الخميس، 10 أغسطس 2017

غسان غائب .. 
        خلاص اللوحة من ربقة البعدين 



الرسم العراقي يتحرر من معايير السوق





خالد خضير الصالحي
شارك الرسام غسان غائب في المعرض المشترك الذي اقيم في البحرين مؤخرا في صالة البارح للفنون، مع الفنان نزار يحيي، وفي توصيف خارجي لحجم مشاركته، وطبيعة أعماله نقول انه قد شارك بأثني عشر عملا تشكلت من مواد مختلفة، وخمسة اعمال ورقية ومواد مختلفة، وعملين ينتميان الي النحت: احدهما عبارة عن الة طابعة مع اسلاك شائكة مع شعر لمحمود درويش، والاخر عبارة عن كتاب سميك نصفه مربوط باسلاك شائكة والنصف الاخر خريطة العراق محروقة وعليها عش فيه بيضتان.
حينما شاهدت المعرض السابق للرسام غسان غائب في دار الاندي،2005 والذي كان بعنوان (الوشم)، احسست ان هذا الرسام الذي طالما فتنني بمنجزه السابق، قد وصل بأسلوبـه ذاك، وبالرسم التجريـدي العراقي الي نقطـة حرجة، او ربما الي نقطـة تقاطـع لا يمكن مواصلة الطريق معها بالاتجاه ذاته: حينما انتهي فعل الرسم لديه، وبدأ يهيمن فعل الطلاء من خلال سطوح مسطحة، واسعة، ترسم بسكين الرسم لا بالفرشاة، وكانما كانت فكرة (الطلاء) استعارة لوظيفة (طلاء الجدران) من خلال "استعارته لسطوح جاهزة من الحياة اليومية ودمجها بسطوحه التجريدية... واستعارته لأقمشة بأشكالها الهندسية الجاهزة... مصاغة بهيئة الانزياحات للمواد الخام والمساحات اللونية وليس بفعل الرسم.... ليمارس وجده وانبهاره بما يؤديه الاكتشاف للأشكال الهندسية ضمن طاقة الخامات... والسطوح الطلائية الواسعة.... والاشكال المشخصة هندسيا" كما تذكر بحق الناقدة الرسامة د.هناء مال الله في كتيب معرضه في دار الاندي (مع اعترافنا بتصرفنا الكبير في تقطيع واختيار هذه النصوص)، وتخلص هناء مال الله الي ان خطابه حتي معرض دار الاندي كان "لا يحتاج الي معني محدد"، رغم اننا نعتقد انه يظل، بمنأي عن معني محدد سواء كان بحاجة اليه ام لا، او ربما كانت هناء مال الله تقصد بالـ"معني المحدد"، معني سرديا مستمدا من الواقع اليومي كما انتهي او حاول ان ينتهي اليه في معرضه هذا في البحرين.

مواد مختلفة لصنع اللوحة
لم تعد اللوحة عند غسان غائب سطحا يوفر فرصة لمعالجة المادة تقنيا (اللون غالبا)، بل صارت مناسبة مكانية ليس لها توصيف هندسي محدد، فهي ليست سطحا بالضرورة، ولا مادة تقليدية ( لونا) هدفها توفير فرصة لأستخدام شتي المواد الجاهزة Ready made الغريبة بشدة احيانا عن مواد الرسم التقليدية: نبات الليف، وخيوط محاكة كالسجاد، وأقمشة وأنسجة غريبة ومتنوعة، ونباتات يابسة، وكتب محترقة، وأسلاك شائكة، وملصّقات، وفحم، والياف، وهي مواد تخلق مختلف العلائق التي لا تتصف بالثبات بالضرورة.
لقد كتب البعض عن استخدام الرسام غسان غائب لمواد واقعية ككولاج او كمواد جاهزة، فكانوا يصفونها بانها عودة للواقع بشكل ربما يذكّرنا بما كتبه زهير غانم (علي ما اتذكّر) مرة خلال الثمانينات‘ حين اعتبر تجربة شاكر حسن ال سعيد في البعد الواحد تجربة واقعية هي في جوهرها (استنساخ) لسطوح الحيطان، وبذلك فهي لا تختلف عن اشكال نقل الواقع ومشخصاته الي سطح اللوحة، وكان هذا الرأي وقتها ــ بالنسبة لي علي الاقل- فكرة تقف علي الضد مما كان سائدا في تناول ما كان يعرف بتجربة البعد الواحد، وكانت الفكرة تذكّرني بما طرحه قبلا احد مؤلفي كتاب (الانسان ورموزه) لكارل غوستاف يونغ حينما كان يعتقد ان الرسم التجريدي هو، في وجه من الوجوه، عودة الي النظرة المجهرية للمادة، حيث يقترب شكل سطح اللوحة التجريدية من اية صورة فوتوغرافية لقطرة تحت معاينة مجهرية، وبذلك فهو شكل من الاقتراب من (جوهر المادة)، او ربما كانت شكلا اقل تطرفا مما طرحه الرسام محمود صبري في واقعية الكم كتخريج لاتجاهه التجريدي الهندسي.
يثور تساؤل هنا: هل ان المحاولة الحالية لغسان غائب هي محاول لردم قطيعة كرستها عقود من التجربة التجريدية للرسم العراقي مع سواد المتلقين، فاذا بهذا الرسم يرتدّ الان علي يد غسان غائب، وينقلب علي عقبيه عائدا الي (عناصر الواقع) الجاهزة التي تعيد لهذا الرسم العراقي قوة الوشائج مع المتلقين، وخاصة مع اولئك المتلقين الكسولين الباحثين عن المعاني والتأويلات بعد ان حاول التجريد العراقي خلق متلق من نمط مختلف آخر، متلق ترتبط (تأويلاته)، أو عملية التلقّي لديه مع عناصر السطح التصويري، وعناصر العمل الفني المادّيّة؟، وهل يمكن اعتبار التجربة الاخيرة لغسان غائب ارتدادا حينما تتوجه الي نمط (قديم) من المتلقين؟،

التحرر من معايير السوق
وهل يمكن قبول تخريج الناقد فاروق يوسف لتجربة غسان غائب في هذا المعرض، حينما يصف الرسام غائب بأنه كان يحاول ان "يتحرر من معايير السوق التي قتلت مواهب كثيرة كان في امكانها ان تفعل الكثير في الحياة الثقافية العربية" ويبدو ان فاروق يوسف كان يعني بـ"معايير السوق" هنا امتثال الرسامين لاشتراطات الرسم لتجريدي السائدة في الرسم العراقي حاضرا، ويخرّج مضمون اعمال غسان غائب الاخيرة بأن غسان غائب كان يحاول ان "يعيش محن شعبه وبلده فصار اليوم رساما اخر، رساما مختلفا، لقد اصابته الحروب التي انعكست في دفاتره خرابا اسود، فصار يجد في كل شيء من ذلك الخراب نوعا من المرآة التي تشير اليه، صار يلتقط اشياء تعيد الي سطح لوحته الحياة المريرة التي عاشها، لم يعد يعنيه ان يكون مقبولا في سوق التداول الفني بقدر ما عنيه ان يكون موجودا في اعماله بصفته ذاتا تتشظي ويتعرض جزء عظيم منها للنفي والفقدان والغياب"، ويبدو الناقد فاروق يوسف منساقا هنا بأسباب تخصه لا تعنينا ولكنه ايضا قد يكون منساقا بتصريحات للرسام ذاته الذي قال عن اعماله في رسالة خاصة لي قد يكون عممها علي اخرين وهذا ما ارجّحه "... من خلال معايشتي للحرب خلال السنوات السابقة، وما آلت اليه من تبعات تدميرية شملت الانسان والبيئة، امست هذه النتائج تشير، وتؤشر الي عجز وخلل في الفكر الانساني باعتباره نمطا فكريا يسوّق قيمه، وايديولوجياته عن طريق القسوة وغريزة العدوان، فحاولت الولوج، والاستنجاد بالحضن البيئي حيث الطمانينة والسمو، فاستخدمت بعض العناصر والخامات الطبيعية من البيئة المحيطة بي، والمستعملة في العراق، والتي من شانها خلق جّو من التوحد مع البيئة الام المفعمة بالدفء... وفي اعمال اخري، ونتيجة لتداعيات الاحداث الاخيرة ــ السيارات المفخخة ــ حاولت العمل علي مادة الفحم الطبيعي كنتيجة لقتل وتهشيم وتصدّع الفكر الانساني اليوم. وقد حاولت العمل خارج المالوف وبكل جرأة، علي ما اعتقد، لكسر الرتابة القاتلة والمخجلة التي يتبناها اليوم اغلب فنانينا لاجل ارضاء زبون، ولسنين طوال، وهم يعملون علي نفس السطح، ونفس التقنية، ونفس النمط... واعتقد ان من المخجل ان تجري يوميا مجازر، وتدمير منظم لبلدنا، بينما يستلقي الفنانون بنشوه وخدر، فأنا اشعر بواجب اخلاقي تجاه اهلي ووطني حينما اعرض جزءا من الدمار والالغاء الذي يتعرض له شعبنا"
وكيفما كانت مواقف الاخرين بشأن التجربة الاخيرة لغسان غائب فأننا نظر اليها باعتبارها محاولة تجريبية تسير متساوقة مع خط تجريبي بدأه هؤلاء الفنانون الذين تجايلوا في مرحلة من مراحل الفن التجريدي العراقي: غسان غائب، ونزار يحيي، وسامر اسامة، وبشكل مختلف نوعا ما هاشم حنون، فقدموا كشوفات ومعالجات تصطف مع فهمٍ شيئيٍ للرسم يعد، مقارنة بما سبق، فهما حداثيا متقدما، ومتساوقا، مع تحولات طبيعية في الرسم العراقي، وان ماقدمه غسان هنا يحتاج وقفة تأمل بعيدة عن المقاربات (الخارجية) التي تغترف مفاهيمها من خارج الواقعة الشيئية لمادية اللوحة من اجل ان يكون النقد في مستوي هذه الظاهرة التي شكلها هؤلاء الفنانون المجددون في الرسم التجريدي العراقي.














Azzaman International Newspaper - Issue 2736 - Date 2/7/2006

جريدة (الزمان) الدولية - العدد 2736 - التاريخ 2/7/2006






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق