الخميس، 20 أغسطس 2009

رنا جعفر ياسين و(المدهون بما لا نعرف)








البصــــــــــــــري
واللغــــــــــــــوي


خالد خضير الصالحي
العــــراق – البصـــرة

كتبت مرة في معرض دراستي لقصيدة (عيد البوقات) للشاعر حسين عبد اللطيف "إن الاشتغال من خلال اللغة هو إحدى نعم الكتابة النقدية التشكيلية وإشكالاتها في الوقت ذاته، وهو أمر يتلمسه النقاد المهتمون بالفن التشكيلي وبالشعر معا، فقد أكد الناقد التشكيلي سهيل سامي نادر مرة "أن لا وجود للنقد الفني بوصفه حركة مستقلة، انه نص يختلط بنصوص أخرى .. انه لا ينفصل عن التقاليد الأدبية، فخطته أدبية، أوصافه وتعابيره، و لاسيما لغته كلها، وطريقته في الحكم". رغم أن الشعر والرسم من طبـيعتيـن مختلفتين: طبيعة لغوية، وأخرى بصرية، إلا أننا نشعر بوشائجهما قوية بشكل محسوس في ميدان الصورة الشعرية والبصرية معا.
إن بحث رنا جعفر ياسين في الجوانب البصرية للغة، أو ما تسميه هناء مال الله (العناصر التكوينية للوحة) بشكل يجعلها أمامنا وكأنها لوحة، باعتبار تلك هي الرابطة البنائية بينهما، بحثا عما يبثه النص البصري باتجاه النص اللغوي، وما يبثه النص اللغوي باتجاه النص البصري، باعتبارهما الوثيقتين الوحيدتين المطروحتين للقراءة ومن ثم التأويل هنا بتواشج يجمعهما معا كونهما جناحا (مدونة) رنا جعفر ياسين (المدهون بما لا نعرف)، أي بمعنى كمون مركزية القراءة في المشترك من النصوص بصرية كانت أو لغوية.
إن هذا (الكتاب الذي بين الدفتين) وهو الإصدار الرابع للشاعرة و الإعلامية و التشكيلية العراقية رنا جعفر ياسين وصدر مؤخرا عن دار سنابل للكتاب في القاهرة، يبتدئ النص ليس فقط من عنوانه، وإنما يبتدئ وينتهي في كل تفاصيل المدونة منذ لوحة الغلاف الأول وحتى صفحته الأخيرة، فقد تم انجاز غلاف المجموعة من قبل الشاعرة الرسامة ذاتها، بطريقة القص بالة حادة: مقص أو كتر، وهو تكنيك اتبعه الرسام هنري ماتيس في أواخر أيامه، وهو، أيضا، تكنيك يفتح، برأينا، الصفحة الثانية لفن الرسم باعتباره مؤلفا من آليتين رئيسيتين تماثل آليتي النحت بالتجميع والنحت بالحذف، فحينما يبتدئ النحات بالفراغ ويبدأ بوضع المادة الطيعة كالطين مثلا فإنما هو يردم المادة التي مازالت بحكم الفراغ غير المرغوب به، بينما حين يبدأ النحات بكتلة صلدة كالخشب أو الحجر فانه إنما يزيل الفراغ الذي لم يزل مادة غير مرغوب بها، وقد يمكن تقسيم الرسم تقسيما مماثلا الآن، فخلافا للرسامين التقليديين الذين يضعون المادة في فراغ الكانفاس ، هنالك تكنيك آخر كان يفعله ماتيس، في أواخر أيامه، وهو ما فعلته الشاعرة-الرسامة رنا جعفر ياسين، حينما كانت تحذف مادة الصفحة فلا يتبقى منها إلا ما هو مرغوب به ويتخلف عنه الفراغ، وهو ما تفعله الشاعرة في الكتابة أيضا، حينما تبدأ باختزال نصها مشذبة إياه إلى أقصى مدياته ليبقى محملا بفراغ العبارة التي يكون البحث عنها مهمة يحملها القارئ، وتتنصل منها الكاتبة. فمنذ عنوان مدونتها (المدهون بما لا نعرف) تضع القارئ بمواجهة مهمته العسيرة وهي ردم فراغات النص، وهو أول باعتباره بوابة النص، وهو هنا يتوفر على بنية صورية ورمزية دالة بعمق، فنحن نبتدئ مما يهمله أولئك النقاد، وهو الغلاف، باعتباره بوابة الديوان القرائية الأهم.
نحن نعتقد إن الغلاف هو جزء من هوامش العنوان؛ فرغم إن الغلاف غالبا لا يرسمه الشاعر، إلا انه في احيان كثيرة يختاره أو يوافق عليه، فيكون بالنسبـة إليـه مادة نصـية جاهزة، يماثـل ما يعـرف بالمواد الجاهــزة ready made التي يستخدمها في بناء (كتابه)، فكيف إذا كان الشاعر هو الذي رسم غلاف مجموعته ورسم تخطيطاتها الداخلية، كما فعلت رنا جعفر ياسين، فتكون مكيدة العنوان شركا تنصبه الشاعرة للمتلقي باعتباره أولى عتبات النص التي على ذلك المتلقي أن يضعها في حساباته منذ اللحظة الأولى للقراءة.
من أولى خطوات قراءتي لمجموعة رنا جعفر ياسين (المدهون بما لا نعرف) كان الغلاف أولى محطات الغواية التي أسستها الشاعرة على الغموض، غموض شكلي مطبق فليس الغلاف بصفحتيه، الأمامية والخلفية، إلا كولاجا يمارس بطريقة عكسية لتكنيك الكولاجات، فالكولاجات إن هي إلا عملية إضافة شكلية (لونية هنا)، فإذا بها تتحول عند رنا إلى عملية إفراغ للبياضات من بين ثنايا الألوان، تماما كأنها ممارسة النحت بالإضافة، وهو ذات التكنيك الذي اتبعته الشاعرة في بناء نصها، وقبل ذاك في بناء تخطيطاتها، حيث كانت في تلك التخطيطات تمارس غواية حذف المعالم المشخصة من الأشكال؛ فتكتفي ببضعة من تلك الأشكال، بضعة تومئ إلى معالم الشكل من طرف قصي، وتلك ذاتها طبيعة نصها الذي أطبق على معناه في حرز حريز؛ فمنذ صفحته الأولى:العنوان (المدهون بما لا نعرف) بدا لنا لإهداء مملوءا بفراغ دلالي؛ فلم أكن على ثقة بطبيعة ذلك الذي أهدت له ديوانها...
"إليهِ فقط ..وإلى كلِّ ما حوله من غموضٍ، وبالوناتٍ، وأسئلةٍ معلقة"،
فقد بدا لي وكأنه لم يكن شخصا!!، ربما هو من طبيعة أخرى تماما، رغم انه يتمتع بكل ما يمتلكه الكائن من تواصل مع الآخر ومن قدرة على الانسنة الحوارية.
نصها إذن نص مسكون بـ"ـمحاولة لخلق حالة بحث عن اللامسموع و اللامرئي , اللامسمى و اللاممسك الأكثر غموضا من المجهول , من خلال توظيف لغة مركبة و فضفاضة و رؤى تنفتح على دلالات مختلفة قابلة لأكثر من تأويل"، تأويل يكتسي كل احتمالات التأويل؛ بما فيها احتمالات تأويل تتجه نحو الايروتيكية الخبيئة التي يبثها النص على استحياء أحيانا؛ "الكلماتُ المكسوَّةُ باللحم ِتنتفـضُ كوصمةِ ثلج, تساءلُ الجسدَ المبنيَّ من الدهـشة:
- من بعثركَ أيها المقدسُ المعقوفُ كالخوف؟
ينهمرُ صوتـُهُ من بعيدِ الزمن, مقتربا ًمن الهوس ِالملبَّدِ ببقع ٍ حمر.. يعوي ويئنُّ.. يعوي ويئنُّ، مستلذِّا ً بغرابةِ جرحهِ المظلم:
(يداكَ تحملان ِالرأس
قدماكَ تحملان ِالجذع
أما الروحُ فقد هاجرت أعضاءَكَ المتعفنة).
ترقصُ ضحكتهُ عاريةً، مُكشِّرة ًعن شهوةٍ نازفةٍ مرشوقةٍ بالبارود:
(تسارعت نحوي خطايَ
علها تجدُ مني العظمَ أو الكفن
فأنا ضائعٌ موجودٌ
وطفولتي هجرتني من ذاكَ الزمان).
ينتابني صوتهُ, فأفكرُ:
لا تبتئسْ, مصاطبُ الموتى أتقنت الكارثة َ, والرحمة َ أيضاً".
و"الورعُ القادمُ من جوفِ الرغبةِ يطمعُ بالماءِ المجدول ِبخرق ٍبيضاءَ لا أكثر.."
" ما أن أغلقتُ الضوءَ حتى انبجست الفوضى.
الصوتُ المصقولُ بالحرمان ينفرُ من الغفوةِ الأخيرة.
(لا تقلْ..
لا تقلْ..
اهمسْ كيفما شئت بلونٍ خفيض)
ما تبصرْ طوقـِّهُ بالخوف، إغمسْ رغباتكَ في بركةٍ مارد "

"المدبباتُ/ المغالياتُ بالسخونةِ/ المناهضاتُ للنعومةِ/ المحدباتُ/ المقعراتُ/ الملوَّثاتُ بالغلِّ، يضربنَ حريرَ النعاسِ بمخالبِ الكابوس, يرتفعنَ ..، وحينَ الانخفاضِ يضاءُ ما أمكنَ من التوجّع، يستديمُ اللمعانُ بعيداً بعيداً، يبرقُ الدمُّ ويـُلعَنُ الصبرُ بشراسة".
إلا أن الشاعرة لفرط هول ما شهده العراق من أحداث دموية يتخذ خطابها لغة واضحة لا مواربة فيها
فـ"ـالمشهدُ مازالَ طرياً، رغمَ إكساب الحلم ِ طعمَ التوتِ واللذة:
(الشارعُ المنخورُ من فرطِ الرصاص/ السيارة ُالمزينة ُبالحرائق/ بيتُ الجيران ِالمبتور/ النهرُ المخلوط ُبالدم/ الدكاكينُ الغاضبة ُمن تجوالِ ِالأسلحة/ المدارسُ المكسوة ُبالممنوعات/ أناشيدُ الأطفال ِالملوَّثة ُبالحرمانِ ِوالنكب/ نساءُ الحي الباحثاتُ عن الأشلاء/ الرجالُ الواهنونَ من الجلد/ الصغارُ المحدقونَ في عيدٍ محض ِخيال/ المتكوِّمون بلا أنفاس ٍتحييهم من الدم ِاللاذع المغطي بقاياهم)".
إنها رنا جعفر ياسين تلك التي تحاول أن تنقذ المدينة فتصرخ:
"هيا أسرعوا لننقذ َالمدينةَ, فالحرائقُ في الشوارع ِ
في البيوتِ
وفي القلوب. النارُ تصهرُنا, فعمدونا بالفرات".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق