الأحد، 29 أكتوبر 2023

 

أهمية النقد في الفن

  مات فوسيل

 ترجمة: خالد خضير الصالحي


هناك سبب لوجود محررين للكتاب؛ فمهما كتبت بشكل جيد، ستكون هناك أخطاء، ففي كثير من الأحيان، يتجاهل المؤلف هذه الأخطاء لمجرد أنها "قريبة جدًا" من عمله. ما يكتبه المؤلفون قد يكون منطقيًا تمامًا بالنسبة لهم أثناء كتابته لأنهم يفهمون رؤيتهم الخاصة؛ ونتيجة لذلك، قد يحذفون التفاصيل التي تعتبر بالغة الأهمية للقراء. ثم هناك الأخطاء النحوية التي تحدث. الكاتب الجيد يحتاج ببساطة إلى محرر جيد، فالمحرر يرى العمل بمجموعة مختلفة من "العيون" ويمكنه اقتراح التحسينات وتقديم أفكار جديدة.

الممثلون بحاجة إلى مخرجين. عندما يتصرف الممثل، فمن الواضح أنه لا يستطيع رؤية نفسه، ففي أذهان الممثلين، قد تكون أفعالهم لا تشوبها شائبة، ومع ذلك، يمكن للمخرج أن يشير إلى المجالات التي يمكن تحسين أدائه فيها، لأن المخرج يرى الأداء من وجهة نظر الجمهور. يمكنهم التواصل مع الممثل حول كيفية إدراك العامل الأكثر أهمية في المسرح لأفعالهم وإلقائهم، وهو الجمهور.

كفنانين، نحتاج أيضًا إلى "مجموعة عيون" ثانية (أو ثالثة) على عملنا. نحن بحاجة إلى معرفة كيف يمكن تحسين عملنا. نحن بحاجة إلى أن نفهم كيف ينظر الجمهور إلى عملنا. في بعض الأحيان يمكننا اكتشاف المشكلات بمفردنا، ولكن في معظم الأحيان نحتاج إلى مداخلات من الآخرين. هذا هو المكان الذي يصبح فيه النقد جزءًا مهمًا من تطورنا كفنانين.

 

لا ينبغي أن تكون الانتقادات مخيفة

النقد ليس مخيفا

ما زلت أتذكر أول نقد لي في مدرسة الفنون. كان مخيفا. لا ينبغي أن يكون كذلك، ولكنه كان كذلك. كنت هناك، محاطًا بفصلي وكان كل التركيز منصبًا على عملي. ما زلت أتذكر الغرفة التي كنت أجلس فيها، وحتى الروائح.

لقد كانت مهمة فريدة من نوعها. كان علينا إنشاء لوحتين غير موضوعيتين باستخدام الأكريليك. الأولى باستخدام الألوان الأساسية وقيم تلك الألوان فقط. كان من المفترض أن تكون اللوحة الثانية نسخة من الأولى، ولكن مع القيم المحايدة للألوان فقط. كان الهدف هو مطابقة قيم اللوحة الملونة تمامًا مع المحاولة الثانية التي كانت فقط باللون الرمادي المحايد. وهكذا انتهى بنا الأمر إلى لوحتين، واحدة ملونة والأخرى بالأبيض والأسود.

كان لدى أستاذي كاميرا وشاشة فيديو لتحليل النتائج. (كان هذا قبل 20 عامًا، وبدا وكأنه تكنولوجيا متطورة، خاصة بالنسبة للنقد). تم وضع الكاميرا لتصوير الحامل وعرضت شاشة الفيديو اللقطة باللونين الأبيض والأسود.

تم وضع لوحاتنا الملونة على الحامل بينما تم تعليق النسختين بالأبيض والأسود على شاشة الفيديو. لقد تمكنا من رؤية اللوحة الملونة بالأبيض والأسود ومقارنة النتائج باللوحة السوداء والبيضاء الموجودة بجوارها مباشرةً. كان الهدف هو مساعدتنا في معرفة مدى توافقنا مع قيم اللوحة الملونة في نسختنا بالأبيض والأسود.

لكل واحد منا، كان الأستاذ يرفع لوحاتنا ويقارنها بالنسخ الملونة المعروضة بالأبيض والأسود.

لقد جاء دوري أخيرًا. كانت يدي مبللة وكان فمي جافًا بشكل لا يصدق. لم أكن بهذه العصبية من قبل في حياتي.

بمجرد وضع لوحتي الملونة على الحامل، تمكنت من رؤية مدى سوء أدائي من خلال شاشة الفيديو. كانت قيمي بعيدة عن المطلوب، حتى في المجالات التي اعتقدت أنني ملأتها بأداء قوي، رأيت تناقضات في القيم. في الوقت الحاضر، أجهزة الكمبيوتر المحمولة تأتي مع بطاقة رسومات عالية الجودة. حتى أنني شعرت بالإهانة.

وأشار أستاذي إلى هذه القضايا على الرغم من أنها كانت مرئية بوضوح على الشاشة. في ذلك الوقت، شعرت بالفشل. لكن بالنظر إلى الوراء، أعلم الآن أن هذه التجربة كانت واحدة من أهم اللحظات في تطوري كفنان.

 

أنت لست عملك الفني


شعرت بالفشل، لكن لم أكن أنا من يحتاج إلى العمل. كانت اللوحة هي التي تحتاج إلى مزيد من الاهتمام. بالتأكيد، لقد رسمت اللوحة، لكن اللوحة لم تكن أنا. لقد كان شيئًا أنتجته كفنان، لكنه لم يحدد من أنا كفنان.

كفنانين، نقوم بإنشاء الرسومات واللوحات الفنية، وغالبًا ما يكون من الصعب فصل أنفسنا عنها. نحن نسكب الكثير من أنفسنا فيهم، لدرجة أنه عندما يتم انتقادها، نشعر أننا يتم تقييمنا بطريقة أو بأخرى.

يجب أن نتعلم أن عملنا هو في النهاية منتج ننتجه. عندما نعمل على تحسين أنفسنا كفنانين، فإننا ننتج "منتجات" أفضل. يمكن أن يكون النقد مؤلمًا في البداية، ولكن إذا فهمت أنه مصمم ليؤدي إلى منتج أفضل، فإنه يصبح أحد أهم الأنشطة في نموك الفني.

لقد علمني هذا النقد، الذي أتذكره بوضوح شديد، أهمية القيمة. لقد كان درسًا كنت بحاجة إلى تعلمه، وهو درس ربما لم أتعلمه أبدًا بدون النقد.

  

الحصول على انتقاد فنك






لقد واجهت العديد من الانتقادات الجماعية طوال سنوات دراستي الجامعية وأكثر من ذلك بعد هذه الفترة. عندما أصبحت مرتاحًا لعملية النقد، اعتنقتها. كنت أتطلع إلى النقد. كان السبب في ذلك هو أنني أردت مشاركة ما قمت بإنشائه، لكنني كنت أعلم أيضًا أنني سأتعلم شيئًا جديدًا.

الاثنين، 14 أغسطس 2023

الرسام العراقي المغترب يوسف الناصر.. مسك تفاحتين بكف واحدة

 

 

 

 

الرسام العراقي المغترب يوسف الناصر..

 

مسك تفاحتين بكف واحدة




"استجدي رحمة الجمال ان تهبني قطرة ندى

                                   لكن ما من مجيب لتوسلات المقهورين"

                                                                                    (يانيس ريتسوس)

 

خالد خضير الصالحي




















1

نبهتني معاينتي لتجربة الرسام العراقي المغترب يوسف الناصر إلى وجوب مراعاة أو التوكيد على اشتراطات عديدة منها إعادة التفريق القديم مابين (الحقيقة) و(المعرفة) في الفن، ونعني بالفن هنا الرسم تحديدا، فنحن هنا، كما نزعم دائما، لسنا معنيين بالمعرفة قدر اهتمامنا بالحقيقة، وهو أمر تتشارك فيه أنماط الفن والإبداع المتنوعة كما هو حادث في السرد أو المسرح، فان الخلل في المعرفة لا يغير طبيعة الأثر الفني أو يخرجه من النسق المتواضع عليه، فتغير عدد الحاضرين في لوحة العشاء الأخير لليوناردو دافينشي مثلا لا يمكن ان يخلّ بحقيقة كون اللوحة لوحةً، كما ان وجود خطأ إملائي أو نحوي أو منطقي في لوحة للخط العربي، كما ان عدم التمكن من قراءة او ترجمة لوحة مكتوبة بخطوط عربية ولكن بلغة فارسية مثلا، لا يخل بصفتها الفنية، فالحقيقة تكمن في الجمال والذي هو حدوث الحقيقة في العمل الفني، أي ان الجمال كامن في الشكل وفي اللوحة كواقعة مادية.. حتى ان جوهر الفنان، وجوهر الفن يكمنان في (العمل الفني)تحديدا، وهذه هي الإضافة الأهم التي أحدثها هيدجر، فلم يكن يحاول ان يتجه إلى دراسة شخصية الفنان، أو عملية الإبداع الفني، بل مضى مباشرة إلى (العمل الفني) باعتباره (ظاهرة معيشة) من خلال ما اسماه (شيئية العمل الفني) واكتشاف سمة الشيئية في (الشيء)" الذي يظهر بنفسه إلى الوجود.

 

2

لقد عرّف هيدجر (الشيء) ثلاثة تعريفات هي :

أولا، (الشيء) جوهر يحمل الصفات المميزة له، وثانيا، (الشيء) هو ما يدرك بالحواس، وثالثا، (الشيء) مادة تشكلت من خلال الصورة، أي انه (المادة المتشكلة) التي تحمل (صورة معينة)، ويؤكد ان ما يخلع على (الشيء) صلابته، وكثافته، وتماسكه إنما هو (ماديته).

 

3

لا يتناول الناقد كل التجارب، فليست تلك مهمته وليس ذلك باستطاعته، كما ان للناقد مشروعا يتناول استنادا إليه التجارب التي تنسجم ومشروعه النقدي، وقد كتبت مرة في مجلة (الأديب المعاصر) قبل عدة عقود "ان تناول أية تجربة إبداعية هو امتحان لطرائقنا النقدية" وأضيف الآن بان التجربة الخاضعة للمعاينة، أو فهمنا و تأويلنا لها تحديدا، ستكون جزءا من مشروعنا النقدي، فكانت تجربة الرسام يوسف الناصر تخضع لهذا الأمر، بالنسبة لنا على الأقل، وقد سبق لنا وكتبنا عنها مقالا سابقا ولكننا نشعر بالتقصير تجاهها، فهي تجربة تستحق الملاحقة الحثيثة من المهتمين، وهو ما لم يهتم به إلا البعض من المهتمين.

 

4

لا نعتقد ان تمكن الرسام يوسف الناصر من "وضع الألم والرسم على طاولة تشريح واحدة" هو الأمر الحاسم في تجربته، والى الدرجة التي تصورها البعض، فالمهم برأينا ان هذا الرسام استطاع ان يجد المادة (بالمعنى الواسع للمادة والتي تتضمن : اللون، والمواد الملصقة، والتأثيرات التقنية...) التي تنتج صورة بصرية تعبر عن الألم وتشجبه، فالرسام غير مطلوب منه ان يقدم تقارير صحفية حول موضوعات تشغله، بل يتعامل مع مادة بصرية عليها ان تعبر دون تدخلات لغوية، وبأقل قدر من السردية التي تنتمي إلى اللغة.

 

5

ان الأمر المهم في تجربة الرسام يوسف الناصر انه تمكن من المحافظة على (مشدات) العمل الفني متوترة دائما، وقد تعمدنا استخدام تعبير (المشدات) للإيحاء بالمشدات الداخلية التي تستخدمها النساء لتحافظ على تناسق الجسد الأنثوي، فقد حرص يوسف الناصر على ان تبدو لوحاته مشدودة رغم أحجامها الضخمة، فقد تمكن هذا الرسام من مسك التفاحتين معا بكف واحدة عندما حافظ على التوتر القلق في جانبين شديدي الأهمية والخطورة والصعوبة:

التوازن الأول، كان بين شيئية العمل الفني التي نعتبرها البنية التحتية للعمل الفني، و بين (الشكل الجمالي) وكافة الهوامش التي تتجمع خارج الواقعة البصرية ونعتبرها بنية فوقية، وقد كان هيدجر هو من قرر هاتين البنيتين في محاضرته الشهيرة (أصل العمل الفني) التي ألقاها عام 1935 ونشرها في كتابه (متاهات) عام 1950..

التوازن الثاني، من أسباب الشد الموجودة في تجربة يوسف الناصر راجع إلى تحقق توازن آخر يبدو أوضح حين يتحقق في التصوير الفوتوغرافي، وفي اللوحات المشخصة التي تصور الواقع، أو اللوحات التعبيرية التي توحي بمشخصاته عبر إيماءة طفيفة.. وهو توازن مهم يخص "الحقيقة بوصفها النزاع القديم بين "الفجوة المضاءة وحالة الإخفاء"، أو بين "الانكشاف والإخفاء"، أو "الفجوة الضوئية والخفاء"..

 

6

لقد كان سر النجاح الأكبر لتجربة يوسف الناصر تمكنه طوال تجربته، وفي معرض (مطر اسود) مثلا، من تحويل الموضوع إلى: علاقات لونية يهيمن عليها اللون الأسود الفاحم غالبا، والى علاقات شكلية أي إلى (شكل جمالي)، فلم يعد الموضوع سردا نثريا قابلا للتحول إلى لغة حكائية.. لقد بقي الموضوع واقعة بصرية.. وهذا سر الأسرار في الرسم.. وفي تجربة يوسف الناصر..

 

7

يبدو ان موضوع اللوحة يفرض على يوسف الناصر استراتيجه، فهو يفكر وينفذ بنفس الطريقة : فحينما تحتدم الانفعالات، وخاصة في الموضوعات الأليمة التي تهيج فيها العواطف كما في معرضه السابق (مطر اسود) كان يلقي ما يعن له فجـّا على اللوحة دون إعمالٍ عقلي في ترتيب عناصر اللوحة، وتشذيب موضوعها، فيسيح معمار اللوحة كما تسيح أشكالها على سطح اللوحة، بينما نجده رساما من نمط آخر حينما يرسم موضوعات يكون الفعل الجوهري فيها للوجود الشيئي للوحة؛ فتختزل الأشكال، والموضوعات بشكل مقنن، وتجيء اللوحة بشكل سطوح مسيطر عليها تماما، ولا يتبقى من الموضوع إلا تلميحات طفيفة لا يشكل الموضوع فيها إلا مناسبة للرسم ووضع مادة الرسم على سطح اللوحة.

 

8

ان رسم يوسف الناصر مقارَنة بالقلة من مجايليه... منشق عن السائد"

(شاكر لعيبي)

 

9

"سعى الناصر إلى أن يمزج ما بين وعيه وعاطفته، بين عقله وقلبه، بين رغبته في التعبير عن مزاجه المحطم ومحاولته تجسيد ما جرى لبلده الذي يعيش بعيدا عنه منذ أكثر من ثلاثة عقود. رسوم تختصر موقفا إنسانيا أقل ما يقال عنه انه فجائعي على المستويين العام والخاص، غير أنها في الوقت نفسه لم تكن مجرد مراث، على الأقل على مستوى الذات الجريحة. كان سؤال الفجيعة أكثر دهاء ومكرا. فمن خلال تفكيك متأن، هو أشبه بعملية طبية أقدم الناصر على وضع الألم والرسم على طاولة تشريح واحدة. في اللحظة عينها اكتشف الرسام أن النقد الصارم والمحكم هو ما يجب أن يقوم به لكي يتحرر من عجزه العاطفي"

(فاروق يوسف)

 

10

"ان مشروع المطر الأسود ليوسف الناصر ينطوي على شهادة حول كارثة الحرب في العراق وأدانته للرعب ومأساة الحرب ومخلفاتها أطفال وجنود وشباب  ومسنون جميعاً في قبضة تراجيديا الحرب والخوف والرعب واللوعة والألم وهي ثمار مشاعر الإنسان في الحرب فكيف يمكن وصف ذلك بصرياً... انه لا يصور تلك اللحظات تصويراً حيادياً بل يدخل في خضم اللحظة ليثير لحظة الخوف والرعب الأولى من القصف القادم من الطائرات انها من أكثر اللوحات التي جسدت صورة الألم والحرب إذ تتداخل الوجوه المرعوبة من الشظايا، شظايا الهلاك لتخرج غير مكتملة وهو لا يبسط التفاصيل ويظهرها لتكون صورة فوتوغرافية عن واقع المأساة ويشيد الرموز ويترك المتلقي في حالة تفكير وتساؤل؟!".

(أليكس روتا)

السبت، 12 أغسطس 2023

 قراءة في اعمال صدر الدين أمين




 

كرنفالات كائنات لا حصر لتنوعها

 

 

خالد خضيرالصالحي

 




صدر الدين أمين فنان مغترب مهووس بالمحيط والبيئة وموجوداتهما من الكائنات التي يتخذها وسيلة بصرية بهدف الكشف عن المعطيات الجمالية الكامنة في ثنايا الكيان المحيطي بصفته موضوعه الأثير وربما الوحيد بينما تشكل لقي ذلك المحيط بوابة الفنان إليه.

بوابة ذات اتجاه نسغي ارتدادي ، يبدأ من ذات الفنان نحو لقي المحيط، ويعود إليه، مما يؤكد اعتبار تجربته واحدة من التجارب التعبيرية ــ التجريدية العراقية التي تستلهم المحيط، وتحاول أن تسم ما تضمه من لقي المحيط بالقناعات الشكلية التي يؤمن الرسام صدر الدين أمين بها والتي يبني وفقها منظومة الشكلية فإذا كان عدد من الفنانين قد توجهوا نحو الجدران والسطوح يستنطقونها ويجرون نحو الأركولوجية عليها لاكتشاف كوامنها الإشارية والعلاماتية ومعالجة نسيجها ،وإجراء تجاربهم عليها، باعتبارها مرآة تحمل واقع الحياة الإنسانية في اصغر تفصيلاتها، من خلال اكتشاف مخلفاتها التي تشكل أثرا لمرور إنساني ترك إشارة علي سطح المحيط كتاباتًا وآثاراً وحزوزا، فإن صدر الدين أمين قد ملأ سطح لوحته بكل ما حملت ذاكرته من كائنات عايشها طويلا لتظهر بشكل حشود من البشر الذين يرتدي بعضهم أقنعة ويضعون قروناً كما كان القدماء يرسمون السحرة علي شكل حيوانات خرافية واسماك وقطط وثعابين وسلاحف وطيور و أقمار ونجوم وشموس ونباتات وزواحف وأشجار وورود في كرنفالات تشترك فيها كائنات لا حصر لتنوعها، كائنات تتخذ شكل (خلايا) مغلقة بجدار سميك أسود يعزلها عن العالم الخارجي المليء بالكائنات الأخري التي ربما كانت تتصف بالعدائية فتهدد بالتهام بعضها بعضاً دون وجود ذلك الجدار، وربما هو إجراء دفاعي من الرسام ذاته بهدف تحصين أشكاله خوفاً من ضياعها يف هذا الخضم الهائل من الأشكال السابحة علي سطح اللوحة كما تسبح الحجيرات في سائل موضوع تحت المعاينة المجهرية، حقل مترامي الأطراف من أشكال مشخصة تؤكد نزوعها والأدق تؤكد نزوع الشكل نحو أزله العلاماتي، الأشد بساطة من الناحية الشكلية والذي يختزلها إلي نظام بعدي هو بشكل ما نظام أقل من بعدين نظام يتجاوز الخط (كبعد واحد) ولكنه لا يصل إلي حالة التشكل فهو محاولة للعودة إلي الوجود الجيني للشكل أو (الوجود الحجيري) لشكل الكائنات حيث تتحول الطير الواقف إلي حرف(ي) والشمس دائرة ذات خطوط وهكذا، إن الانقطاع الواقع بين أشكال الرسام صدر الدين يجعلها تقصر فن الرسم علي انطباعات بصرية مفردة، تحقق وحدة واندماجا يستحيل أن يحققها الأدب القادر علي تحقيق تتابعات حكائية وبذلك ينتهي البعد الاستطرادي والبنية الخطية، فلا وجود لذلك النظام الأرسطوطاليسي في التتابع عند بناء اللوحة في هذه التجربة إنها بنية متشظية، تشابه بني لوحات الرسام المغربي حسين الميلودي والعراقيين فاخر محمد وكريم رسن في تجاربه السابقة، حيث تتناثر الأشكال فيها لتملأ سطح الفراغ، ملونة ومحاطة بخط (حقيقي) سميك أسود، وكأننا أمام نص تعويذة تعود إلي أبجدية صورية غائرة في القدم ، نصوص لا يمكن فك معانيها لافتقارها إلي معرفة قواعد أبجدتها واتجاه قراءتها، أو صور رسمها عقل طفولي لم تلوثه الحضارة باكتشافاتها ومعارفها،فلم يزل يرسم بأسلوب (عين الطائر) حيث تظهر كل الموجودات معاً دون أن يحجب أي منها الآخر، وخلال منظور ذي بعدين تتخذ فيه الأشكال ما يعرف(بالوضع الأمثل) في الرسم .

تتواشج بنيتا اللون والأشكال المنعزلة فرغم اتخاذ كل شكل وحدة قائمة بذاتها، إلا أن تواشجاً قد نشأ بينها وبين (السائل) الذي تسبح فيه وهو ما يمنحها وحدة شكلية وكأنها نص صوري، كتبه عشرات من البشر مرّوا أمام كهف فسجلوا علاماتهم وبذلك كانت أعمال الفنان مقاطع من جدران كهوف ملونة بألوان زاهية ذات سمة طفولية واضحة من الناحية التقنية .يمتلك الفنان صدر الدين وعياً بالشكل لا يمتلكه إلا القليلين وعي جوهري في تأسيس فهم فن الرسم علي بنية (مكانية ــ صورية) أي طوبولوجية، لكن لا يمكن اعتباره واحداً من فناني المفروكات في تكنيك اكتشاف أشكاله كما هو علي النجار مثلاً، فصدر الدين لا يصنع حقل متعرجات لاكتشاف أشكاله بل هو قد جمع في ذاكرته ذخيرة من أشكال (عناصر ) المحيط القابلة للاستيعاب وتكوين الصورة وفق عملية انتقائية داخلية تخضع لسيطرة آلية عمل الذاكرة الإنسانية في انتقاء أشكالها بعد أن يكون قد أنجز العملية التحولية عليها لتكون جاهزة كخزين من صور الذاكرة القابلة للتحول (فالأسلبة صفة ملازمة لكل حركات الفن، حيث الحاجة إلي التعديلات التي تتطلبها خصائص وسيلة التعبير ذاتها)، إلا أن ما يتبقي دائماً، هو الموضوعة الدالة حيث يكمن الطابع typos في قلب الرؤية ، فقد ترك الشيء بصمته التي لا تمحي، رغم كل التحولات الشكلية التي يحاول صدر الدين إجراءها علي أشكاله وتكنيك إنجازها وتنوع المواد التي يستخدمها أو الأهداف النفعية للعمل الفني ، بين أن يكون عملا مقتني يعلق علي جدار أو بوستراً للإعلان عن معرضاً أو بطاقة بريدية أو غير ذلك .










الاثنين، 31 يوليو 2023

الرسام جواد الجواد

التشخيص (مفتاحا) أخيرا













 

1

حينما قدم الرسام جواد الجواد معرضه الشخصي (EXPIRED) في قاعة جمعية التشكيليين العراقيين في البصرة اواخر اذار 2022، جلب اهتمام المعنيين التشكيليين بأعماله، فبعد ان كان الفنان الجواد، كما وصفه استاذه د. ازهر داخل (فنانا مغمورا) ليس من طبعه التسويق لنفسه ولمنجزه، (قليل الكلام) حتى لا يمكن سماع صوته مذ كان طالباً في كلية الفنون الجميلة، الدوام المسائي، على عكس الآخرين ممن لهم مكنة سلوكية وكلامية وقدرة على تسويق أنفسهم بالرغم من تواضع تجربتهم أو قصورها وكذلك قلة وعيهم بالتجربة الجمالية والفنية.

2

جريا على عادتنا في اهمال عناوين الاعمال الفنية لأننا نراها موجهات قرائية خارج مادية، فهي من طبيعة لغوية سردية، تختلف عن طبيعة العمل الفني المادية، فكنا نهمل عناوين المعارض، وعناوين اللوحات للسبب ذاته، وهو ما فعلناه مع  عنوان معرض جواد الجواد (EXPIRED)، الذي لا نجده يضيف للتجربة وتلقيها شيئا مفيدا، حتى ان المقدمة التي كتبها الأستاذ حامد سعيد لم تثننا على اخذ العنوان بعين الاعتبار؛ لأنها بدت وكأنها لم تكن معنية بتفكيك العنوان الذي لا اجد له دلالة تربطه مع لوحات المعرض، وقد يكون الفنان رأى فيه جوانب دلالية ما، ولكن تلك الدلالات لم تصلني كمتلق بيسر، مما شكل خللا توصيليا لنص نثري هو في منزلة (العنوان الادبي) ذي الطبيعة اللغوية، والذي يشكل (ثريا للنص) في الادب، على عكس وجوده في الفن التشكيلي، مما دفعني الى اعتبار عنوان هذا المعرض بحد ذاته مصابا بصفة (انتهاء الصلاحية) كعنوان لمعرض جواد الجواد الذي ليس بحاجة لعنوان كموجه قرائي، ونحن لا ننكر ما للعنوان من دلالات في ذهن الرسام، ولكننا لا نستمد الدلالات من ذهن الرسام ذاته، ولا من تفوهاته، بل من (النص)، سواء كان عنوان معرض، او عنوان عمل فني، او واقعة مادية، لذلك نقول ربما رأى الرسام دلالة لم يبح بها هو نفسه وبقى غامضا على غالبية متلقيه..

3

قبل عشرين عاما، وحينما كنت ادرس تجارب عدد من الرسامين، منهم: فاخر محمد، وصدر الدين امين، شخصت وجود بنيتين ماديتين، مختلفتين بالطبيعة التكوينية: بنية لونية غائرة فاتحة اللون، وبنية سطحية خطية صلدة داكنة، وهو ما اوحت لي به كذلك معاينتي لتجربة الرسام جواد الجواد في معرضه، فوجدتها تجربة مؤلفة من طبقتين بنائيتين متماثلتين بالدرجة اللونية، ولكنهما مختلفتان من حيث هيمنة اللون على الغائرة منهما، وهيمنة الخط على السطحية، فكان الخط، كما كان يقول وليم بليك، يحدد الاشكال ويعطيها شخصيتها المستقلة من خلال عزل المساحات اللونية المتماثلة عن بعضها بقوة الخط، مما يخلق تباينا جوهريا بستايل الرسم، طبقة غائرة وجدت لترى لذاتها كشكل محض، مما استدعى ان يقوم الرسام بإجراء تعميات للنصوص التي تنطوي عليها، وهو ما اشارت اليه الأستاذة الدكتور جنان محمد في مقالها عن المعرض حينما الزمت عملية تلقي اهمال جواد الجواد بان تتوفر على " خبرة ودراية ووعي لفنان يمتلك خبرة الاركيولوجي"، من اجل تفكيك تجربة تتلقى دعما "من خلال التلاعب بتقنيات اللون والنصوص الملصقة من اجل توليد سطح ينتقل الى سطح آخر ليضخمه ويتحد معه مولدا سلسلة لا حصر لها من السطوح والطبقات اللونية الوفيرة والغائرة في عمق تركيبته التصويرية، وكأنها طبعات متلاحقة انجزت بتقنية الشاشة الحريرية. . فهناك سطوح تتقدم واخرى تتراجع وبعضها متحركة واخرى متلاشية".

ان التمعن والتدقيق في تجربة جواد الجواد نجدها متشكلة من طبقتين ثيميتين (موضوعاتيـ)ــتين، وليست شكليتين فقط، كما في تجربة د. فاخر محمد، فبدت طبقتا لوحات جواد الجواد وكأنهما تمثلان نسقين مختلفين: الأول، نسق تجريدي لا هدف له سوى ان نراه مرسوما، لنكتشف (طريقة) رسمه، وليس الدلالات التدوينية التي يمكن ان يتوهمها بعض المتلقين والتي حاول الرسام انهائها من خلال عكس اشكال الحروف وتعميتها لكي لا يتمكن المتلقي من قراءتها، والاكتفاء برؤيتها فقط، والثاني، نسق مشخص اضيف في المراحل النهائية للعمل الفني للإبقاء على درجة من الصلة مع (الواقع)، وهو ما خلق، براينا، درجة من (التناقض الداخلي)، مما جعل اللوحة منجزة، او مصنفة باحتمالين: ان تكون لوحة تجريدية اضيف لها التشخيص كـ(مفتاح) أخير يلقى الى المتلقي لمحاولة ادامة الصلة مع الجمهور، او ان تكون لوحة تشخيصية قد تم ملء فراغاتها بعلامات غير مشخصة (تجريدية)، او علامات مشخصة لا علاقة سردية لها مع (الموضوع) المشخص.

4

لقد مرّ مدخل التلقي لأستاذنا القاص محمد خضير من خلال موضوعة (البطل)، وهو الـ"شخص figure" الذي يحاول الانبثاق، وتوكيد الهوية، واختراق الوجود الإنساني الثقيل، خلال طبقات الألوان والملصقات الطباعية (التايبوغرافية) بكتابتها المتراكمة (حروف إنجليزية)، كما تتراءى في لوحات "جواد الجواد" المعروضة تحت مسمّى Expired" ويرى القاص محمد خضير في هذه المحاولات إثباتا، وإعادة اعتبار للشخص "المستنفَد_ expired" حينما يحاول محاكات حالات القهر والاستلاب، بأشكال معبِّرة، غائرة تحت طبقة الألوان. وغالباً ما تحدث الإزاحةُ المستمرّة لماهيّات هذا "الشخص"، أشكاله وأحواله، بمساعدة رموز تتكرّر في أغلب اللوحات تقريباً (النرد، الراية، الحصان، العجلة). وفي خضم هذه الرموز تتوتّر زوايا النظر المختلفة بين "الأنا" المنتِجة وال"هي" المتلقّية التي تجنح لتأويل الرموز بكيفيات جانحة؛ وحينئذ تتدخل الأولى لتخفيف انطباع الثانية بتوسيع/ تضبيب المجال اللوني وإقحام الحروف المطبوعة (في اتجاه معكوس) لتشتيت النظر عن مركز اللوحة/ وضع "الشخص" فيها، كما كتب القاص محمد خضير في صفحته على الفيس بوك، وبذلك يكون مدخل البطل قد استهوى استاذنا القاص محمد خضير باعتباره مدخلا لدراسة معرض جواد الجواد، ومدخلا لقبول عنوانه الملتبس.

5

يقرن القاص محمد خضير "الشخصَ" غير المعرَّف في اللوحة بحشرة كافكا في روايته الشهيرة "المسخ"، ويذكر باللوحة التي يظهر فيها صرصار كافكا إلى جانب النرد، ليستنتج بان الحالات الكثيرة للقهر/ المسخ لشخص اللوحات هذا، يدعونا إلى تشغيل الحسّ السردي، وانتزاع المعنى من مجاله التشكيلي، بتعريضه لأشعة المعنى على المستويين التكويني والتعبيري؛ أيْ أنّنا _ نحن المتلقّين_ نستنفد من خلاله وجودَنا الواقعي، الملاصق لوجوده الشبحيّ.

6

ان الجنبة التي يراها الدكتور ازهر داخل متحكمة بذهنية الفنان والمتلقي هنا، هي البيئة والمجتمع ومتعلقاتهما، وهو ما لا يجب ان تصل الى التحكم بمنجز أي فنان بدعوى كونه ابن بيئته أو نتاج بيئته، ويتوصل الى ان الوسط الذهبي في هذه المعادلة الخطيرة هي ان "لا يشترط في الفنان بشكل عام أن ينقاد لموروثه ليعد منتمياً لبيئته، إنما يمكن أن يقتحم عوالم أخرى خارج منظومته الاجتماعية".

                 

الجمعة، 21 يوليو 2023

عناصر الوجود الشيئي في نصب الحرية ...



خالد خضير الصالحي

يحتم جزء من العرفان الذي تدين به الثقافة العراقية والفن التشكيلي العراقي نحو الراحل شاكر حسن آل سعيد إكمال مشروعه في بلورة نقد تشكيلي عراقي حديث وذلك بالبحث فيما تركه من: مدونات، ورسائل، ومقابلات، لاكتشاف المزيد من الأفكار منها، وحولها، استعارة وإضافة، وقد جاءت مقالاتنا حول مدوناته بهذا الهدف، فنحن هنا لا نستعير عنواننا من مدونات آل سعيد فقط بل وننغمس كليا في محاولة تطوير فكرة بناء نصب الحرية من (عناصر الوجود الشيئي) التي كانت تؤلف المحيط البصري ـ الفضائي للرسام ـ النحات جواد سليم وتوسيع هذه الفكرة بهدف إغنائها.

يقول شاكر حسن آل سعيد إن الأعمال الفنية إذا لم تكن تسعفنا في مجال البحث عن الطبقات التحتانية فستسعفنا المعرفة في إرجاع المدونة الفنية إلى عناصرها الأولى من خلال التعامل مع تلك المدونة

مثل موقع آثاري مليء باللقى، والشظايا، ويستلزم اكتشاف طبقاته التحتية، وامتلاك قدرة على الغوص في أعماقه، وبذلك يكون رصد علاماته السطحية الخطوة الأولى في عملية الاكتشاف، وينتهي آل سعيد إلى أن “كل ما يطرحه الفنان عبر العمل الفني هو جزء من تجربة الفنان الكاملة” وبذلك يجب أن تكون دراسة الفنان من خلال دراسة سيل ضخم من اللقى التي ابتدأ بثها منذ أولى مراحل منجزه وحتى آخر عمل أنجزه، إنها تشكل (متحفه الخاص من العناصر التكوينية) التي قد تـتحور، وقد تـتطور، وربما تقع تحت طائلة الكمون والاختفاء المؤقت. فإضافة إلى ظهور عناصر تكوينية مادية كانت جزءاً من (الوجود الشيئي لمحيط جواد سليم) مثل الديكة الخزفية التي رصدها شاكر حسن في لوحة (زفة في شارع 1956) وفي نصب الحرية ذاته، إلا أننا نفترض أن عناصر تكوينية أخرى، أهمها عناصر أعماله خارج نصب الحرية، أي اللوحات، والتخطيطات، والسكيجات التي أنجزها كدراسات لأشكال النصب، وكذلك بعض البنى التي هيمنت عليه من خلال تشبعه الثقافي بمعطيات الواقع المعيش، إنما تشكل (عناصر الوجود الشيئي لمحيط جواد سليم) والتي وجدت طريقها (كعناصر تكوين) في النصب متتبعين مرجعية كل منها قدر استطاعتنا.

يحتم علينا النقد التشكيلي الحق ايجاد مقاربات جديدة لكل اثارنا الفنية؛ مقاربات تعلي من شأن شيئية العمل الفني وقطع صلته بكل الحمولات التي لا صلة بالعمل الفني باعتباره نتاجا ماديا له قوانينه الخاصة والمستقلة؛ فنقدم دراستنا لنصب الحرية التي نشرناها قبل بضع سنوات ونحن ماضون في تطويرها وتنقيحا بشكل مستمر.

1. البنى اللغوية العربية:

لقد ظهرت البنى اللغوية العربية كهيكل بنائي للنصب من خلال تكوينه من وحدات كبرى ( = كلمات) تضم عددا من الوحدات الصغرى ( = حروف) وبشكل يجعل طوبولوجيا التكوين مماثلة للبيت الشعري العربي الكلاسيكي ذي الصدر والعجز، وتجسدت بنية الجملة العربية من خلال اتجاه القراءة التي يشترطها النصب إن تكون بذات الاتجاه فلا يمكن أن يقرأ النصب من اليسار إلى اليمين مطلقا، وهذه خصيصة زمنية تنتمي للتابع الحكائي الذي هو من خصائص اللغوي، وذلك النمط من القراءة يفرضه بناء النصب على إفريز (سطح) يخالف النحت المدور الذي يفرض نمطا من التلقي الحسي الملمسي الذي يستوعب الجهات الأربع، إن تلقي النصب بهذه الكيفية قد يكون تجسيدا لنزعة وظيفية تستخدم النحت بمثابة وسط صالح للتواصل اللغوي بما يتضمنه من بنية تعاقبية لغوية تتضمنها اللوحة الجدارية والنصب النحتية لمناخ الساحة أو الشارع حيث تنبثق الجداريات من صميم لغة الخطاب في الحياة اليومية، على عكس اللوحة التي تماثل خطاب القصيدة أو الرواية.

2. خصائص الفن الرافديني:

ظهور ملامح محتويات المتحف العراقي بالهيكل العام للرؤية الفنية التي قال بها آل سعيد، وكذلك في البنية المعمارية المطابقة لمعمارية الأختام الاسطوانية المتجهة، وكذلك بعض البنى الشكلية المهمة وأهمها: الوضع الأمثل وجمع زاويتي نظر في لقطة واحدة، فقد كان كل شكل يتخذ أفضل أوضاعه بغض النظر عن زاوية النظر (ثيران مجنحة بخمسة أطراف وعيون أمامية في وجوه جانبية)، و ظهرت الموجودات وهي منظورة من زاويتي







نظر معا، فكانت تعيش حياتها الخاصة، حيث تتلفت، أو تستدير، فكانت بعض هذه الإزاحات الشكلية ضاربة في القدم، تعود إلى فن الفراعنة والفن الإسلامي، كالعين الأمامية في الوجه الجانبي. إن كل هذه السمات وغيرها كثير قد هضمها جواد سليم ضمن (متحف أشكاله) الشخصي، ونحن نعتقد إن الإزاحات الأهم قد دخلت أشكال نصب الحرية من خلال الرسم الإسلامي والنحوت البارزة ( = الرسم بالحجر) الرافدينية القديمة، وقد كان جواد يراوح في معالجاته بين الحزوز التي يضعها على السطوح وبين النحت المدور في منحوتة الطفل، وبذلك كان النصب ساحة لمؤثرات أسلوبية بدرجات متنوعة، كما كان تجربة تطبيقية لروح محلية جماعة بغداد في النحت.

3. المحاور النصبية:

استخدم جواد القضبان في منحوتات عديدة منها الأمومة (معدن وخشب) و (السجين السياسي) وكانت قد ظهرت بذورها الأولى منذ لوحة (الشجرة القتيل) و (زفاف في الشارع 1957) و (نساء في الانتظار 1943)، وهي تضاف للمحور التعاقبي الذي تحدثنا عنه، فأننا يمكن أن نستشف المحورين اللذين يبنى عليهما النصب وقد كانا كرستهما منحوتة (السجين السياسي) حيث يتمثل فيهما بعدا التجريد والتجسيد بشكل مذهل من خلال الاختزال الشديد في عناصره. ويتمثل المحور العمودي ويحدد اتجاهه في النصب كما كان في منحوتة (السجين السياسي) بالقضبان والخطوط الشاقولية كالسجن في مركز النصب، وامتدادات الشخوص أو السنابل، وارتفاعات الحدث من ناحية الوجود المادي وارتفاع وانخفاض يماثل الموجة الجيـبـية، وكذلك يقابله الهبوط (المتجه نحو الأسفل) الذي تجسد في منحوتة السجين السياسي باحتمال سقوط (الكتلة الطائرة) التي ربما هي طائر ا و سنونو، وهي تعبر عن مظاهر الإخفاق والخيبة.

4. بنية الثمرة والبذرة (الضام والمضموم):

وهي تجسيد شكلي لسلسلة منحوتات الأمومة التي أنجزها جواد بعدة تنفيذات، كان بعضها يحمل تأثيرات النحت البريطاني هنري مور، وكانت تتجه حثيثا نحو الاختزال الشديد الذي وصل حد التجريد أخيرا بكتلة ضخمة بشكل هلال هي الأم وهي تحتضن كرة هي الطفل. وقد تجسدت في النصب بامرأة مكتنزة تـتكور على طفل يظهر منه وجهه فقط.

ويمكن مقارنة بنية الأمومة بالشكل الحلزوني، وما ينطوي عليه من معنى التكور ( = الرحم) الذي يضم البذرة ويحضن(الطفل)، وقد تكون تجسيدا لأنثوية الدائرة مقابل ذكورية المربع كما قال بذلك بعض الكتاب في مقارنتهم بين الشكلين الهندسيين.

5. هيمنة الأيديولوجيا:

رغم إن جواد سليم كان جزءاً من عصر هيمنت فيه الأيديولوجيا بقوة على الفنون وعلى تنظيراتها، إلا انه وهو يهم بإنجاز نصب الحرية، كان يحاول أن يتخطى المحلية ذات الحلول الفجة التي كانت تظهر في نتاجات جماعة بغداد للفن الحديث، وتصّرف كفنان معني بدرجة كبيرة بالجانب البصري، رغم كل الأهداف الأيديولوجية التي يعنيها في النصب، فقد أدرك جواد سليم إن التعارض القائم بين الأيديولوجي والبصري يجد له جانبا مختلفا في أهداف، ومن ثم في كيفية صياغة الرسالة، فبينما يصب الأيديولوجي جل اهتمامه على (سلب المتلقي أية فعالية نقدية) يهتم البصري بنقاء الرسالة وهيمنة عناصرها غير النثرية، أي أن أهداف الأيديولوجي تنحصر في (تحميل) الرسالة بأهدافه التي لا تعدو أن تكون نمطا من الوعي بالتعارض مع مصالح الآخر.

لقد كان اهتمام جواد سليم منصبا على جانبي (الشفرة) و (المتلقي)، لذلك احتوى النصب في طياته رسالة واجبة الوصول إلى متلق كان يحرص جواد سليم على إيصال الرسالة إليه، فقد كانت هنالك درجة من الرسالة النثرية باعتبار النصب (حكاية) تحكي كفاح الشعب العراقي لنيل حريته، ولكنه حرص على عدم التضحية بالخصائص البصرية للشفرة مقابل ذلك. لكن نصب الحرية، كأي اثر ثري بالدلالات، يتصف (بالتعددية النصية)، فهو غني بدلالاته، فتعددت مستويات التلقي و القراءات، لقد كان (فيه) مكان لمتلق عام، هو المتلقي عابر السبيل الذي يمر تحت لافتة النصب، كل يوم، بينما يكمن متلق متخف وهو الرقيب أو بمعنى أدق الدولة، وهي الجهة الممولة لمشروع النصب والتي كان بذهنها تصورات وأهداف تختلف بدرجة أو بأخرى عن تصورات جواد سليم، وأخيرا توجد فسحة لمتلق ثالث هو المتلقي الفعال المنتج للخطاب الواعي لدلالاته بفضل امتلاكه لأدوات منتجة للمعاني. وقد ظهرت خطابات بنَت هوامشها المتراكمة على نصب الحرية تمثلت بعشرات المقالات التي نشرت عنه طوال العقود التي مضت على انجازه، إلا أن اهمها كان ثلاثة كتب هي قراءات النقاد جبرا إبراهيم جبرا وعباس الصراف وأخيرا شاكر حسن آل سعيد، بينما كانت قراءة آل سعيد هي القراءة الوحيدة التي تتمتع بتوظيف آليات قراءة فعالة في إنتاج المعنى، وقد توجهت قراءتـَي جبرا إبراهيم جبرا وعباس الصراف إلى قارئ افتراضي هو صنو المتلقي العابر الذي يبحث عن ما يبحثه ذلك المتلقي، فغلبت عليها لغة العواطف والتجميع الوثائقي ومجمل الفهم الرسمي الأيديولوجي للنحت ولأهداف نصب الحرية، بينما اتجهت قراءة آل سعيد لتنوير المتلقي الفعال الذي يهدف طوال الوقت على تطوير آلياته في اكتشاف وخلق المعاني.

6. مستوى وحدات النصب:

يتصف نصب الحرية بكونه مبنيا من وحدات (أجزاء منفردة)، ووحدات (أجزاء مجتمعة)، فقد قسم شاكر حسن آل سعيد النصب إلى أربع وحدات … (وهو ما يقرره آل سعيد) تؤكد معمارية النصب، وقد تنبه العديد من الدارسين، إلى أنها تستعير بنية الختم الأسطواني بعد ان يترك بصمته على سطح الطين الطري، والبيت الشعري العربي الكلاسيكي (شطر و عجز)، لكنه برأيي اقرب إلى البيت الشعري العربي الكلاسيكي المدور و الجملة العربية التي تقرأ من اليمين والتي تشكلها أجزاء فرعية هي الكلمات التي تناظرها في النصب المنحوتات المنفردة وتجمعات الوحدات لتشكيل موضوعات مستقلة، وقد تجاوزت في هذا البيت الشعري المفترض وحدات من الشطر إلى العجز، هذا إذا اتفق القارئ معي إن وضعي لنقطة الفصل بين الشطر و العجز هي الشمس التي تتوسط النصب وتقوم مقام النقطة، أو الفارزة في النثر ( = انتهاء الشطر و بداية العجز) .إلا أننا نعتقد، استنادا إلى هذه النقطة، إن مستويين ممكنين في (تقسيم) وحدات النصب: أولا ، اعتبار النقطة ( = الشمس) ذروة الموجة الجيبية في ارتفاعها، حيث تبلغ دراما الحدث أقصى شحنتها عند تلك النقطة، بينما يحدث تحول درامي بعدها فيميل الفعل إلى الاستقرار، ويحدث تحول في طبيعة البناء والتصميم وكبح للخشونة الإنجازية التي عمد جواد سليم إلى انتهاجها في القسم الأول في النصب، وكذلك تبدأ المتجهات والحركة الفيزيائية بالخفوت، وتستقر الشخوص وتنعم بالهدوء، فقد بدأت مرحلة أخرى. بينما يحتم تقسيم آخر إلى اعتبار النقطة تلك نقطة وهمية تجاوزها جواد سليم عند التنفيذ، لذا فقد فسم الباحثون وحدات النصب حسب ما يحلو لهم (ويمكن العودة لهذه التقسيمات إلى كتاب شاكر حسن آل سعيد عن جواد سليم). إن تقسيمي لوحدات النصب تنبع من أسباب بصرية وأخرى تخص الدلالة بتقسيم النحت وفق:

7. التقسيم الثيمي:

أولا، التظاهرة والشهداء، ثانيا، الثورة، ثالثا، البناء.

8. مستوى العلاقة (الأيديولوجي _ البصري):

رغم هيمنة فكرة (خارج بصرية) على جواد سليم حينما أراد عمل النصب، هي تجسيد نضال الشعب العراقي لتحقيق الثورة، فقد كان الحس الفني ( = البصري) قد هيمن على بنائية النصب من ناحية الأشكال المفردة ومن ناحية توزيعها على مساحة النصب.

9. مستوى البنى الهيكلية:

استعار جواد سليم بنى هيكلية (خطوط الفعل المتجه) خفية أسس عليها تركيب وحدات النصب، منها وخطوط دائرية تؤلف بنية حلزونية و بنية أرتفاعية شاقولية (المربع والأقفاص) وظهرت في عدة منحوتات للفنان دخلت في بنائها القضبان بشكل رئيس وأهمها السجين السياسي، وقد دخلت تلك القضبان في تكوينات النصب في تكوين الثورة وفي الجزء الأيسر (تكوين البناء) حيث ترتفع الأشجار والسنابل، وحيث تفتقد الحركة، ونجدها حتى في تكوين العامل الذي هو في لحظة استرخاء واتساق قامته المديدة، والمزارعون وهم يتجولون بين مزروعاتهم التي ارتفعت من الأرض وأينعت، واستعار جواد سليم البنية المسطحة للجملة المكتوبة من خلال الرسم بالحجر (النحت البارز).

لقد تتبع شاكر حسن آل سعيد خطوط الفعل المتجه متتبعا بذلك خطى الكسندر بابادوبولو في رسم المتجهات الخفية في الرسم الإسلامي.

10. متجهات النصب البنائية:

كانت معظم منحوتات النصب جانبية وأنجزها النحات بأسلوب النحت البارز ( =الريليف)، بينما هنالك منحوتة واحدة تصور طفلا يقف بمواجهة المتلقي وأيضا الجزء الأمامي من منحوتة الثور، وهما المنحوتتان اللتان أنجزهما النحات بأسلوب النحت المجسم، وذلك راجع برأيي إلى انه كان يهدف، كما كانت تهدف الرسوم والمنحوتات العراقية والفرعونية القديمة إلى إبراز الوضع الأمثل، فكانت المنحوتة التي لا تحقق ها الوضع يضطر إلى انجازها بأسلوب النحت المدور.

11. مستوى نمط النحت:

النحت البارز هو (نحت ببعدين)، بمادة نحتية (مجسمة) أي إنهاء البعد الثالث في النحت، فقد أنجز جواد النصب نحتا بارزا، فإنما قام باستلهام قيم الرسم ببعدين وتطبيقها في النحت، فبينما يكون النحت البارز نحتا ببعدين أو رسما بمادة مجسمة، أي انه نحت تم إنهاء البعد الثالث فيه بدرجة ما، أو ربما هو رسم أضيف له البعد الثالث بدرجة ما، وبذلك كان جواد سليم، بإنجازه النصب نحتا بارزا فإنما كان يستلهم قيم الرسم في انجاز اثر ينتمي للنحت.

12. جمع وجهتي النظر في الفن السومري:

nasb 5تجمع صياغة الثور وجهتي نظر مزدوجتين ( = منظورين معا) فقد جمع النحت البارز للجانبين والنحت المجسم للمواجهة، وهو ما استدعى تغيير قوانين المنظور ومنح الثور القدرة على التفاتة كتلك التي في النصب.

13. شظايا الحضارة الشخصية:

14. من شظايا حضارته الشخصية يدخل جواد سليم العديد من اللقى التي ظهرت في بعض لوحاته السابقة وهي في الواقع من مقتنياته الشخصية في حياته اليومية، وقد رصد منها آل سعيد الديكة الخزفية التي سبق وظهرت في لوحة (زفة في شارع 1956).

15. القواعد الارسطو طاليسية (بداية ، ووسط ، ونهاية):

حرص جواد سليم على البعد الحكائي إلا أن ذلك لم يؤثر على البنية الشيئية للنصب فبدا النصب مبنيا بناء أرسطيا من: بداية ووسط ونهاية.

16. الجمع بين الرسم والنحت :

حيث ادخل جواد سليم مؤثرات تنتمي إلى بنية الرسم المسطحة كالخطوط والحزوز وآثار الوشم التي كانت تعمق الفعل الدرامي في النصب، هذا إضافة إلى أن النحت البارز رسما بالحجر.

17. البعد الديني:

حيث تعتقد نزيهة سليم إن قيام جواد سليم بتقطيع أقدام منحوتات النصب علاقة بتحريم التشبيه بالجسد الإنساني في الدين الإسلامي، إلا أن هذا الأمر ليس مؤكدا برأينا حيث لم يتحقق لدينا فاعلية الجانب الديني في رؤية جواد سليم.

18. اللغات الثانوية :

حيث ادخل جواد سليم العديد من المؤثرات الفرعية التي أسميناها (اللغات الثانوية) ومنها: مستوى التنفيذ ( = خشونة و نعومة التنفيذ)، الحركة والسكون، الشاقولي والمدور، المدركات الشكلية (البروفيل والأمامي، الريليف والمدور، التحوير ومماثلة الواقع)، وكل الفقرات التي لم نفصل الحديث فيها ستكون موضوعا لاحقا سنكتبه عن نصب الحرية إن شاء الله.