلمس بنفسه الأشكال التي (توحي) بها بقع اللون.
وبذلك تكون هذه الآلية هي ذاتها عملية (الانتحاء الرئيس) كما يسميها فرانكلين ر. روجرز ، وهو اتحاد الصور الذي يحدث في مخيلة الفنان بين صورتي الواقع (وهي هنا ما تثيره طبقة اللون من أشكال) والذاكرة (وهي ما يضعه الرسام من خطوط تحدد المياه الإقليمية لأشكاله)، حيث السطح (=البعدان) ينطوي على العلامات الخطية (البعد الواحد)، وأيضا يتفانى التشخيص والتجريد معا لإنتاج مادة كثيفة رؤيويا هي (المادة الجوهرية) العصية على التشكل ، بل أن كل عناصر اللوحة تنصهر في (البعد التقني) لتلك المادة، إلا ان علاقة هؤلاء الرسامين الثلاثة بهذه العملية متفاوتة القوة وهو ما يعطي لكل منهم سماته الأسلوبية المتفردة عن الآخرين إلا أنهم جميعا متفقون على الطبيعة الشكلية لهذه الآلية حيث يضعف الطابع النفعي للعلامة أي البعد الاتصالي، ويكرس بعدها الشكلي المجرد، وهم بذلك يكرسون (البعد الأسطوري للتدوين) حيث يتوحد اللغوي بالشكلي (=مدونات الأوفاق والتعاويذ والسحر) وهو ما يسميه شاكر حسن آل سعيد (التفاني =بمعنى فناء كل جانب في الآخر) ، حيث لا وجود عندها لثنائية (الشكل والمحتوى)، فالرؤية تتخذ تركيبة من (قالب الشكل) وتصبح الفكرة هي شكل الأشياء التي جمعتها المخيلة، وهي ذاتها فكرة الشيء التي يسميها الرسام ماكس آرنست (العلة الأولى)، وذلك ما نتلمسه في توجه واسع في الفن التشكيلي العربي الحديث: شاكر حسن آل سعيد، التريكي ، المليحي ، كريم رسن "وهو اتجاه يكرس فناء اللغوي ببعديه الحروفي و ألعلاماتي في التشكيلي وفي الرسم بشكل خاص".
ان الامتلاء الواعي والاحتفاء غير المحدود بموجودات الواقع في أعمال هؤلاء جميعا جعلنا نعتقد ان هؤلاء الرسامين لم يعرفوا التجريد، ولم يمارسوه كما يفعل الكثيرون، إنهم يوظفون علامات المحيط، ويوظفون محتويات الذاكرة التي تتم استعادتها يوما ما، باعتبارها (المادة الجوهرية) التي تملأ ذاكرة هؤلاء؛ فيستلون منها ما يشاءون، دون ان يعرفوا كيف ومتى يحدث ذلك. ورغم الحرص الواعي على إخفاء (المصادر الواقعية) للوحة، إلا ان مصدر الشيء (فكرة الشيء) أو بكلمة أدق (بصمة الواقع التي لا تمحي) تكون قد تركت (علامة لا يمكن إزالتها)، لأنها (الجرثومة الطوبولوجية) التي هيكلَ الفنان بناءَ لوحته عليها بطريقة لاواعية منذ وضع أولى لمساته على سطح اللوحة، تماما مثل كثير من لوحات كاندينسكي (التجريدية)، فلوحة كاندينسكي (دراسة لتكوين رقم 4) مثلا ، قد تبدو (تجريدية) من نظرة سطحية، إلا انه لم يزل هنالك الكثير الذي يمكن تبيّـنه من (تشخيصات) الواقع: يقف المحاربون المسلحون بالرماح وسط الحشد، يعتمر بعضهم القبعات الحمراء، وتظهر خلفهم القلاع التي جرت المعارك قبالتها، بينما تظهر أسراب الطيور والشمس في جانب اللوحة و يظهر قوس قزح بين الغيوم في الجانب الآخر.

السبت، 22 أغسطس 2009

صدر الدين امين رسام تسكن لحيتة العفاريت والكائنات المركبة



لم يكن إجماع النقاد عندنا على ان الرسام الكردي العراقي المقيم في بنسلفانيا صدر الدين أمين فنان بدائي، دونما أسباب قوية كان أهمها: درجة الهوس التي يبديها ذلك الرسام بالمحيط والبيئة، وموجوداتهما من الكائنات التي يتخذها وسيلة بصرية بهدف الكشف عن المعطيات الجمالية الكامنة في ثنايا الكيان المحيطي بصفته موضوعه الأثير وربما الوحيد، فكانت لقى ذلك المحيط تشكل بوابة الفنان إليه، لقى كان يبني وفقها منظومته الشكلية، فمن لا يعرفه سيحكم على تجربته وكأنها تجربة رجل بدائي, مازال يعيش في احد أدغال مجاهل أفريقيا الاستوائية, يرتدي لباسا من الريش او الجلد, يركض خلف الطرائد، يعيش في الكهوف والمغارات, وهو لم يفعل شيئا سوى انه نسخ لنا رسومه من صور الطرائد على جدران تلك الكهوف.
لم يكن صدر الدين أمين يؤمن بما امن به عشرات من الرسامين العراقيين باتخاذ مستحثات الجدران العتيقة موضوعا لهم فكانوا يستقرئون سطوحها، ويجرون بحوثهم الأركولوجية عليها؛ لاكتشاف كوامنها الإشارية والعلاماتية؛ باعتبارها مقطعا عرضيا, او شريحة نسيجية تحمل واقع الحياة الإنسانية في اصغر تفصيلاتها؛ من خلال اكتشاف مخلفاتها التي تشكل أثرا لمرور إنساني ترك إشارته علي سطح المحيط: كتاباتٍ, وآثاراً, وحزوزا، حينما مثلت هذه الحكايات والأساطير معينا أساسيا في تشكيل البنية الثقافية المستمدة من الميثولوجيا الشعبية لمناطق الغابات الجبلية في العراق, والتي أعاد صدر الدين أمين صياغتها من خلال فن عالي التقنية والصياغة البنائية.
يؤكد الرسام صدر الدين أمين في كل عمل جديد، او قديم, بأنه ليس فقط مسكونا بهاجس التوحد مع الطبيعة باستحضار كائناتها, بل هو متوحد بعناصرها, ربما كان ذلك راجعا لإيمانه بحتمية عودة كل كائن، يوما ما، إلى الطبيعة, من حيث أتى، فتتحلل عناصره، وتمتزج بعناصر الطبيعة المكونة, عناصر خرجت منها يوما ما، وستعود إليها يوما، وستنبعث منها تارة أخرى ضمن مكونات كائن آخر مختلف.. وهكذا؛ وبذلك يكون نزوعه نحو تأسيس لوحته من عناصر الطبيعة البكر, إقرارا بوحدة الوجود وعناصره الخليقية التي يحشّدها في لوحته بكرم باذخ, وباندماج ذوباني بين تلك الموجودات, وبشكل تكون فيه تلك العناصر مادة مشرعة دائمة للخلق, فهي إذن عناصر تكوين ( محايدة ), من الناحية ( الاجناسية ), ان صح التعبير, مستعدة لبناء أي عنصر او كائن جديد, فهي دائبة الحركة والانتقال, من كائن لآخر، او من مكان لآخر.
ان احد أهم الأدلة على إيمان صدر الدين أمين بوحدة كائنات اللوحة هو تعطل اشتغال فعالية الشفرات الجينية لكل كائن بشكل يخرق مواصفات النوع, ويؤدي إلى امتزاج المواصفات الخليقية للكائنات, فكثيرا ما تتعدد أطراف احد ذوات الأربعة, ولعدد غير محدد, في كل مرة, حتى يقترب أحيانا من أشكال الديدان ونحوها, فلا وجود لمواصفات موروثة ثابتة, تحفظ لكل نوع خليقي مواصفاته الجينية وتميزه المحفوظ, وبذلك يبرهن أمين على انه قد خطى خطواته: الأولى والاهم, نحو تحقيق وحدة العالم الحيواني, وصولا إلى تحقيق نزوع الكائنات للعودة إلى أزلها, أي تحللها إلى كائنات مجهرية, من ذوات الخلية الواحدة, خلية محاطة بغشاء يحفظ أجزاءها من التبدد, وصولا إلى الخلية ( الحيوا - نباتية ), ان كانت تصح مثل هذه التسمية في علم الأحياء.
يحقق الرسام صدر الدين أمين شكلا آخر من أشكال الوحدة على سطح لوحته, بتأكيد ذوبان الحدود الفاصلة بين التشخيص والتجريد, حيث لا يمكن في كل مرة وبثقة, تبين طبيعة العديد من أشكاله, هل هي كائنات مجهرية تمظهرت بمظهر تجريدي, أم ان ما نشاهده نمطا تجريديا تلبس, عبر عملية تشاكل صوري, شكلا ما, شكلا كان قد علق بذاكرته من أشكال الكائنات المجهرية, فيكون ذلك واحدا من أهم أسباب افتراض وجود الوحدة الخلائقية في تجربة هذا الرسام.
نتلمس في تجربة صدر الدين, نمطا آخر مهما من التوحد,ذوبانا للحدود بين الهندسي والطبيعي، فقد يتحول قرص الشمس بيسر من دائرة هندسية تامة الاستدارة, إلى كائن أميبي, تخرج أطرافه خارج الشكل الذي كان دائريا فصار شكلا طبيعيا غير تام الاستدارة.
ربما نتخيل صدر الدين او يتخيل نفسه في مختبر بيولوجي يقوم بتجارب جينية تمازج بين جينات كائنات مختلفة، فكانت إحدى نتائج تجاربه تلك كائنا (خرافيا) مركبا غريبا، رجلا برأس حيوان، ربما يشكل امتدادا للميناطورات والقنطورات التي كانت تظهر في فنون الرسم على مر العصور، انه كائن بشري مازال محتفظا بكل نوازعه الحيوانية الأصيلة التي يؤكد نمطا منها كل مرة يستبدل فيها رأسه: برأس كلب او ذئب او طائر او ثعلب او قط وحشي، او رأس كائن لا تبين ملامحه، كائن زئبقي متلون يمارس اغرب طقوس السحر والتحولات.
مثلما وصف والت وايتمان رجلا تملا لحيته الفراشات؛ فإننا نصف صدر الدين أمين بأنه "رسام تسكن لحيته العفاريت والكائنات المركبة".

كاظم حيدر واسماعيل الترك .. اختلاف رؤية





مرة روى الرسام العراقي المغترب في لندن ضياء العزاوي عبر صفحات مجلة العربي الكويتية في ملف اصدرته عن النحات-الرسام العراقي الراحل اسماعيل فتاح الترك، بان الرسام العراقي الراحل كاظم حيدر علق على المعرض الشهير الذي اقامه اسماعيل فتاح الترك عام 1965، بعد عودة الترك من الدراسة في روما، بأنه لو حبس في غرفة لليلة واحدة لأنجز معرضين مثل معرض الترك، ولم يوافق ضياء العزاوي وقتها على ما قاله كاظم حيدر واعتبر ذلك انتقاصا من قدرة الترك، الا اني ، في موضوع نشرته عن الراحل الترك، نظرت الى الموضوع من زاوية واتجاه اخر، ووجدت ان كاظم حيدر كان (محقا)، كما وجدت ان ذلك لم يخلّ بمكانة الترك ورفعة ابداعه، وان جوهر القضية لا يتعلق بموقف او رأي لكاظم حيدر بمكانة الترك، بل بمفهوم وفلسفة كاظم حيدر والترك بفن الرسم، واسلوبهما المتناقض في بناء اللوحة، فلم تكن اللوحة عند كاظم حيدر بناء شكليا فقط ، بل ومخططا فكريا تهيمن فيه (الدلالة) وعلى وجه التحديد (التعبير عن الروح المحلية) الذي كان من الصعب على التشكيليين القفز فوقه في ظل هيمنة النقد الذي يروج لهذا الاتجاه وهيمنته على الكتابة في هذا الحقل وعلى المنجز التشكيلي العراقي برمته، وتشهد بذلك اعماله في معرض ملحمة الشهيد الذي اسميته مرة: "(آنسات افنيون) الرسم العراقي"، باعتباره (العمل) الذي احدث اكبر تحول في الرسم العراقي الحديث، حينما افتتح (معرض الشهيد) عصر الستينات بعد ان ختم نصب الحرية لجواد سليم، عصر الرسم العراقي الخمسيني، او شكل النهاية المنطقية لذلك العصر، عندما انتقل مركز الثقل الى (السطح التصويري) باعتباره "اهم مستوى من مستويات الوجود الفني"، وحيث صارت الاولويات تنطلق من، وتعود الى "إعادة تجريب إنتاج المرئي بصور مختلفة ... والاهتمام بالمادة التي يٌنفّذ بها العمل بعفوية وتلقائية وجرأة" فكان الوعي الرؤيوي للستينيين هو (الوعي المتجاوز) ذلك الوعي الذي يحاول البدء من جديد في كل مرة من خلال وعي عال بمعالجة المادة باعتبارها "بحد ذاتها رؤية".
لقد كانت نظرة كاظم حيدر للوحة، باعتبارها بناء فكريا يستغرق وقتا طويلا للانتهاء منه، نظرة تنتمي الى كلاسيكيات فن الرسم رغم اشكاله الحداثية، وتنتمي الى (حكائيات) روبنز وانجيلو ودافنشي، وكل اللوحات (القصصية) التي كانت تستلهم القصص المقدسة، بينما تنتمي رسوم الترك الى فهم مختلف تماما، فمثلما لم تولد لوحات فرنسيس بيكون وجاكسن بوللوك "من ساعات طويلة من التفكيرفي موضوع، ولا رسمت من نقاش، بل كانت تنمو من تلقاء نفسها، من صنيع من الرسم، او ربما من انفعالات العقل اللاواعي" كما قالت لليان فريدكود، فان الترك كان يعتبر اللوحة تجربة متيريالية (شيئية)، او مناسبة لاختبار المادة، فلم تكن لوحاته‘ لفرط اخلاصها لشيئيتها، بحاجة الى عنوانات مثلا، فكانت عنواناتها لا تعدو ان تكون اشارات لتمييزها عن بعضها كعنوانات جاكسون بوللوك للوحاته حينما كان لا يكلف نفسه مشقة تلفيق عنوان مناسب لكل لوحة فيكتفي بترقيمها، وهو فهم دشن عصرا جديدا في الرسم العراقي هو جيل الستينات، وبذلك فقد شكّل الترك وعدد من مجايليه: ضياء العزاوي، ورافع الناصري، وصالح الجميعي، ومحمد مهر الدين، وعلي طالب، والــ(ـخمـسـ)(ـسـتـ)ــيني شاكر حسن ال سعيد، شكّلوا الوجه الاخر من العملة التي شكل فيها كاظم حيدر وجواد سليم وجهها الاول، وبذلك لم يكن كاظم حيدر واسماعيل فتاح الترك الا وجهين لعملة واحدة هي المخاض الستيني الذي انقض على قداسة الاشكال الخمسينية فيه كاظم حيدر بينما اسس الترك و(مجموعته) الطليعية (الرؤيا الجديدة والمجددين) فهما جديدا للوحة باعتبارها مغامرة متيريالية، او واقعة شيئية، لذلك كان الترك، مثله في ذلك مثل فرانسيس بيكون الذي لا يستغرق كثيرا في التفكير بموضوع اللوحة، فيكفيه ان يغمس فرشاته باللون، ويضعها على سطح اللوحة ليظهر وجه الشاخص الذي كان يظهر ويعاود الظهور في كل مرة بمظهر وقناع جديد.


الخميس، 20 أغسطس 2009

رنا جعفر ياسين و(المدهون بما لا نعرف)








البصــــــــــــــري
واللغــــــــــــــوي


خالد خضير الصالحي
العــــراق – البصـــرة

كتبت مرة في معرض دراستي لقصيدة (عيد البوقات) للشاعر حسين عبد اللطيف "إن الاشتغال من خلال اللغة هو إحدى نعم الكتابة النقدية التشكيلية وإشكالاتها في الوقت ذاته، وهو أمر يتلمسه النقاد المهتمون بالفن التشكيلي وبالشعر معا، فقد أكد الناقد التشكيلي سهيل سامي نادر مرة "أن لا وجود للنقد الفني بوصفه حركة مستقلة، انه نص يختلط بنصوص أخرى .. انه لا ينفصل عن التقاليد الأدبية، فخطته أدبية، أوصافه وتعابيره، و لاسيما لغته كلها، وطريقته في الحكم". رغم أن الشعر والرسم من طبـيعتيـن مختلفتين: طبيعة لغوية، وأخرى بصرية، إلا أننا نشعر بوشائجهما قوية بشكل محسوس في ميدان الصورة الشعرية والبصرية معا.
إن بحث رنا جعفر ياسين في الجوانب البصرية للغة، أو ما تسميه هناء مال الله (العناصر التكوينية للوحة) بشكل يجعلها أمامنا وكأنها لوحة، باعتبار تلك هي الرابطة البنائية بينهما، بحثا عما يبثه النص البصري باتجاه النص اللغوي، وما يبثه النص اللغوي باتجاه النص البصري، باعتبارهما الوثيقتين الوحيدتين المطروحتين للقراءة ومن ثم التأويل هنا بتواشج يجمعهما معا كونهما جناحا (مدونة) رنا جعفر ياسين (المدهون بما لا نعرف)، أي بمعنى كمون مركزية القراءة في المشترك من النصوص بصرية كانت أو لغوية.
إن هذا (الكتاب الذي بين الدفتين) وهو الإصدار الرابع للشاعرة و الإعلامية و التشكيلية العراقية رنا جعفر ياسين وصدر مؤخرا عن دار سنابل للكتاب في القاهرة، يبتدئ النص ليس فقط من عنوانه، وإنما يبتدئ وينتهي في كل تفاصيل المدونة منذ لوحة الغلاف الأول وحتى صفحته الأخيرة، فقد تم انجاز غلاف المجموعة من قبل الشاعرة الرسامة ذاتها، بطريقة القص بالة حادة: مقص أو كتر، وهو تكنيك اتبعه الرسام هنري ماتيس في أواخر أيامه، وهو، أيضا، تكنيك يفتح، برأينا، الصفحة الثانية لفن الرسم باعتباره مؤلفا من آليتين رئيسيتين تماثل آليتي النحت بالتجميع والنحت بالحذف، فحينما يبتدئ النحات بالفراغ ويبدأ بوضع المادة الطيعة كالطين مثلا فإنما هو يردم المادة التي مازالت بحكم الفراغ غير المرغوب به، بينما حين يبدأ النحات بكتلة صلدة كالخشب أو الحجر فانه إنما يزيل الفراغ الذي لم يزل مادة غير مرغوب بها، وقد يمكن تقسيم الرسم تقسيما مماثلا الآن، فخلافا للرسامين التقليديين الذين يضعون المادة في فراغ الكانفاس ، هنالك تكنيك آخر كان يفعله ماتيس، في أواخر أيامه، وهو ما فعلته الشاعرة-الرسامة رنا جعفر ياسين، حينما كانت تحذف مادة الصفحة فلا يتبقى منها إلا ما هو مرغوب به ويتخلف عنه الفراغ، وهو ما تفعله الشاعرة في الكتابة أيضا، حينما تبدأ باختزال نصها مشذبة إياه إلى أقصى مدياته ليبقى محملا بفراغ العبارة التي يكون البحث عنها مهمة يحملها القارئ، وتتنصل منها الكاتبة. فمنذ عنوان مدونتها (المدهون بما لا نعرف) تضع القارئ بمواجهة مهمته العسيرة وهي ردم فراغات النص، وهو أول باعتباره بوابة النص، وهو هنا يتوفر على بنية صورية ورمزية دالة بعمق، فنحن نبتدئ مما يهمله أولئك النقاد، وهو الغلاف، باعتباره بوابة الديوان القرائية الأهم.
نحن نعتقد إن الغلاف هو جزء من هوامش العنوان؛ فرغم إن الغلاف غالبا لا يرسمه الشاعر، إلا انه في احيان كثيرة يختاره أو يوافق عليه، فيكون بالنسبـة إليـه مادة نصـية جاهزة، يماثـل ما يعـرف بالمواد الجاهــزة ready made التي يستخدمها في بناء (كتابه)، فكيف إذا كان الشاعر هو الذي رسم غلاف مجموعته ورسم تخطيطاتها الداخلية، كما فعلت رنا جعفر ياسين، فتكون مكيدة العنوان شركا تنصبه الشاعرة للمتلقي باعتباره أولى عتبات النص التي على ذلك المتلقي أن يضعها في حساباته منذ اللحظة الأولى للقراءة.
من أولى خطوات قراءتي لمجموعة رنا جعفر ياسين (المدهون بما لا نعرف) كان الغلاف أولى محطات الغواية التي أسستها الشاعرة على الغموض، غموض شكلي مطبق فليس الغلاف بصفحتيه، الأمامية والخلفية، إلا كولاجا يمارس بطريقة عكسية لتكنيك الكولاجات، فالكولاجات إن هي إلا عملية إضافة شكلية (لونية هنا)، فإذا بها تتحول عند رنا إلى عملية إفراغ للبياضات من بين ثنايا الألوان، تماما كأنها ممارسة النحت بالإضافة، وهو ذات التكنيك الذي اتبعته الشاعرة في بناء نصها، وقبل ذاك في بناء تخطيطاتها، حيث كانت في تلك التخطيطات تمارس غواية حذف المعالم المشخصة من الأشكال؛ فتكتفي ببضعة من تلك الأشكال، بضعة تومئ إلى معالم الشكل من طرف قصي، وتلك ذاتها طبيعة نصها الذي أطبق على معناه في حرز حريز؛ فمنذ صفحته الأولى:العنوان (المدهون بما لا نعرف) بدا لنا لإهداء مملوءا بفراغ دلالي؛ فلم أكن على ثقة بطبيعة ذلك الذي أهدت له ديوانها...
"إليهِ فقط ..وإلى كلِّ ما حوله من غموضٍ، وبالوناتٍ، وأسئلةٍ معلقة"،
فقد بدا لي وكأنه لم يكن شخصا!!، ربما هو من طبيعة أخرى تماما، رغم انه يتمتع بكل ما يمتلكه الكائن من تواصل مع الآخر ومن قدرة على الانسنة الحوارية.
نصها إذن نص مسكون بـ"ـمحاولة لخلق حالة بحث عن اللامسموع و اللامرئي , اللامسمى و اللاممسك الأكثر غموضا من المجهول , من خلال توظيف لغة مركبة و فضفاضة و رؤى تنفتح على دلالات مختلفة قابلة لأكثر من تأويل"، تأويل يكتسي كل احتمالات التأويل؛ بما فيها احتمالات تأويل تتجه نحو الايروتيكية الخبيئة التي يبثها النص على استحياء أحيانا؛ "الكلماتُ المكسوَّةُ باللحم ِتنتفـضُ كوصمةِ ثلج, تساءلُ الجسدَ المبنيَّ من الدهـشة:
- من بعثركَ أيها المقدسُ المعقوفُ كالخوف؟
ينهمرُ صوتـُهُ من بعيدِ الزمن, مقتربا ًمن الهوس ِالملبَّدِ ببقع ٍ حمر.. يعوي ويئنُّ.. يعوي ويئنُّ، مستلذِّا ً بغرابةِ جرحهِ المظلم:
(يداكَ تحملان ِالرأس
قدماكَ تحملان ِالجذع
أما الروحُ فقد هاجرت أعضاءَكَ المتعفنة).
ترقصُ ضحكتهُ عاريةً، مُكشِّرة ًعن شهوةٍ نازفةٍ مرشوقةٍ بالبارود:
(تسارعت نحوي خطايَ
علها تجدُ مني العظمَ أو الكفن
فأنا ضائعٌ موجودٌ
وطفولتي هجرتني من ذاكَ الزمان).
ينتابني صوتهُ, فأفكرُ:
لا تبتئسْ, مصاطبُ الموتى أتقنت الكارثة َ, والرحمة َ أيضاً".
و"الورعُ القادمُ من جوفِ الرغبةِ يطمعُ بالماءِ المجدول ِبخرق ٍبيضاءَ لا أكثر.."
" ما أن أغلقتُ الضوءَ حتى انبجست الفوضى.
الصوتُ المصقولُ بالحرمان ينفرُ من الغفوةِ الأخيرة.
(لا تقلْ..
لا تقلْ..
اهمسْ كيفما شئت بلونٍ خفيض)
ما تبصرْ طوقـِّهُ بالخوف، إغمسْ رغباتكَ في بركةٍ مارد "

"المدبباتُ/ المغالياتُ بالسخونةِ/ المناهضاتُ للنعومةِ/ المحدباتُ/ المقعراتُ/ الملوَّثاتُ بالغلِّ، يضربنَ حريرَ النعاسِ بمخالبِ الكابوس, يرتفعنَ ..، وحينَ الانخفاضِ يضاءُ ما أمكنَ من التوجّع، يستديمُ اللمعانُ بعيداً بعيداً، يبرقُ الدمُّ ويـُلعَنُ الصبرُ بشراسة".
إلا أن الشاعرة لفرط هول ما شهده العراق من أحداث دموية يتخذ خطابها لغة واضحة لا مواربة فيها
فـ"ـالمشهدُ مازالَ طرياً، رغمَ إكساب الحلم ِ طعمَ التوتِ واللذة:
(الشارعُ المنخورُ من فرطِ الرصاص/ السيارة ُالمزينة ُبالحرائق/ بيتُ الجيران ِالمبتور/ النهرُ المخلوط ُبالدم/ الدكاكينُ الغاضبة ُمن تجوالِ ِالأسلحة/ المدارسُ المكسوة ُبالممنوعات/ أناشيدُ الأطفال ِالملوَّثة ُبالحرمانِ ِوالنكب/ نساءُ الحي الباحثاتُ عن الأشلاء/ الرجالُ الواهنونَ من الجلد/ الصغارُ المحدقونَ في عيدٍ محض ِخيال/ المتكوِّمون بلا أنفاس ٍتحييهم من الدم ِاللاذع المغطي بقاياهم)".
إنها رنا جعفر ياسين تلك التي تحاول أن تنقذ المدينة فتصرخ:
"هيا أسرعوا لننقذ َالمدينةَ, فالحرائقُ في الشوارع ِ
في البيوتِ
وفي القلوب. النارُ تصهرُنا, فعمدونا بالفرات".

المثلث الذهبي.. والاقانيم الخمسة.. للفن التشكيلي العراقي






المثلث الذهبي..

والاقانيم الخمسة..

للفن التشكيلي العراقي


خالد خضير الصالحي
العـــراق/ البــصــرة
khkhiraq@yahoo.com


1
اتفق الكاتبان: صادق الصائغ في مقاله (واقعية الكم: شفرة المستقبل او عندما تصب العلوم في بؤرة فنية واحدة) الذي نشره في مجلة (تشكيل)، التي تصدر عن وزارة الثقافة العراقية، العدد الثالث ،2009 وفيصل لعيبي في مقاله (المثلث الذهبي في الرسم العراقي الحديث) الذي نشره في الموقع الالكتروني (الفنان العراقي)، على ان مثلثا ذهبيا كان قد تشكل في الفن العراقي كان أثره ضخما في نقل الفن العراقي، وربما كانا يقصدان بشكل اخص الرسم العراقي، إلى تخوم الحداثة الفنية، إلا أنهما اختلفا بالفنانين المشكلين لهذا المثلث الذهبي، فقد اعتبر فيصل لعيبي أول قطب في هذا المثلث الرسام فائق حسن مبررا اعتباره إحدى بوابات الحداثة في الرسم العراقي بأن "فائق حسن حطم تماما الشكل التقليدي السابق وقدم لوحة فنية معاصرة تتميز بالحيوية والحس العالي والمستوى الفني الرفيع - لم تكن جديدة على مستوى الإنجاز الغربي طبعا - لكنها تعتبر ثورة فيما يتعلق بالرسم العراقي- الذي كان يحاول تقليد الأشياء التي أمامه وبحذر اقرب إلى الخوف منه إلى الثقة, كانت ضربات فرشاة فائق من القوة والحساسية والجرأة ما جعل اللوحة العراقية آنذاك تخطو خطوتها الكبرى, مجتازة تلك المحاولات التي كانت سائدة في الرسم العربي المعاصر ... إن ( فائق حسن ) الحساس والعفوي والغزير يشكل الزاوية الأولى في المثلث الذهبي للرسم العراقي الحديث , حداثة وواقعية وحيوية ومرونة لانتقالات مفتوحة على اكثر من أفق . مع فائق انتهى عصر الهواية وتقاليد رسامي النزهات البرئية واللهو وأيام العطل. وبدأ عصر الرسم كفن معني بالمجتمع والبيئة والإنسان , ليس كشكل فقط بل كموضوع أيضا . ومعه أصبحت اللوحة العراقية تملك عالمها الخاص وموضوعها المتميز ومعه دخلت الحداثة ( المودرنيزم ) في الفن إلى العراق ..."، بينما اتفق الكاتبان: الصادق ولعيبي حول اعتبار جواد سليم القطب الآخر في ذلك المثلث الذهبي كونه من وجهة نظر فيصل لعيبي "كان فنانا معاصرا يحاول إيجاد العلاقة الصحيحة بين تراثه الغني وبين الحياة المعاصرة وتقاليد الفن الحديث, وهي قضية شغلت كل الجهد والوقت اللاحق لفن (جواد سليم) ... هكذا جاءت البساطة والتشكيلات المركبة والألوان الشرقية والموضوع المحلي بأسلوب يمزج فن القرن العشرين بالسومريين والآشوريين والمسلمين , من فن (بيكاسو) قي القرن العشرين و فن (يحيى الو اسطي) في القرن الثالث عشر الميلادي, من السومريين إلى التكعيبية", بينما كان من وجهة نظر صادق الصائغ قد عالج "واقعية شكله... بغنائية تعبيرية تنسجم مع تكوينه النفسي، مضفيا على شخوصه انسجاما ورضا يتناسبان مع مزاجه الشخصي ومع تطلعات الطبقة المتوسطة الآخذة في الصعود؛ وبهذا المزاج البهيج التقط جواد جمال التماهي البادي على وجوه الشخوص البسيطة الماثلة أمام كامرته، مجسدا،كما فعل غوغان، جمال السذاجة والبراءة في الحياة البدائية".
يتفق الكاتبان على ان القطب الآخر لحداثة الرسم العراقي هو الرسام محمود صبري (ولد عام 1927) فهو من وجهة نظر فيصل لعيبي "كرس جهده الهام في إيجاد العلاقة الأساسية بين الفن والمجتمع , فمع محمود أخذت الأفكار الاجتماعية الجذرية تبرز في العمل الفني ... أن الفكر الثوري في الفن لم يبرز بمعناه الجمالي والفلسفي والاجتماعي إلا مع ( محمود صبري ) والى حد ما( جواد سليم ) و (شاكر حسن آل سعيد 1925 – 2004 ) في خمسينيات القرن الماضي ... ان أعمال هذا الفنان شهادة عميقة على العلاقة القوية بين الفن والمجتمع وتطور الوعي ودور المثقفين في ذلك"، وبذلك يسقط فيصل لعيبي المرحلة الأهم من انجازات محمود صبري أي واقعية الكم التي لولاها لما احتل محمود صبري أهميته التي احتلها الآن، ... بينما كانت أهميته، عند الصائغ، تتمثل في "ان نظرية اكتشاف المخفي القائم ما وراء الواقع، اتخذت لديه وجهة أخرى، فقد لوحظ، منذ البداية، انه كان الأكثر اهتماما، بشواغل الفلسفة والهم الاجتماعي، كما انه كان الأكثر ميلا إلى ان يتخذ هذان الهمان مكان الصدارة في لوحاته"
ويذكّر الصائغ ان البعض قد صعب عليهم وهم يتتبعون أعماله الأولى ان يستجيبوا لرغبته، فيلقوا عليها ستار النسيان،... وان الكثير منهم، وربما كان محمود صبري احدهم، مازالوا يضمرون حنينا لذلك الحضور الغائب لتلك الأعمال، ففضلوها على (المتاهات) التي تضعهم فيها واقعية الكم.
ويعتبر صادق الصائغ القطب الآخر هو الرسام شاكر حسن آل سعيد، الذي انشغل، من وجهة نظر الصائغ "في بداياته بالهم الواقعي نفسه ، متجنبا هو الآخر، الاعتماد على المعنى الأحادي للشكل،متهجسا ملامح جديدة يخفيها المجهول... وفي مرحلته الأخيرة، اتخذ شاكر، انطلاقا من روحانياته، الحدوس الصوفية والمغيبات والعقل الباطن، طريقا لتفكيك المنظور الواقعي وإعادة تركيبته من جديد، ونظرا لاهتماماته الفلسفية الموازية لاهتمامات صبري، فقد ثبت رؤيته الفلسفية هذه في بيانين تشكيليين: البيان التأملي الأول والبيان التأملي الثاني، وفي كلا البيانين كانت الحقيقة الجوهرية التي بحث عنها شاكر، وكذلك تلك التي بحث عنها جواد ومحمود، حقيقة أيديولوجية، أي أنها صورة الواقع الخارجي مع إيقاعات جمالية ترتكز على بنية التكوين، باعتباره الموضوع المركزي لجماليات الشكل".

2
لقد أثارت آراء كل من الكاتب صادق الصائغ والرسام فيصل لعيبي عندنا ملاحظات كثيرة منها ان: الفن العراقي المعاصر قد نشأ، منذ لحظات تأسيسه الأولى، في خضم الحداثة العالمية، وخلال مرحلة مهمة في الفن العالمي، وان كل الأساليب المدرسية الانطباعية التي قدمها الفنانون العائدون من مقاعد الدراسة في الأكاديميات الخارجية التي درس فيها المبعوثون الأوائل، ليست إلا أساليب مدرسية تعلموها لأغراض تعليمية فتحجر البعض بها بسبب ضعف ثقافتهم البصرية، كما ظل البعض مكتفيا بها، ومنهم فائق حسن الذي طور تقنية عالية في الفن الانطباعية شفعت له وأهلته ان يكون المعلم الأول في الفن العراقي كمدرس فن، وذلك برأينا لا ينتقص من قيمته كمبشر بحداثة بصرية قائمة على شيئية اللوحة، الا ان فاعليته الاساسية كوته معلم رسم من طراز انطباعي رفيع.

3
نعتقد أيضا ان الكاتبين الصائغ ولعيبي كانا يتجهان إلى نقطة واحدة من اتجاهين مختلفين، فقد كان (التعبير عن الروح المحلية بأساليب اللوحة المسندية الحديثة) هو الأمر الحاسم لديهما معا، إلا أنهما اختلفا في الانجاز الأهم لكل رسام ليؤهله ليكون ضمن متجه الحداثة، ففيما اعتقد فيصل لعيبي ان قدرة الفنانين على الامتثال لتلك اللازمة هو الأمر الحاسم والمهم في حداثيتهم، وهو ما توفر لهؤلاء في مراحلهم الأولى، كان الصائغ يعتبر الأمر الأكثر أهمية يتمثل بقدرة الرسام على إعادة تعريف تلك اللازمة القبلية والخروج بنتائج (جديدة) منها، وهو ما فعله هؤلاء في مراحلهم المتأخرة التي اعتبرها الصائغ الجزء الأهم في انجاز هؤلاء وامتثالهم لشرط التعبير عن الروح المحلية بأساليب حديثة، فكانت واقعية الكم وبغداديات جواد سليم والمرحلة التجريدية (البعد الواحد) عند جواد سليم مراحل مهمة وشرعية في تأسيس فن محلي ممتثل للحداثة، وهذا هو السبب الذي جعلهما يغفلان اعتبار كاظم حيدر واحدا من اقانيم الفن العراقي بسبب كونه شكل مرحلة وسيطة لم تمتثل لشروط الكاتبين وتعريفهما وربما ذائقتهما، رغم ان تجربته تعد ، برأي الكثيرين، واحدة من أهم المراحل الانتقالية في الفن العراقي بين مرحلة الخمسينات، او مرحلة الرواد، وبين مرحلة الستينات التي وضعت الفن العراقي وفن الرسم منه بشكل اخص على تخوم الحداثة فكان الرسام كاظم حيدر رأس الحربة في ذلك من خلال منجزه وخاصة معرض الشهيد الذي بشر بجيل جديد في الفن التشكيلي العراقي هو جيل الستينات.

4
نحن نعتقد بحاجتنا إلى ننفض أيدينا من شرط (التعبير عن الروح المحلية) باعتباره لازمة قبلية لصفة الرسم ولصفة الحداثة، ونعيد تقييمها باعتبارها ليست سمة موضوعاتية قدر ما تكون قيمة بصرية ليس إلا؛ وبذلك فسيكون المجال رحبا لإعادة تعريف قيم الحداثة في الفن العراقي واعتبار منجزات هؤلاء الرسامين في مراحلهم الأولى والتالية بوابات شرعية لحداثة الرسم العراقي التي فتح أبوابها هؤلاء ورسخت حضورها الأجيال اللاحقة لما بين الخمسينات والستينات، واعتبار كل من: فائق حسن وجواد سليم وشاكر حسن آل سعيد ومحمود صبري وكاظم حيدر اقانيم مهمة في تأسيس حداثة الفن التشكيلي العراقي القائم على مرتكزات بصرية أكثر منها موضوعاتية، ونعيد تشكيل مفاهيمنا وقيمنا على أساس ان تحقق الواقعة الشيئية هو الأمر الحاسم في أحكامنا بشان فن الرسم في العراق.

تخطيطات خالد خضير الصالحي ...
















عبادة الخط
محمد خضير


وجد خالد خضير في فن الرسم ضالة يسكن بها نزعة من نوازع موهبته المتعددة الجوانب .. فهو لاعب شطرنج وشاعر وناقد .حين امسك برأس الخط ، انجذب إلى النقطة الشابحة على رقعة رؤيته شخص وحيد ، قدم من الضفة البعيدة لبحيرة الحبر ، وحينما تكرر حضوره ، تشبع الفنان بحبرية هذا الشخص ، فلم يكن هذا الشخص سوى روح دمية مجنحة ، تبحث عن جسد واسم الأسرة . سلم خالد شخصه للطباعة فاحتل حيزا ضيقا إلى جوار النصوص الأدبية. واكتفى الشخص بهذا الحضور ، كما قنع الفنان بالتخطيط وسيلة وحيدة لاستحضار أشباح حبرية لفراغه التصويري. إذ ما يمتاز به التخطيط على اللون والظلال ، اتساع مساحة رقعة البصر ، وتقلص حجم الشكل إلى نقطة ضائعة في فراغ الرقعة الواسع. هذه مزية تناسب لاعب أدوار دهرية.
كنت وما أزال اعتقد أن فن التخطيط ممارسة خاصة جدا ، شأنها شأن الكتابة المنسوخة ، مادتها الورق و الحبر ، حتى لو استعان رسام التخطيط أحيانا بقلم الرصاص والفحم أو لجأ إلى التلوين أو التظليل . وان اعتكاف الرسام على خطوطه شبيه بتمركز النساخة في مخطوطه ، وكلا العملين نوع من أنواع عبادة الخط ، تلخصها عبارة أسامة بن منقذ (سعادة الوراق جلود وأوراق وحبر براق وقلم مشاق) . وحين يجتمع التخطيط والكتابة في تزويق مخطوطه ، تكتمل العبادة بزواج الصناعتين ، ويتحقق فيها قول شاكر حسن آل سعيد (عودة الشكل إلى أزله الخطي ، والحجم إلى أزله الشكلي).
ومثل أية عبادة تتعرض للانتهاك ، هتكت طباعة المحفورات (الكرافيك) الرباط المقدس بين الخط والكلمة ، وقضت احترافية الرسم على براءة التخطيط ، وغلبت تقنية الاختراع عفوية الأسلوب ، واختلط ظل الفنان المتبتل في محترفه بظلال النقاشين والطباعين والتجار وهواة جمع اللوحات المطبوعة. ولم ينجح رسام من حمى الحفر ، ولم يفلت مطبوع من امتصاص فائض التعبير الأدبي لروح الخطوط الحرة . ولم يعد التخطيط إلى صراط عبادته الأصلية إلا باختراع الطباعة السطحية (الأوفست) التي أباحت الاطلاع على كراسات محترفي التخطيط الأصلية ، فأحسسنا بطراوة الانطباع الأول ، وحرارة الفكرة ، وتنوع الإيقاع الخطي في دراسات مايكل أنجلو ودافنشي ورافائيل التشريحية ، وبورتريهات ماتيس ، ومجموعة تخطيطات بيكاسو ، وبغداديات جواد سليم ، ومعراجات شاكر حسن آل سعيد ، وتراثيات ضياء العزاوي ، وتخطيطات علاء بشير وإبراهيم رشيد وعلي طالب. كانت تلك الكراسات ترجمة أمينة لميول الفنانين الذاتية وقدراتهم الفنية ، احتفظت بإيقاع الزمن ، ومدت جسورا إلى تخطيطات أدباء وجدوا في البعد الحسي للتخطيط إسنادا قويا للأبعاد التصورية الرمزية في رؤاهم الأدبية . (تخطيطات وليم بليك وجبران ولوركا وميشو وغونتر غراس..).
وما دام التخطيط حرا ، وانفراديا ، في محترفه الأصلي وفي محترف الطباعة الحديثة ، فلننظر إلى تخطيطات خالد خضير في حيزها المستقل عن الرموز الكتابية . إنها ما تزال عند نقطة الابتداء ، بانتظار الهاتف القادم من النقطة البعيدة المتلاشية في بقعة الحبر ، مصورا في شخص وحيد ، لا تتغير ملامحه . انه نفسه في كل تخطيط ، رأس كبير ، جثة ثقيلة (ثقل قطرة الحبر) ، عين واسعة ، وأنف كبير . وليست للخط إلا وظيفة واحدة ، هي إيقاظ الشخص في الطرق البعيدة وإحضاره . ومهما اتخذ الخط من اتجاه ، أو تعددت نقاط انحنائه ، وكيفما استدار في محيطه ، فالشخص غالبا هو نفسه ، جانبي الوجه (يتجه إلى الجهة اليسرى) دافعا معه رموزه (لا تخلو زمرة من شكل طائر يتجه باتجاه الوجه) إذ ليست للخط إلا هذه المهمة ، توكيد الشخص في كل مرة يسمع الرسام هاتفا يتناهى إليه من عالم الأشباح ، يقود الخط الشخص كما يقود أعمى ، كان نائما في عالم المسرنمين ، بلا اسم ولا عمر ولا ذاكرة ، إلا ذاكرة الخط الرهيفة التي ترسمه ثم تدعه ينحل بسلام عند نقطة الالتقاء بعالم الحضور .هكذا يبدو خط خالد (خط شبحه) دائبا في المسير ، ولنا أن نتوهم أن وراء الشخص الوحيد أشباحا ساعية في ظلام الحبر ، لكنها لا تصل أبدا . كما لنا أن نتصور خلف رأس الشخص الضخم الملامح مخلوقا لا جنسيا ينتمي إلى عالم الرغبات المكبوتة ، وان خلف المساحة المحدودة أصقاعا مجهولة ، وخلف الخط الدقيق إيقاعا بدائيا عنيفا ، وان خلف التخطيط بحرا من الرسوم . إنها البداية فقط ، والخطوة القادمة أغنى في التنوع والإيقاع والتشكيل . أما الآن فلا يقدم التخطيط غير هذه الهواتف المترددة من الطرف الآخر ، والزيارات القصيرة الحميمة الثابتة الاتجاه ، والارتسامات المتماثلة . إن أشخاص خالد خضير أشكال أرواح ، كما وصفها هو ، أو دمى أرواح . وربما أثبتت تخطيطاته أن للأرواح وجوها متشابهة . وان فراغ السطح التصويري يلتقي بحافة فراغ كوني اكبر . وان الخط مهما نحف أو قصر ، هو الحقيقة الوحيدة التي تشير إلى أولية الفراغ على الامتلاء . إن التخطيط هو الممارسة التصويرية الوحيدة التي تكتفي بنقطة وحيدة . وحين يتحرك الخط منها فانه يتحرك لينتهي بها . وأي شكل سيحدده الاتجاه سيكون شكلا غزير الدلالة ، لأنه الشكل الوحيد الذي ابتدأ من نقطة صغرى نظيرة لنقطة الفراغ الأكبر .
بهذه التعليلات تسيل قطرة الحبر على فراغ السطح الأبيض فتملأ ثقوب الفكرة بأشكال الأزل ، مهما تصاغرت أو تكررت أو جمدت . وليس كالتخطيط احتراف تطور عن عبادة .

النحت المدهش للنحات رون مويك!!







نحت واقعي جدا..
بأحجام مخيفة

خالــــد خضيـــــــر الصـــالحـي
khkhiraq@yahoo.com


عمل الفنان الواقعي الفوتوغرافي رون مويك Ron Mueck ، المولود في ملبورن في استراليا عام 1958، والقاطن في المملكة المتحدة ، على برامج الأطفال التلفزيونية خمسة عشر عاما، قبل العمل في التقنيات الفيلمية للدمى الالكترونية، فوصل إلى استنتاج بأنّ التصوير الفوتوغرافي يحطّم الحضور الطبيعي للجسم الأصلي؛ فاتّجه إلى الفنون الجميلة والنحت؛ فكان في أوائل التسعينيات، مشغولا في كيفية جعل الشيء واقعيا بطريقة ملموسة؛ فلم يقتنع بمادة يمكن ان تفي بذلك الهدف، فلم يقتنع بالمطّاط لأنه أراد مادة أدق وأصلب، فاهتدى إلى مادة لطيفة وردية هي الراتنج او الألياف الزجاجية الذي جعله برونزه ورخامه منذ ذلك الوقت.

كان النحات رون مويك يحاول ان ياسر الروح من خلال إشعال ذلك اللهب الداخلي في أنفسنا من خلال نحته المدهش للجلد المشغول بإتقان والمشوّه والمخيف، ومن خلال الأحجام العملاقة، فان التألق التقني الشاذ الذي تحققه المقاييس العملاقة المذهلة قادرة على اسر المتلقي، فعلى سبيل المثال، كان الحجم الهائل 4.5 مترا للولد الجالس القرفصاء,ومقياس ثلاثة امتار لرجل عارطويل , ومقياس عشرين قدما لمولود حديث الولادة، كاف لتحقيق قدر ضخم من الادهاش، وهو براينا نحت واقعي جدا، وحيّ جدا، وان تحدّي المتلقي بالمقاييس الشاذة قد خلق "مجابهة نفسية للمشاهد ألذي يعرف ويستوعب حقيقتين متناقضتين"…فمن خلال بضع سنوات من الآن سيكون من العدالة القول بأن مويك أحد الفنانين المعاصرين البارزين اليوم.

ان صناعة سلسلة من النماذج الطينية الصغيرة تمكّن النحات من ان يقرّر على وضع المقياس المناسب لكل منحوتة من خلال سلسلة من الرسوم بحجوم مختلفة تمكّنه من اتخاذ ذلك القرار المناسب، ان هذه الماكيتات (=المصغرات) تتضمّن تفاصيل دقيقة من قوام الجلد والتعبير وهي منجزة من مادة السليكون بينما تصنع النماذج الضخمة من الألياف الزجاجية، فان رون مويك يكمل عمله بدقة شديدة حينما يقوم بإكمال أدق التفاصيل (باليد) مثل العروق ودرجة لون الجلد مما يعيد مخلوقاته إلى الحياة، من خلال قدرته على انجاز درجة عالية جدا من الواقعية . .

ان المعرض المنفرد الأخير لأعمال النحّات رون مويك يصور الإحساس الحيّ جدا في مواضيعه، فقد تضمّن خمسة أعمال جديدة رئيسية كلّفت من قبل مؤسسة كارتر، وقد عرضت للجمهور المتحمس الذي كان يربو على 75000 زائر، وقد تم جلب إعمال استعيرت من المجموعات الأمريكية الشمالية التي أضيفت إلى معرض بروكلن قبل أن يسافر المعرض إلى المعرض الوطني لكندا في أوتاوا، فقد تضمّن المعرض: منحوتة الرجل الطائش (2005) تمثل نحتا من بقياس تسعة أقدام لرجل ملتحّ عار يمسك المقعد وهو جالس عليه.

خلال أعماله المفصّلة، التي دائما تكون أمّا أصغر من بالحجم الحقيقي أو اكبر منه، يستكشف مويك العلاقة الغامضة للحقيقة من خلال النحت بمادة الألياف الزجاجية إلا انه اشتغل مؤخرا بمادة السليكون التي كانت أكثر مرونة وتسمح، بسهولة أعظم، في تشكيل أعضاء الجسم وزرع الشعر الصناعي.

الأربعاء، 19 أغسطس 2009

الصورة بوصفها بلاغة.. البلاغة بوصفها صورة


قراءة في كتاب
(بلاغة اللغة الايقونية...الصورة بوصفها بلاغة)

الصورة... بوصفها بلاغة
البلاغة... بوصفها صورة


خالد خضير الصالحي
Khkhiraq@gmail.com

الدكتور شاكر لعيبي، شاعر عراقي له عدة دواوين وبحوث في ميدان الشعر عامة، والشعر العراق خاصة، كما هو أـيضاً ناقد ومنظر وكاتب في الفن وتاريخه، وفي السيميائيات البصرية، وهو مقيم في تونس ويعمل أستاذا في تدريس السيمياء الحديثة قي جامعة قابس، وقد صدر له (بلاغة اللغة الايقونية... الصورة بوصفها بلاغة).
منذ عنوان كتابه كان المؤلف (يداور) بين (طرفي) الصورة، وهو ما فعلناه تنصيصا عليه في عنوان مقالنا هذا، في اللعب على (المداورة) بين الصورة البصرية كطرف، والمجاز الشعري طرفا آخر لاعتبارهما طرفي القضية، أو شكلي تمظهرهما؟ بين الصورة (بمعنى العلامة البصرية) وبين الصورة في اللغة المنطوقة، فهو يؤسس عنوانه على ثنائي الصورة (البصرية) مقابل اللغة المنطوقة، فيبين عنوان كتابه على تعاكس مرآوي بين طرفي هذه الثنائية، تقديماً وتأخيراً بين طرفيها، (مداورة) ودونما تصريح "بلاغة اللغة الأيقونية... الصورة بوصفها بلاغة" وبذلك فهو يدلل منذ العنوان بأنه: أولاً، يقف ضمن الاتجاه السيميولوجي الذي يعتبر السيميولوجيا جزءا من اللسانيات حينما يؤكد منذ السطر الأول في الكتاب على ذلك "ما زالت اللغة المنطوقة على ما يبدو ضرورة في قراءة اللغة البصرية" إلا انه ومنذ السطر الثالث من الكتاب، ينتقل إلى مستوى آخر في هذه القضية حينما يميز بين مستويي البداهة في استخدام اللغة فيدعو إلى ترك المستوى المباشرة والنفعي في استخدام الألفاظ المتواطأ عليها اجتماعياً، ويؤكد ان ما يهمنا هنا "المستوى غير المباشر الجمالي الذي يقول المعاني ذاتها بشكل غير مباشر: مداورة،ويكون وقعه في أغلب الأحوال أعمق"، إلا أننا، ومنذ الصفحة الثانية (في النص)، المرقمة (6) بالتسلسل العام للكتاب نكتشف ان مقاصد المؤلف ليست كذلك إلا بهدف إيجاد آلية مرحّلة من اللغة إلى حقل الصورة البصرية، تلك الآلية التي هي الاستعارة او المجاز والتي تتضمن معنى (الانحراف)، وبذلك فهو يستعيد ذات الآلية الني كرس لها مؤلفا كتاب (الشعر والرسم) اهتمامهما لها باعتبارها الآلية الأكثر فاعلية لدراسة (الصورة الشعرية)، وبذلك فإننا نتقل إلى مستوى أعمق من قضية استنطاق العلاقات بذاتها، او استنطاقها بمعونة اللغة المنطوقة. ويبدو المؤلف وكأنه قد شعر بالخوف من ان يوجس القراء في أنفسهم ريبة فيؤكد "عندما يتعلق الأمر بالبلاغة الصورية، لا يتعلق الأمر، بحال من الأحوال، بعمل تلفيقي، ولا باستجلاب قسري لمصطلحات حقل إلى حقل مختلف، ولا بتقويل البصري ما تقوله البلاغات اللفظية" والسبب برأي المؤلف يتعلق "بامتلاك البصري، بطبعه أصلاً، بلاغة تأويليه ومجازات تتماس مع المجازات اللفظية المعهودة" ويماثل المؤلف بين المجاز اللغوي والصورة البصرية هنا في قوله "ان المجازات اللفظية هي ( انحراف متعمد) للغة عن استخدامها القاموسي... والصورة image بطبعها تتضمن شيئاً يمكن ان يوصف بالمجازي طالما فيها موضوعاً غائباً فعلياً لكنه حاضر دلالياً: لوجود الغائب" لذلك فهو يستنتج ان "المهم في الصورة ليس ما يحضر فيها ولكن ما يغيب" ونحن ربما تختلف معه في إعطاء الأهمية (لما يغيب) من الصورة، فأن ذلك سيؤدي إلى نقل الصورة من اعتبارها (واقعة شيئية) من خلال عناصرها الشيئية إلى معاملتها باعتبارها موضوعاً سردياً وفي ذلك تخسر الصورة جزءا من وجودها الشيئي.
يعيب شاكر لعيبي على بعض البلاغيين العرب لتبسيطهم للمجاز بأنه "فكرة (المشابهة) بين دالين"، ورغم ان فكرة التشاكل الصوري بين (حقلين صوريين) لا تختلف كثيراً عن محاولة تصنيف المجازات الايقونية التي أجراها المؤلف والتي اعتبر فيها دروس البلاغة "تقدم بضعة مفهومات مفيدة عن مفهوم التشبيه" وكانت تلك المفهومات لا تعدو ان تكون ذاتها التي اعتبرها تبسيطاً للقضية وهي " إقامة مماثلة بين أمرين أو أكثر قصد اشتراكها في صفة أو أكثر بأداة لغرض مقصود" بينما يؤكد في الوقت ذاته أن "في اللغة الأيقونية نجد تماثلات بين أمرين مرئيين بسبب اشتراكهما في صفة أو أكثر بأداة لغرض مقصود" بينما يؤكد في الوقت ذاته ان "في اللغة الايقونية نجد تماثلات بين أمرين مرئيين بسبب اشتراكهما في صفة أو أكثر" وبذلك سنعود إلى المربع الأول وهو ان (التشاكل الصوري) عند مؤلفي كتاب (الشعر والرسم) والى غيرها من المفهومات التي تدرس الصورة الشعرية من خلال الصورة البصرية وهي ذاتها التي نجدها هنا حيث يحاول شاكر لعيبي ان يدرس الصورة البصرية من خلال مجاز الصورة الشعرية، أي استخدام المفهومات ذاتها، وبذلك تتحقق ذات البنية الدورانية والمرآوية جيئة وذهاباً بين ان تكون أولاهما أصلاً للثانية، وثانيهما، في الوقت ذاته، أصلاً للأولى، وفي كلتا الحالتين نجد سبباً قوياً لهما يربط الشعر بالرسم من خلال نقطة الالتقاء هي الصورة بنمطيها البصري والشعري.
يستعرض المؤلف تحت عنوان (تأصيل العلاقة بين البلاغتين اللغوية والايقونية في التراث) ويثبت إقرار "الفلاسفة المناطقة المسلمين بأغتراف الشعر والتصوير كليهما من (التشبيه)، والمراد بذلك هو سعي الفنين لمحاكاة الطبيعة وهذه هي فكرة ارسطرطاليسية عن جدارة". ويستشهد المؤلف بقول الفارابي عن العلاقة بين الشعر والصورة البصرية، "ان فعليهما جميعا التشبيه، وغرضهما إيقاع المحاكيات" ويستشهد بأقوال أخرى لابن سينا وابن رشد وأخوان الصفا والجرجاني، وكلها "نصوص تشدد بشكل رئيسي على مشكلة المحاكاة المختصرة إلى مصطلح بلاغي سائد في المجاز العربي وهو التشبيه".
ويقرر المؤلف تحت عنوان "حدود المعاني في اللغة المنطوقة وتعددها في اللغة الأيقونية"، سعة حدود تأويل الصورة مقارنة باللغة وذلك "لان من النوادر ان تفرض الصورة فرضا معنى وحيدا واحدا وهو ما يحصل غالبا عندما يجري التعبير بالكلام. وهو ما يقصد بالمصطلح المكيف للصورة (تعدد المعاني poly semie )، لذلك فهو يؤكد طوال الكتاب بطريقة مختلفة بين الشد والارتخاء "اتساع حقول تأويل الصورة بالنسبة للمشاهدين، "إزاء نص مكتوب يضل حقل التأويل فيه أقل أتساعا قليلا، أقل فحسب لأنه متسع كذلك على طريقته، ولكنه ملموم إلى حد واضح، ومقارنة بالبصري دائما" وهي القضية الثانية التي ربما نختلف فيها معه أيضا فنحن نقول ان من الصعوبة الاتفاق بشكل مطمئن مع مقارنات كهذه في أمور ليست معياريه تماما. وتحت عنوان (تعدد المعاني في البلاغتين اللغوية الايقونية) يُرجع أسباب ذلك التعدد إلى ان "تعدد المعاني اقل مرونة في اللغة المنطوقة بالمقارنة مع اللغة الايقونية وذلك راجع برأيه إلى مفهوم التماثل، وهو وجود تشابه بين العلاقة التماثلية ومدلولها، بينما لا تشابه بين العلاقة الرقمية (في اللغة المنطوقة) لمدلولها، أي ان علاقتهما اعتباطية، لذا فان العلامات التماثلية ذات صفة عالية وهي تنطلق من الملموس الحسي لأنها تشير إلى شيء مدرك، ملموس ومخصص بينما تقول العلامات الرقمية (اللغوية) معناها انطلاقا من التجريد، فكلمة (أم) لا تشير إلى (أم) محددة مخصوصة كما يفعل الفوتوغراف أما السبب الأخير فهو وجود استمرارية بين العلامات التماثلية، فإذا ما تشابهتا فان دالهما يضل هو نفسه، أو انه يضل متشابها، إلا ان هذين النمطين العلاماتيين حينما يشتغلان في حقل المجاز فأنهما (يتماسان) فيحيل بعضهما بعضا ضمن الحقل الدلالي الواحد الواسع، فنرى أدوات التشبيه بعيوننا في الصورة البصرية، ونقرؤها في المنطوقة" وان تعدد المعاني برأي المؤلف هو ضروري في تأويل الصورة وقراءتها، حيث يمكن للصورة ان تقول عدة معان في ان واحد، كما هي في حقيقتها تضم عدة مجازات في نفس الوقت. ويؤكد المؤلف "ان مجموعة من العلامات الصورية قد تشكل لنا مدونة بصرية نستطيع قراءتها عبر نظام العلاقات البصرية وحدها أو بمساعدة نظام لغوي مجاور".
وقد ضم الكتاب نماذج تطبيقية في قراءة الصورة الفوتوغرافية تشكل علامات مهمة في تواصل البحث السيميولوجي، مما يجعل كتاب الدكتور شاكر لعيبي برأينا محاولة جادة في تناول الصورة الفوتوغرافية تناولا سيميولوجيا تطبيقيا سيشكل مقدمة لدراسات أخرى أكثر عمقا.