الأربعاء، 27 أكتوبر 2010

الرسامة الأردنية هيلدا حياري في تجربتها الأخيرة...

من
الإيقاع الداخلي..  الى الحركة العاصفة

خالد خضير الصالحي





العــراق ... البـصرة

قضت الرسامة الأردنية هيلدا حياري ردحا من تجربتها وهي ترسم، وتعيد رسم كواكبها الدائرية، والدوارة على بعضها، سنوات طوال، فكانت لوحاتها سماوات مرقشة بالكواكب والمجرات، أو جلودا منمشة تملؤها البثور، بيد ان رياح التغيير كانت تهبّ بشكل وئيد وغير محسوس، فجاءت تلك التحولات الأخيرة لتؤكد أنها كانت تتحرك في أفق يمكن قراءته من وجهين : وجه ضيق يحصر تجربتها في ان تكون اشتغالا على عدد محدود من عناصر اللوحة : اللون والتكوين، ووجه آخر يتبين حينما ننظر الى الموضوع من زاوية أكثر إشراقا حينما نراها عناصرَ لا حدود لمديات اشتغالها، فتبدو حينئذ تجربتها الأخيرة متميزة بنمط من خلخلة عناصر التجربة في مسعى حثيث لآفاق جديدة تتمثل في إنزياحات عناصرها السابقة، فكانت الحياري سادرة في الاشتغال على ذات الوحدات الصغيرة في كل لوحة مزحزحة إياها نحو سيرورات أخرى.


تشتغل هيلدا حياري على مرجعيات بصرية، قد تكون خفية حينا أو تحاول الرسامة إخفاءها، شانها شان كل المبدعين، فكانت تلك المرجعيات تظهر رأسها خلسة أو مواربة ولكنها يمكن ان تتبين معالمها عارية تحت الفحص المتمعن لنرى فيها ما ترسمه الطبيعة بكل تقلبات عناصرها، وألوانها : والأرض، والتراب.. وتحولاتهما؛ فكانت الطبيعة تدهشها الى درجة قصوى، وكانت الكثير من أعمالها ليست إلا تكثيفا لرؤيتها للعالم وما يدور حولها من وقائع بصرية، كما كان لها معين آخر غير معرّض للنضوب هو خيالها الجامح الذي كانت تتلمس فيه دوافع لا تقاوم لإعادة إنتاج كل تلك المرجعيات البصرية... وهو ما يسميه الناقد والتشكيلي السوري طلال معلا (التفكير البصري) الذي "سعت إليه (الرسامة) متحالفة مع تقنيات توّصف مجمل أعمالها.... بصور لها طاقتها ووعيها الداخلي.." ويصفه معلة بأنه كامن في اللاوعي كـ(مساحات الاشتغال في الكهوف الأولى) وبذلك لا تعدو اللوحة عند هيلدا حياري ميدانا سرديا بل واقعة شيئية مادية بصرية.
كانت التجربة الأخيرة للرسامة هيلدا حياري تعتمد الأشكال التي تصنعها الألوان، ومحيطاتها (الكفافية)، وما زالت تعتمد الستراتيج ذاته حتى الآن، ولكنها اليوم مازجت معها نمطا من الحركة الخارجية ففي حين كانت الحركة في معارضها السابقة حركة وئيدة وداخلية صارت أشكالها تبدو وكأنها منجرفة بقوة عارمة في إعصار يكتسح معه كل شيء .. وكأننا أمام نمطين من الشعر : أمام نمط ذا موسيقى صادحة مارشية ذات قافية رنانة، ونمط آخر ذا إيقاع داخلي يستشعره القارئ ولكنه عصي على التبيين اللغوي والإمساك العقلي... فكـأن ما يقوله الناقد البريطاني هربرت ريد بأن "الفن كله تطور لعلاقات شكلية"، ينطبق على هيلدا حياري في كل مراحل تحولاتها الفنية أكثر مما ينطبق على غيرها، فهي من أولئك الرسامين الذين لا تعني اللوحة عندهم غير ان تكون مشروعا لعلاقات بصرية شكلية، او لونية ذات محيطات (كفافية) تولّد أشكالا غير مشخصة لا حصر لها؛ فكان المتلقون، وحتى النقاد، يحارون في ابتداع مرجعيات تشخيصية يستلها خيالهم من الواقع المعيش أحيانا، ومن المحيط، بمعناه الوجودي الواسع أحيانا أخرى، فمنهم من قال أنها " صياغة مفتوحة الأفق بمستوى جمالي شاعري تغيب عنه الدلالات الرمزية طواعية .. بما لا تسمح به حساسية فنانة مفتونة بتلقائيتها وبانجذابها لخلاصات أشكال وضربات لونية تؤكد حضور ترددات إيقاعية عالية .. ودرجات ضوئية متضادة وحينا آخر متجانسة ..."، ومنهم من رأى أنها" لم تبتعد في تصميم جداريتها عن أيقوناتها الأثيرة السابحة في ماء الحياة بل أضافت خطوطا رمزية وأشكال (كذا) تشبه صور (كذا) اختزالية للبشر تلك الصور التي تملا لوحتها بالصخب والحركة والألوان ... نسيح في تفاصيل لوحة هيلدا كما لو كنا نقرا ذواتنا ليست الألوان فيها سوى الأفكار التي تؤرقنا أو هي النار التي تحرقنا ... أما الكائنات الصغيرة البيضاء والحمراء المؤثثة للفوضى والنظام في آن واحد .. فهي نحن قبل أن نتخلق بشرا إنها الصورة الأولى لحيواتنا ربما تريد هيلدا أن تثبت عقارب الزمن عند سور الطفولة وطقس العبث ..."، واخرون قالوا ان " لو حة هيلدا حياري هي نواة الشكل الأول حينما تعود إلى الأصل ... لوحة تخرج اللاوعي بتكويناته البدائية إنما المصقولة فهي تطلق كائناتها أو حيواتها التي غابت في زحمة الوعي عن الحضور .... كائنات بدئية ملونة وراقصة تفتش عن روح جديدة للوحة الصادرة عن اللاوعي ومهارة الوعي التشكيلية وبين هذا وذاك تفتيش عن الولادة الجديدة" ويقترح اخر ان نتخذ "الانتباه الى ما تقترحه علينا في لوحاتها الجديدة من إنتقالة فذة، حيث هذا الانفجار اللوني الأخاذ، والشكل الذي يواصل تحرره في علاقات بالغة الاختلاف عما كانت في أعمالها السابقة. كأن ثمة شعور بأن للون قد بلغ درجة متقدمة من النضج، بحيث يقدر على قيادة تقنية اللوحة أكثر مما كان يفعل الشكل في السابق. اللون هنا صار هو ما يخلق الشكل ويحرره في آن. هنا سيشعر المشاهد بأن حساسية الطاقة البصرية (التي تعيد هيلدا اكتشافها الآن في الفيديو آرت) ضاعفت لديها وعي حريات اللون بوصفها عنصر الفعل الأول في مرحلتها الجديدة".... وهؤلاء في كل ما قالوا، فإنهم إنما يلتمسون الأعذار لأنفسهم من اجل اقتراح مقاربة للتلقي تنسجم وذائقتهم وفهمهم لـ(دور) العمل الفني و(أهدافه)، ولكن لوحة هيلدا حياري تبقى، برأينا، نموذجا لعلاقات شكلية (مادية، شيئية، متيريالية) هي في حقيقتها تمثل الجوهر الحقيقي للرسم الذي يبدأ وينتهي مادةً توضع على سطح، بعد ان يتم التعامل معها بشكل خلاق.








ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق