الاثنين، 31 يوليو 2023

الرسام جواد الجواد

التشخيص (مفتاحا) أخيرا













 

1

حينما قدم الرسام جواد الجواد معرضه الشخصي (EXPIRED) في قاعة جمعية التشكيليين العراقيين في البصرة اواخر اذار 2022، جلب اهتمام المعنيين التشكيليين بأعماله، فبعد ان كان الفنان الجواد، كما وصفه استاذه د. ازهر داخل (فنانا مغمورا) ليس من طبعه التسويق لنفسه ولمنجزه، (قليل الكلام) حتى لا يمكن سماع صوته مذ كان طالباً في كلية الفنون الجميلة، الدوام المسائي، على عكس الآخرين ممن لهم مكنة سلوكية وكلامية وقدرة على تسويق أنفسهم بالرغم من تواضع تجربتهم أو قصورها وكذلك قلة وعيهم بالتجربة الجمالية والفنية.

2

جريا على عادتنا في اهمال عناوين الاعمال الفنية لأننا نراها موجهات قرائية خارج مادية، فهي من طبيعة لغوية سردية، تختلف عن طبيعة العمل الفني المادية، فكنا نهمل عناوين المعارض، وعناوين اللوحات للسبب ذاته، وهو ما فعلناه مع  عنوان معرض جواد الجواد (EXPIRED)، الذي لا نجده يضيف للتجربة وتلقيها شيئا مفيدا، حتى ان المقدمة التي كتبها الأستاذ حامد سعيد لم تثننا على اخذ العنوان بعين الاعتبار؛ لأنها بدت وكأنها لم تكن معنية بتفكيك العنوان الذي لا اجد له دلالة تربطه مع لوحات المعرض، وقد يكون الفنان رأى فيه جوانب دلالية ما، ولكن تلك الدلالات لم تصلني كمتلق بيسر، مما شكل خللا توصيليا لنص نثري هو في منزلة (العنوان الادبي) ذي الطبيعة اللغوية، والذي يشكل (ثريا للنص) في الادب، على عكس وجوده في الفن التشكيلي، مما دفعني الى اعتبار عنوان هذا المعرض بحد ذاته مصابا بصفة (انتهاء الصلاحية) كعنوان لمعرض جواد الجواد الذي ليس بحاجة لعنوان كموجه قرائي، ونحن لا ننكر ما للعنوان من دلالات في ذهن الرسام، ولكننا لا نستمد الدلالات من ذهن الرسام ذاته، ولا من تفوهاته، بل من (النص)، سواء كان عنوان معرض، او عنوان عمل فني، او واقعة مادية، لذلك نقول ربما رأى الرسام دلالة لم يبح بها هو نفسه وبقى غامضا على غالبية متلقيه..

3

قبل عشرين عاما، وحينما كنت ادرس تجارب عدد من الرسامين، منهم: فاخر محمد، وصدر الدين امين، شخصت وجود بنيتين ماديتين، مختلفتين بالطبيعة التكوينية: بنية لونية غائرة فاتحة اللون، وبنية سطحية خطية صلدة داكنة، وهو ما اوحت لي به كذلك معاينتي لتجربة الرسام جواد الجواد في معرضه، فوجدتها تجربة مؤلفة من طبقتين بنائيتين متماثلتين بالدرجة اللونية، ولكنهما مختلفتان من حيث هيمنة اللون على الغائرة منهما، وهيمنة الخط على السطحية، فكان الخط، كما كان يقول وليم بليك، يحدد الاشكال ويعطيها شخصيتها المستقلة من خلال عزل المساحات اللونية المتماثلة عن بعضها بقوة الخط، مما يخلق تباينا جوهريا بستايل الرسم، طبقة غائرة وجدت لترى لذاتها كشكل محض، مما استدعى ان يقوم الرسام بإجراء تعميات للنصوص التي تنطوي عليها، وهو ما اشارت اليه الأستاذة الدكتور جنان محمد في مقالها عن المعرض حينما الزمت عملية تلقي اهمال جواد الجواد بان تتوفر على " خبرة ودراية ووعي لفنان يمتلك خبرة الاركيولوجي"، من اجل تفكيك تجربة تتلقى دعما "من خلال التلاعب بتقنيات اللون والنصوص الملصقة من اجل توليد سطح ينتقل الى سطح آخر ليضخمه ويتحد معه مولدا سلسلة لا حصر لها من السطوح والطبقات اللونية الوفيرة والغائرة في عمق تركيبته التصويرية، وكأنها طبعات متلاحقة انجزت بتقنية الشاشة الحريرية. . فهناك سطوح تتقدم واخرى تتراجع وبعضها متحركة واخرى متلاشية".

ان التمعن والتدقيق في تجربة جواد الجواد نجدها متشكلة من طبقتين ثيميتين (موضوعاتيـ)ــتين، وليست شكليتين فقط، كما في تجربة د. فاخر محمد، فبدت طبقتا لوحات جواد الجواد وكأنهما تمثلان نسقين مختلفين: الأول، نسق تجريدي لا هدف له سوى ان نراه مرسوما، لنكتشف (طريقة) رسمه، وليس الدلالات التدوينية التي يمكن ان يتوهمها بعض المتلقين والتي حاول الرسام انهائها من خلال عكس اشكال الحروف وتعميتها لكي لا يتمكن المتلقي من قراءتها، والاكتفاء برؤيتها فقط، والثاني، نسق مشخص اضيف في المراحل النهائية للعمل الفني للإبقاء على درجة من الصلة مع (الواقع)، وهو ما خلق، براينا، درجة من (التناقض الداخلي)، مما جعل اللوحة منجزة، او مصنفة باحتمالين: ان تكون لوحة تجريدية اضيف لها التشخيص كـ(مفتاح) أخير يلقى الى المتلقي لمحاولة ادامة الصلة مع الجمهور، او ان تكون لوحة تشخيصية قد تم ملء فراغاتها بعلامات غير مشخصة (تجريدية)، او علامات مشخصة لا علاقة سردية لها مع (الموضوع) المشخص.

4

لقد مرّ مدخل التلقي لأستاذنا القاص محمد خضير من خلال موضوعة (البطل)، وهو الـ"شخص figure" الذي يحاول الانبثاق، وتوكيد الهوية، واختراق الوجود الإنساني الثقيل، خلال طبقات الألوان والملصقات الطباعية (التايبوغرافية) بكتابتها المتراكمة (حروف إنجليزية)، كما تتراءى في لوحات "جواد الجواد" المعروضة تحت مسمّى Expired" ويرى القاص محمد خضير في هذه المحاولات إثباتا، وإعادة اعتبار للشخص "المستنفَد_ expired" حينما يحاول محاكات حالات القهر والاستلاب، بأشكال معبِّرة، غائرة تحت طبقة الألوان. وغالباً ما تحدث الإزاحةُ المستمرّة لماهيّات هذا "الشخص"، أشكاله وأحواله، بمساعدة رموز تتكرّر في أغلب اللوحات تقريباً (النرد، الراية، الحصان، العجلة). وفي خضم هذه الرموز تتوتّر زوايا النظر المختلفة بين "الأنا" المنتِجة وال"هي" المتلقّية التي تجنح لتأويل الرموز بكيفيات جانحة؛ وحينئذ تتدخل الأولى لتخفيف انطباع الثانية بتوسيع/ تضبيب المجال اللوني وإقحام الحروف المطبوعة (في اتجاه معكوس) لتشتيت النظر عن مركز اللوحة/ وضع "الشخص" فيها، كما كتب القاص محمد خضير في صفحته على الفيس بوك، وبذلك يكون مدخل البطل قد استهوى استاذنا القاص محمد خضير باعتباره مدخلا لدراسة معرض جواد الجواد، ومدخلا لقبول عنوانه الملتبس.

5

يقرن القاص محمد خضير "الشخصَ" غير المعرَّف في اللوحة بحشرة كافكا في روايته الشهيرة "المسخ"، ويذكر باللوحة التي يظهر فيها صرصار كافكا إلى جانب النرد، ليستنتج بان الحالات الكثيرة للقهر/ المسخ لشخص اللوحات هذا، يدعونا إلى تشغيل الحسّ السردي، وانتزاع المعنى من مجاله التشكيلي، بتعريضه لأشعة المعنى على المستويين التكويني والتعبيري؛ أيْ أنّنا _ نحن المتلقّين_ نستنفد من خلاله وجودَنا الواقعي، الملاصق لوجوده الشبحيّ.

6

ان الجنبة التي يراها الدكتور ازهر داخل متحكمة بذهنية الفنان والمتلقي هنا، هي البيئة والمجتمع ومتعلقاتهما، وهو ما لا يجب ان تصل الى التحكم بمنجز أي فنان بدعوى كونه ابن بيئته أو نتاج بيئته، ويتوصل الى ان الوسط الذهبي في هذه المعادلة الخطيرة هي ان "لا يشترط في الفنان بشكل عام أن ينقاد لموروثه ليعد منتمياً لبيئته، إنما يمكن أن يقتحم عوالم أخرى خارج منظومته الاجتماعية".

                 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق