الأحد، 31 أكتوبر 2010

النحات العراقي هيثم حسن ... يخلق أساطيره الجديدة بخرق التخوم


النحات العراقي هيثم حسن



يخلق أساطيره الجديدة بخرق التخوم


خالد خضير الصالحي



اقام النحات العراقي هيثم حسن، وبدعوة من جمعية النحاتيين الكنديين، معرضه الجديد (ميثولوجيا) في صالة مركز النحت الكندي في مدينة تورونتو الكندية أواسط تموز القادم، فقدم 24 عملا نحتيا...

                             *******

كتبنا عن تجربتي هيثم حسن السابقتين : تجربة البرونز ثم تجربة المانيكانات؛ فأكدنا إن القدرة الاستثنائية للنحات هيثم حسن على تلمسه جوهر المادة (=شيئيتها) جعله يدرك أن طاقة التعبير التي استثمرها في البرونز طيلة السنوات السابقة قد استنفدت وبالتالي قد شارفت لديه على نهايتها، وصار عليه أن يغيرها هي، لا أن يغير أشكاله أو تكنيكاته فيها، فشعر أن المادة الجديدة المؤهلة للتعبير عن (العري) الجميل يجب أن تقترن بعنصرين مفقودين في تجربته سابقا، ولا يتيحهما البرونز: اللون والضوء.

بينما أسس تجربة حشود المانيكانات مما يبدو وكأنها قالب واحد صنع لينتج جيشا لا حدود له من المانيكانات التي يجري عليها آخر اللمسات التي تعطيها دفق تنوعها الذي يكفل أن لا يكون المعرض وكأنه منحوتة واحدة، كما كان شعوره بالعري الفاضح قد دفعه الى شتى الإجراءات الكابحة التي كان يجريها على كل منحوتة من تداخلات جراحية تجريدية تقتطع أجزاء من الجسد في عملية كبح، ربما لا واعية، للعري الداعر الذي يشعره في منحوتاته ربما بسبب امتلاء أجسادها.

                                        *******

قد يقرأ البعض عناوين منحوتات المعرض الأخير للنحات العراقي هيثم حسن دلالة لاشك فيها على توظيف الأسطورة في أعماله النحتية؛ إلا أننا نعتقد ان النحات، في هذا، يخلق أساطيره الجديدة في النحت العراقي حينما يخرق التخوم، او المياه الإقليمية بين النحت والرسم، ففي بحث استغرق محاولاته الأخيرة، حقق هيثم حسن ثلاثة خروقات مهمة أعانته في مسعاه هذا، وحققت له قطيعة واضحة (ضمن) النحت العراقي : الأول إبداله المواد التقليدية للنحت، والتوجه نحو مواد جديدة كل الجدة في النحت العراقي؛ فلم يعد الطين او البرونز او الخشب، المادة التي ينحت منها هيثم حسن أعماله؛ فقد حسم أمره، وهاهو الآن يستخدم ما يشاء من المواد المطاوعة التي تسع حريته، وتتقبل السبب الثاني، وهو إدخال اللون عنصرا بنائيا في منحوتاته، وليس كما كان يجري، بشكل تزييني، في بعض محاولات التلوين في النحت العراقي سابقا، ومن هاتين الآليتين الحداثيتين استطاع هيثم حسن إعادة النحت، او الأدق الفن التشكيلي، الى عصور وحدته الشكلية، حينما كانت (اللوحة-المنحوتة) ملونة ومجسمة في الوقت ذاته، وثالث الخروقات ان مشخصاته لم منفردة، ومعزولة، فلم يعد يحيطها الفراغ فقط من كل جهة، بل صارت، قبل ان يحيطها الفراغ، جزءا من عمل تشكله أحيانا مشخصات أخرى تتقاسم مع بطل المنحوتة الحيز، وأحيانا يتقاسم هؤلاء الاثنان الفضاء مع خلفية تسكنها : الأرقام، والخطوط، والآثار التي تركها الآخرون، وبذلك فهو يخلق أساطيره حينما يحاول ان يحول الحكاية، بتمظهراتها الشفاهية، والمدونة الى نص بصريّ، نص من العسير قراءته ولكن من العسير كذلك نكران الاعتراف بوجوده... نص اكتمل بوجوده تحول المنحوتة عمليا الى لوحة مجسمة، من خلال ممارسته (الرسم) على أجساد المنحوتات، او الرسم على جدار ليس تام التسطيح تستند عليه المنحوتة محملا إياه ما شاء من الكتابات غير المقروءة، بمعنى أنها لا تشكل نصا ذا معنى، وتكتفي فقط بوجودها البلاستيكي الشيئي، وبذلك تتحول المنحوتة الى لوحة غير مسطحة تستجيب لكل ما يعتقده هيثم حسن جزءا من فاعلية الرسم؛ فكان الاختلاف الأهم بين تجربة المانيكانات والتجربة الأخيرة، ان اللون في الأولى كان يبدو نابعا من المادة الأصلية للمادة بينما تنفتح الآن على تقنية أخرى من خلال اللون الخارجي الذي ينبع من اللون المضاف، لكنه لم يزل تواقا لاستثمار سحر وهيمنة الألوان وتأثيرها على المتلقي، من خلال استخدام اللون مؤثرا دراميا ودلاليا بترك النحات الألوان تقول ما تريد..
وهذا هو التحول الأهم الذي ادخله النحات هيثم حسن ضمن معرضه هذا؛ فشكل برأينا جوهر أسطورة النحت عند هيثم حسن..


 

الأربعاء، 27 أكتوبر 2010

الرسامة الأردنية هيلدا حياري في تجربتها الأخيرة...

من
الإيقاع الداخلي..  الى الحركة العاصفة

خالد خضير الصالحي





العــراق ... البـصرة

قضت الرسامة الأردنية هيلدا حياري ردحا من تجربتها وهي ترسم، وتعيد رسم كواكبها الدائرية، والدوارة على بعضها، سنوات طوال، فكانت لوحاتها سماوات مرقشة بالكواكب والمجرات، أو جلودا منمشة تملؤها البثور، بيد ان رياح التغيير كانت تهبّ بشكل وئيد وغير محسوس، فجاءت تلك التحولات الأخيرة لتؤكد أنها كانت تتحرك في أفق يمكن قراءته من وجهين : وجه ضيق يحصر تجربتها في ان تكون اشتغالا على عدد محدود من عناصر اللوحة : اللون والتكوين، ووجه آخر يتبين حينما ننظر الى الموضوع من زاوية أكثر إشراقا حينما نراها عناصرَ لا حدود لمديات اشتغالها، فتبدو حينئذ تجربتها الأخيرة متميزة بنمط من خلخلة عناصر التجربة في مسعى حثيث لآفاق جديدة تتمثل في إنزياحات عناصرها السابقة، فكانت الحياري سادرة في الاشتغال على ذات الوحدات الصغيرة في كل لوحة مزحزحة إياها نحو سيرورات أخرى.


تشتغل هيلدا حياري على مرجعيات بصرية، قد تكون خفية حينا أو تحاول الرسامة إخفاءها، شانها شان كل المبدعين، فكانت تلك المرجعيات تظهر رأسها خلسة أو مواربة ولكنها يمكن ان تتبين معالمها عارية تحت الفحص المتمعن لنرى فيها ما ترسمه الطبيعة بكل تقلبات عناصرها، وألوانها : والأرض، والتراب.. وتحولاتهما؛ فكانت الطبيعة تدهشها الى درجة قصوى، وكانت الكثير من أعمالها ليست إلا تكثيفا لرؤيتها للعالم وما يدور حولها من وقائع بصرية، كما كان لها معين آخر غير معرّض للنضوب هو خيالها الجامح الذي كانت تتلمس فيه دوافع لا تقاوم لإعادة إنتاج كل تلك المرجعيات البصرية... وهو ما يسميه الناقد والتشكيلي السوري طلال معلا (التفكير البصري) الذي "سعت إليه (الرسامة) متحالفة مع تقنيات توّصف مجمل أعمالها.... بصور لها طاقتها ووعيها الداخلي.." ويصفه معلة بأنه كامن في اللاوعي كـ(مساحات الاشتغال في الكهوف الأولى) وبذلك لا تعدو اللوحة عند هيلدا حياري ميدانا سرديا بل واقعة شيئية مادية بصرية.
كانت التجربة الأخيرة للرسامة هيلدا حياري تعتمد الأشكال التي تصنعها الألوان، ومحيطاتها (الكفافية)، وما زالت تعتمد الستراتيج ذاته حتى الآن، ولكنها اليوم مازجت معها نمطا من الحركة الخارجية ففي حين كانت الحركة في معارضها السابقة حركة وئيدة وداخلية صارت أشكالها تبدو وكأنها منجرفة بقوة عارمة في إعصار يكتسح معه كل شيء .. وكأننا أمام نمطين من الشعر : أمام نمط ذا موسيقى صادحة مارشية ذات قافية رنانة، ونمط آخر ذا إيقاع داخلي يستشعره القارئ ولكنه عصي على التبيين اللغوي والإمساك العقلي... فكـأن ما يقوله الناقد البريطاني هربرت ريد بأن "الفن كله تطور لعلاقات شكلية"، ينطبق على هيلدا حياري في كل مراحل تحولاتها الفنية أكثر مما ينطبق على غيرها، فهي من أولئك الرسامين الذين لا تعني اللوحة عندهم غير ان تكون مشروعا لعلاقات بصرية شكلية، او لونية ذات محيطات (كفافية) تولّد أشكالا غير مشخصة لا حصر لها؛ فكان المتلقون، وحتى النقاد، يحارون في ابتداع مرجعيات تشخيصية يستلها خيالهم من الواقع المعيش أحيانا، ومن المحيط، بمعناه الوجودي الواسع أحيانا أخرى، فمنهم من قال أنها " صياغة مفتوحة الأفق بمستوى جمالي شاعري تغيب عنه الدلالات الرمزية طواعية .. بما لا تسمح به حساسية فنانة مفتونة بتلقائيتها وبانجذابها لخلاصات أشكال وضربات لونية تؤكد حضور ترددات إيقاعية عالية .. ودرجات ضوئية متضادة وحينا آخر متجانسة ..."، ومنهم من رأى أنها" لم تبتعد في تصميم جداريتها عن أيقوناتها الأثيرة السابحة في ماء الحياة بل أضافت خطوطا رمزية وأشكال (كذا) تشبه صور (كذا) اختزالية للبشر تلك الصور التي تملا لوحتها بالصخب والحركة والألوان ... نسيح في تفاصيل لوحة هيلدا كما لو كنا نقرا ذواتنا ليست الألوان فيها سوى الأفكار التي تؤرقنا أو هي النار التي تحرقنا ... أما الكائنات الصغيرة البيضاء والحمراء المؤثثة للفوضى والنظام في آن واحد .. فهي نحن قبل أن نتخلق بشرا إنها الصورة الأولى لحيواتنا ربما تريد هيلدا أن تثبت عقارب الزمن عند سور الطفولة وطقس العبث ..."، واخرون قالوا ان " لو حة هيلدا حياري هي نواة الشكل الأول حينما تعود إلى الأصل ... لوحة تخرج اللاوعي بتكويناته البدائية إنما المصقولة فهي تطلق كائناتها أو حيواتها التي غابت في زحمة الوعي عن الحضور .... كائنات بدئية ملونة وراقصة تفتش عن روح جديدة للوحة الصادرة عن اللاوعي ومهارة الوعي التشكيلية وبين هذا وذاك تفتيش عن الولادة الجديدة" ويقترح اخر ان نتخذ "الانتباه الى ما تقترحه علينا في لوحاتها الجديدة من إنتقالة فذة، حيث هذا الانفجار اللوني الأخاذ، والشكل الذي يواصل تحرره في علاقات بالغة الاختلاف عما كانت في أعمالها السابقة. كأن ثمة شعور بأن للون قد بلغ درجة متقدمة من النضج، بحيث يقدر على قيادة تقنية اللوحة أكثر مما كان يفعل الشكل في السابق. اللون هنا صار هو ما يخلق الشكل ويحرره في آن. هنا سيشعر المشاهد بأن حساسية الطاقة البصرية (التي تعيد هيلدا اكتشافها الآن في الفيديو آرت) ضاعفت لديها وعي حريات اللون بوصفها عنصر الفعل الأول في مرحلتها الجديدة".... وهؤلاء في كل ما قالوا، فإنهم إنما يلتمسون الأعذار لأنفسهم من اجل اقتراح مقاربة للتلقي تنسجم وذائقتهم وفهمهم لـ(دور) العمل الفني و(أهدافه)، ولكن لوحة هيلدا حياري تبقى، برأينا، نموذجا لعلاقات شكلية (مادية، شيئية، متيريالية) هي في حقيقتها تمثل الجوهر الحقيقي للرسم الذي يبدأ وينتهي مادةً توضع على سطح، بعد ان يتم التعامل معها بشكل خلاق.








الرسام صدر الدين أمين يؤسس تجربته من تواشج بساطات ثلاث: شكلية ومادية وتقنية

نسق فني
        (خارج ثقافي
                 the outsider art)





خالد خضير الصالحي
مثلما اجمع النقاد عندنا على ان (التعبير عن الروح المحلية) او الفولكلور العراقي هو جوهر تجربة الرسام فيصل لعيبي، لم يكن صدر الدين أمين، الفنان العراقي المغترب ليخرج كذلك عن توصيف اجمع غالبية النقاد عليه، حينما كانوا يصفونه بأنه فنان بدائي، لكن ما يثير الغرابة حقا أنهم لم يكونوا يكترثون إلى أهمية تبرير حكمهم، فلم يعرض اغلبهم أسباب مسلّمتهم هذه، وكان ذلك راجع على الأغلب بسبب ما يرونه من درجة الهوس التي كان يبديها الرسام صدر الدين أمين بالمحيط، والبيئة، وموجوداتهما من الكائنات التي يتخذها وسيلة بصرية بهدف الكشف عن المعطيات الجمالية الكامنة في ثنايا الكيان المحيطي
بصفته موضوعه الأثير وربما الوحيد، بينما تشكل لقى ذلك المحيط بوابة الفنان إليه، وهي بوابة ذات اتجاه نسغي ارتدادي، يبدأ من ذات الفنان نحو لقى المحيط، ويعود إليها؛ مما يؤكد اعتبار تجربته واحدة من التجارب التعبيرية ــ التجريدية العراقية التي تستلهم المحيط، وتحاول أن تَسِمَ ما تضمه من لقى المحيط بالقناعات الشكلية التي يؤمن الرسام صدر الدين أمين بها، والتي يبني وفقها منظومته الشكلية، ففي الوقت الذي آمنت فيه أعداد غفيرة من الرسامين العراقيين ان موضوع اشتغالها مستحثات الجدران العتيقة، فاتجهوا إلى تلك الجدران يستقرئون مستحثاتها الشكلية في السطوح التي يستنطقونها، ويجرون بحوثهم الأركولوجية عليها؛ لاكتشاف كوامنها الإشارية والعلاماتية، ومعالجة نسيجها، وإجراء تجاربهم عليها، باعتبارها مقطعا عرضيا، او شريحة نسيجية تحمل واقع الحياة الإنسانية في اصغر تفصيلاتها، من خلال اكتشاف مخلفاتها التي تشكل أثرا لمرور إنساني ترك إشارته على سطح المحيط: كتاباتٍ وآثاراً وحزوزا، ولكن صدر الدين أمين لم يرغب في تتبع آثار أولئك الرسامين وسواهم، فاتجه متجها داخليا حينما بدا يملأ سطح لوحته بكل ما حملت ذاكرته من كائنات عايشها طويلا؛ فاندغمت؛ وصارت جزءا من وعيه بالشكل في تداخله مع الطبيعة؛ فظهرت لوحته وهي تضم حشدا خليطا من البشر الذين يرتدي بعضهم أقنعة، ويضع بعضهم قروناً كما كان القدماء يرسمون السحرة على شكل شامانات، او حيوانات خرافية تمتزج أشكالها بحشود لا حصر لتنوعها من: اسماك، وقطط، وثعابين، وسلاحف، وطيور، و أقمار، ونجوم، وشموس، ونباتات، وزواحف، وأشجار، وورود في كرنفالات تشترك فيها كل هذه الجموع، لتمثل هذه الحكايات والأساطير معينا أساسيا في تشكيل البنية الثقافية المستمدة من الميثولوجيا الشعبية لمناطق الغابات الجبلية في العراق والتي أعاد صدر الدين أمين صياغتها من خلال فن عالي التقنية والصياغة البنائية.


كانت موضوعاته مليئة بالتماعات البراءة وسلطتها على الأشياء، غير عابئة بردود الفعل حول مدى التوافق بين تصوراتها وبين حقيقية تلك الأشياء، فمهما تكون الفكرة (ساذجة) بمعنى فطرية، او بمعنى أدق ان تكون خارج النسق الفكري (الحضاري) المهيمن؛ فإنها تشكل جوهرا رفيعا وحرا للمخيلة، نعده من مكملات الوعي (العقلاني).
فكانت الحكايات والخرافات والمعجزات والسحر تعبيرا عن حلم الإنسان وعن هدفه العظيم وكانت تلك الفنون (الخارج ثقافية) ” نمطا من الجمال النابع من السجية التي لم تشوهها الأحداث والنظريات وتقنيات الثقافة فتدثرت بدثار البساطة والعمق” فكانت هذه التجارب الفطرية متجاوزة لكل القيم المقبولة والمحظورة معا فيما يخص القواعد التي تموضع عليها الفن الرسمي المنتمي إلى قيم الثقافة؛ فكانت تسحر بموادها وتقنياتها وأشكالها المتجاوزة، وكانت فنونا تضرب بجذورها في عمق اللاوعي الجمعي البشري والفنون ( البدائية) والشعبية وفنون الأطفال والمرضى العقليين وقبلها فن الكهوف وفن الأقوام (غير المتحضرة) وهي كلها تستمد قيمها من البساطة الشكلية والمادية والتقنية في (نسق قيمي) تحتل فيه هذه البساطات الثلاث المرتكز الأساس من خلال تواشجها مع بعضها دونما انفكاك، ودونما قواعد مفروضة خارج هذه البساطات الشيئية.
يبدو ان قناعة صدر الدين أمين كانت تتجه في منجزه الأخير نحو تكريس إشارات المحيط باعتبارها أيقونات، على تنوعاتها الشكلية ومكونات أساسية في بناء العمل الفني؛ لأنه لم يكن يهدف إلى استضافة (المرجع) ليستنسخه بأية درجة كانت من التفاصيل على سطح اللوحة؛ فنسخ الشكل لم يكن من أهدافه بل “ترجمة الإدراك فنياً، أي تدمير المحيط نفسه لصالح ولادته الجديدة على سطوح التصوير”، وهو وعي يضمن تحرر منجزه المتحقق من خلال تشفير وتحوير أشكال المرئيات، فهو بالمقابل يؤسس نظاما تحكمه قوانين اللوحة أكثر مما تحكمه قوانين الواقع، فلم يكن يكترث لأية مركزية شكلية؛ فهو لا يحاول ان يقنن تدفق الأشكال الذي ينهي أية فاعلية للقوانين الاقليدية للمكان، ورغم ان صدر الدين أمين كان ينشئ نصا دونما مركز إلا انه حينما يترك كائناته تسيح على سطح اللوحة دونما ضوابط كان يدرّع أشكالها (البسيطة) فكانت تحاول عزل نفسها شكليا لتتخذ شكل (خلايا) مغلفة بجدار سميك أسود مغلق يعزلها عن العالم الخارجي المليء بالكائنات الأخرى التي ربما كانت تتصف بالعدائية، وبقدرتها على التهام بعضها بعضاً دون وجود ذلك الجدار، ربما هو إجراء دفاعي من الرسام ذاته بهدف تحصين أشكاله وعزلها قيميا من خلال عزلها شكليا عن المحيط، خوف ضياعها في هذا الخضم الهائل من الأشكال السابحة على سطح اللوحة كما تسبح الحجيرات في سائل موضوع تحت المعاينة المجهرية، انه حقل مترامي الأطراف من أشكال مشخصة تؤكد نزوعها والأدق تؤكد نزوع الشكل نحو أزله العلاماتي، الأشد بساطة من الناحية الشكلية والذي يختزلها إلى نظام بعدي هو بشكل ما نظام أقل من بعدين، نظام يتجاوز الخط (كبعد واحد) ولكنه لا يصل إلي حالة التشكل فهو محاولة للعودة إلي الوجود الجيني للشكل أو (الوجود الحجيري) لشكل الكائنات فلا يعدو ان يكون شكل الطير هنا أكثر من شكل يشبه حرف (ي)، ولا تكون الشمس إلا دائرة يخرج منها الضوء بشكل خطوط قصيرة تستقر على محيطها وهكذا.
إن الانقطاع الواقع بين أشكال الرسام صدر الدين يجعلها تقصر فن الرسم على انطباعات بصرية مفردة، تحقق وحدة واندماجا يستحيل أن يحققها الأدب القادر على تحقيق تتابعات حكائية وبذلك ينتهي البعد الاستطرادي والبنية الخطية، فلا وجود لذلك النظام الأرسطوطاليسي في التتابع عند بناء اللوحة في هذه التجربة إنها بنية متشظية لا مركز لها حيث تتناثر الأشكال فيها لتملأ سطح الفراغ، ملونة ومحاطة بخط (حقيقي) سميك أسود، وكأننا أمام نص تعويذة تعود إلي أبجدية صورية غائرة في القدم، أمام نصوص لا يمكن فك معانيها لافتقارنا إلى معرفة قواعد أبجديتها، أو أمام صور رسمها عقل طفولي لم تلوثه الحضارة باكتشافاتها ومعارفها، فلم يزل يرسم بأسلوب (عين الطائر) حيث تظهر كل الموجودات معاً دون أن يحجب أي منها الآخر، وخلال منظور ذي بعدين تتخذ فيه الأشكال ما يرغبه الرسام او ما يفكر فيه لا ما يراه وهو الجوهر الذي بدأ به الرسم تاريخه وانتهى إليه.
تتواشج بنيتا اللون (=المادة)، والأشكال المنعزلة، والتقنيات المادية، في جوهر اللوحة التي يرسمها صدر الدين أمين، فرغم اتخاذ كل شكل وحدة قائمة بذاتها، إلا أن تواشجاً قد نشأ بينها وبين (السائل) الذي تسبح فيه وهو ما يمنحها وحدة شكلية نصية صورية دوّنها آلافٌ من البشر الذين مرّوا أمام كهف الرسام فسجلوا علاماتهم؛ وبذلك كانت أعمال الرسام مقاطع من جدران عشرات الكهوف الملونة بألوان زاهية ذات روح طفولية تلقي بظلالها على منجزه من الناحية التقنية أيضا.
يمتلك الفنان صدر الدين وعياً شكليا يمتلكه القليلون، وعيا جوهريا في تأسيس فهم فن الرسم على بنية (مكانية ــ صورية) أي طوبولوجية، وعيا بصريا جمع في ثنايا ذاكرته ذخيرة ضخمة من أشكال (عناصر) المحيط القابلة للاستيعاب، وتكوين الصورة وفق عملية انتقائية داخلية تخضع لعملية تحولية من الأسلبة الملازمة لكل حركات الفن باتجاه تكريس وجود الموضوعة الدالة التي تنطوي على الجوهر الشكلي الكامن في قلب الرؤية حيث ظل ذلك الجوهر كامنا رغم كل التحولات التي تبدو وكأنها ستنال من وجوده.
ان بساطة العناصر البنائية (العناصر الشيئية) للوحة صدر الدين أمين: الشكل والمادة والتقنية تذوب في (نسق قيمي)، هذه العناصر الثلاثة من خلال تواشجها مع بعضها دونما انفكاك، ودونما قواعد مفروضة خارج هذه البساطات الشيئية، تشكّل الطابع الأهم الذي يسم تجربة هذا الرسام بأنه رسام بدائي او فطري او برأينا فنان (خارج النسق الثقافي) لفن الرسم (the outsider art).

هيثم حسن يخلق أساطيره الجديدة بخرق التخوم

هيثم حسن يخلق أساطيره الجديدة بخرق التخوم






خالد خضير الصالحي


اقام النحات العراقي هيثم حسن، وبدعوة من جمعية النحاتيين الكنديين، معرضه الجديد (ميثولوجيا) في صالة مركز النحت الكندي في مدينة تورونتو الكندية أواسط تموز الماضي، فقدم 24 عملا نحتيا...

*******
كتبنا عن تجربتي هيثم حسن السابقتين : تجربة البرونز ثم تجربة المانيكانات؛ فأكدنا إن القدرة الاستثنائية للنحات هيثم حسن على تلمسه جوهر المادة (شيئيتها) جعله يدرك أن طاقة التعبير التي استثمرها في البرونز طيلة السنوات السابقة قد استنفدت وبالتالي قد شارفت لديه على نهايتها، وصار عليه أن يغيرها هي، لا أن يغير أشكاله أو تكنيكاته فيها، فشعر أن المادة الجديدة المؤهلة للتعبير عن (العري) الجميل يجب أن تقترن بعنصرين مفقودين في تجربته سابقا، ولا يتيحهما البرونز: اللون والضوء.

بينما أسس تجربة حشود المانيكانات مما يبدو وكأنها قالب واحد صنع لينتج جيشا لا حدود له من المانيكانات التي يجري عليها آخر اللمسات التي تعطيها دفق تنوعها الذي يكفل أن لا يكون المعرض وكأنه منحوتة واحدة، كما كان شعوره بالعري الفاضح قد دفعه الى شتى الإجراءات الكابحة التي كان يجريها على كل منحوتة من تداخلات جراحية تجريدية تقتطع أجزاء من الجسد في عملية كبح، ربما لا واعية، للعري الداعر الذي يشعره في منحوتاته ربما بسبب امتلاء أجسادها.

قد يقرأ البعض عناوين منحوتات المعرض الأخير للنحات العراقي هيثم حسن دلالة لاشك فيها على توظيف الأسطورة في أعماله النحتية؛ إلا أننا نعتقد ان النحات، في هذا، يخلق أساطيره الجديدة في النحت العراقي حينما يخرق التخوم، او المياه الإقليمية بين النحت والرسم، ففي بحث استغرق محاولاته الأخيرة، حقق هيثم حسن ثلاثة خروقات مهمة أعانته في مسعاه هذا، وحققت له قطيعة واضحة (ضمن) النحت العراقي : الأول إبداله المواد التقليدية للنحت، والتوجه نحو مواد جديدة كل الجدة في النحت العراقي؛ فلم يعد الطين او البرونز او الخشب، المادة التي ينحت منها هيثم حسن أعماله؛ فقد حسم أمره، وهاهو الآن يستخدم ما يشاء من المواد المطاوعة التي تسع حريته، وتتقبل السبب الثاني، وهو إدخال اللون عنصرا بنائيا في منحوتاته، وليس كما كان يجري، بشكل تزييني، في بعض محاولات التلوين في النحت العراقي سابقا، ومن هاتين الآليتين الحداثيتين استطاع هيثم حسن إعادة النحت، او الأدق الفن التشكيلي، الى عصور وحدته الشكلية، حينما كانت (اللوحة-المنحوتة) ملونة ومجسمة في الوقت ذاته، وثالث الخروقات ان مشخصاته لم منفردة، ومعزولة، فلم يعد يحيطها الفراغ فقط من كل جهة، بل صارت، قبل ان يحيطها الفراغ، جزءا من عمل تشكله أحيانا مشخصات أخرى تتقاسم مع بطل المنحوتة الحيز، وأحيانا يتقاسم هؤلاء الاثنان الفضاء مع خلفية تسكنها : الأرقام، والخطوط، والآثار التي تركها الآخرون، وبذلك فهو يخلق أساطيره حينما يحاول ان يحول الحكاية، بتمظهراتها الشفاهية، والمدونة الى نص بصريّ، نص من العسير قراءته ولكن من العسير كذلك نكران الاعتراف بوجوده... نص اكتمل بوجوده تحول المنحوتة عمليا الى لوحة مجسمة، من خلال ممارسته (الرسم) على أجساد المنحوتات، او الرسم على جدار ليس تام التسطيح تستند عليه المنحوتة محملا إياه ما شاء من الكتابات غير المقروءة، بمعنى أنها لا تشكل نصا ذا معنى، وتكتفي فقط بوجودها البلاستيكي الشيئي، وبذلك تتحول المنحوتة الى لوحة غير مسطحة تستجيب لكل ما يعتقده هيثم حسن جزءا من فاعلية الرسم؛ فكان الاختلاف الأهم بين تجربة المانيكانات والتجربة الأخيرة، ان اللون في الأولى كان يبدو نابعا من المادة الأصلية للمادة بينما تنفتح الآن على تقنية أخرى من خلال اللون الخارجي الذي ينبع من اللون المضاف، لكنه لم يزل تواقا لاستثمار سحر وهيمنة الألوان وتأثيرها على المتلقي، من خلال استخدام اللون مؤثرا دراميا ودلاليا بترك النحات الألوان تقول ما تريد..

وهذا هو التحول الأهم الذي ادخله النحات هيثم حسن ضمن معرضه هذا؛ فشكل برأينا جوهر أسطورة النحت عند هيثم حسن..