قراءة في اعمال صدر الدين أمين
كرنفالات
كائنات لا حصر لتنوعها
خالد خضيرالصالحي
صدر الدين أمين
فنان مغترب مهووس بالمحيط والبيئة وموجوداتهما من الكائنات التي يتخذها وسيلة
بصرية بهدف الكشف عن المعطيات الجمالية الكامنة في ثنايا الكيان المحيطي بصفته
موضوعه الأثير وربما الوحيد بينما تشكل لقي ذلك المحيط بوابة الفنان إليه.
بوابة ذات اتجاه
نسغي ارتدادي ، يبدأ من ذات الفنان نحو لقي المحيط، ويعود إليه، مما يؤكد اعتبار
تجربته واحدة من التجارب التعبيرية ــ التجريدية العراقية التي تستلهم المحيط،
وتحاول أن تسم ما تضمه من لقي المحيط بالقناعات الشكلية التي يؤمن الرسام صدر
الدين أمين بها والتي يبني وفقها منظومة الشكلية فإذا كان عدد من الفنانين قد
توجهوا نحو الجدران والسطوح يستنطقونها ويجرون نحو الأركولوجية عليها لاكتشاف
كوامنها الإشارية والعلاماتية ومعالجة نسيجها ،وإجراء تجاربهم عليها، باعتبارها
مرآة تحمل واقع الحياة الإنسانية في اصغر تفصيلاتها، من خلال اكتشاف مخلفاتها التي
تشكل أثرا لمرور إنساني ترك إشارة علي سطح المحيط كتاباتًا وآثاراً وحزوزا، فإن
صدر الدين أمين قد ملأ سطح لوحته بكل ما حملت ذاكرته من كائنات عايشها طويلا لتظهر
بشكل حشود من البشر الذين يرتدي بعضهم أقنعة ويضعون قروناً كما كان القدماء يرسمون
السحرة علي شكل حيوانات خرافية واسماك وقطط وثعابين وسلاحف وطيور و أقمار ونجوم
وشموس ونباتات وزواحف وأشجار وورود في كرنفالات تشترك فيها كائنات لا حصر لتنوعها،
كائنات تتخذ شكل (خلايا) مغلقة بجدار سميك أسود يعزلها عن العالم الخارجي المليء
بالكائنات الأخري التي ربما كانت تتصف بالعدائية فتهدد بالتهام بعضها بعضاً دون
وجود ذلك الجدار، وربما هو إجراء دفاعي من الرسام ذاته بهدف تحصين أشكاله خوفاً من
ضياعها يف هذا الخضم الهائل من الأشكال السابحة علي سطح اللوحة كما تسبح الحجيرات
في سائل موضوع تحت المعاينة المجهرية، حقل مترامي الأطراف من أشكال مشخصة تؤكد
نزوعها والأدق تؤكد نزوع الشكل نحو أزله العلاماتي، الأشد بساطة من الناحية
الشكلية والذي يختزلها إلي نظام بعدي هو بشكل ما نظام أقل من بعدين نظام يتجاوز
الخط (كبعد واحد) ولكنه لا يصل إلي حالة التشكل فهو محاولة للعودة إلي الوجود
الجيني للشكل أو (الوجود الحجيري) لشكل الكائنات حيث تتحول الطير الواقف إلي
حرف(ي) والشمس دائرة ذات خطوط وهكذا، إن الانقطاع الواقع بين أشكال الرسام صدر
الدين يجعلها تقصر فن الرسم علي انطباعات بصرية مفردة، تحقق وحدة واندماجا يستحيل
أن يحققها الأدب القادر علي تحقيق تتابعات حكائية وبذلك ينتهي البعد الاستطرادي
والبنية الخطية، فلا وجود لذلك النظام الأرسطوطاليسي في التتابع عند بناء اللوحة
في هذه التجربة إنها بنية متشظية، تشابه بني لوحات الرسام المغربي حسين الميلودي
والعراقيين فاخر محمد وكريم رسن في تجاربه السابقة، حيث تتناثر الأشكال فيها لتملأ
سطح الفراغ، ملونة ومحاطة بخط (حقيقي) سميك أسود، وكأننا أمام نص تعويذة تعود إلي
أبجدية صورية غائرة في القدم ، نصوص لا يمكن فك معانيها لافتقارها إلي معرفة قواعد
أبجدتها واتجاه قراءتها، أو صور رسمها عقل طفولي لم تلوثه الحضارة باكتشافاتها
ومعارفها،فلم يزل يرسم بأسلوب (عين الطائر) حيث تظهر كل الموجودات معاً دون أن
يحجب أي منها الآخر، وخلال منظور ذي بعدين تتخذ فيه الأشكال ما يعرف(بالوضع
الأمثل) في الرسم .
تتواشج بنيتا
اللون والأشكال المنعزلة فرغم اتخاذ كل شكل وحدة قائمة بذاتها، إلا أن تواشجاً قد
نشأ بينها وبين (السائل) الذي تسبح فيه وهو ما يمنحها وحدة شكلية وكأنها نص صوري،
كتبه عشرات من البشر مرّوا أمام كهف فسجلوا علاماتهم وبذلك كانت أعمال الفنان
مقاطع من جدران كهوف ملونة بألوان زاهية ذات سمة طفولية واضحة من الناحية التقنية
.يمتلك الفنان صدر الدين وعياً بالشكل لا يمتلكه إلا القليلين وعي جوهري في تأسيس
فهم فن الرسم علي بنية (مكانية ــ صورية) أي طوبولوجية، لكن لا يمكن اعتباره
واحداً من فناني المفروكات في تكنيك اكتشاف أشكاله كما هو علي النجار مثلاً، فصدر
الدين لا يصنع حقل متعرجات لاكتشاف أشكاله بل هو قد جمع في ذاكرته ذخيرة من أشكال
(عناصر ) المحيط القابلة للاستيعاب وتكوين الصورة وفق عملية انتقائية داخلية تخضع
لسيطرة آلية عمل الذاكرة الإنسانية في انتقاء أشكالها بعد أن يكون قد أنجز العملية
التحولية عليها لتكون جاهزة كخزين من صور الذاكرة القابلة للتحول (فالأسلبة صفة
ملازمة لكل حركات الفن، حيث الحاجة إلي التعديلات التي تتطلبها خصائص وسيلة التعبير
ذاتها)، إلا أن ما يتبقي دائماً، هو الموضوعة الدالة حيث يكمن الطابع typos في قلب الرؤية ، فقد ترك الشيء بصمته التي لا تمحي، رغم كل
التحولات الشكلية التي يحاول صدر الدين إجراءها علي أشكاله وتكنيك إنجازها وتنوع
المواد التي يستخدمها أو الأهداف النفعية للعمل الفني ، بين أن يكون عملا مقتني
يعلق علي جدار أو بوستراً للإعلان عن معرضاً أو بطاقة بريدية أو غير ذلك .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق