مرة روى الرسام العراقي المغترب في لندن ضياء العزاوي عبر صفحات مجلة العربي الكويتية في ملف اصدرته عن النحات-الرسام العراقي الراحل اسماعيل فتاح الترك، بان الرسام العراقي الراحل كاظم حيدر علق على المعرض الشهير الذي اقامه اسماعيل فتاح الترك عام 1965، بعد عودة الترك من الدراسة في روما، بأنه لو حبس في غرفة لليلة واحدة لأنجز معرضين مثل معرض الترك، ولم يوافق ضياء العزاوي وقتها على ما قاله كاظم حيدر واعتبر ذلك انتقاصا من قدرة الترك، الا اني ، في موضوع نشرته عن الراحل الترك، نظرت الى الموضوع من زاوية واتجاه اخر، ووجدت ان كاظم حيدر كان (محقا)، كما وجدت ان ذلك لم يخلّ بمكانة الترك ورفعة ابداعه، وان جوهر القضية لا يتعلق بموقف او رأي لكاظم حيدر بمكانة الترك، بل بمفهوم وفلسفة كاظم حيدر والترك بفن الرسم، واسلوبهما المتناقض في بناء اللوحة، فلم تكن اللوحة عند كاظم حيدر بناء شكليا فقط ، بل ومخططا فكريا تهيمن فيه (الدلالة) وعلى وجه التحديد (التعبير عن الروح المحلية) الذي كان من الصعب على التشكيليين القفز فوقه في ظل هيمنة النقد الذي يروج لهذا الاتجاه وهيمنته على الكتابة في هذا الحقل وعلى المنجز التشكيلي العراقي برمته، وتشهد بذلك اعماله في معرض ملحمة الشهيد الذي اسميته مرة: "(آنسات افنيون) الرسم العراقي"، باعتباره (العمل) الذي احدث اكبر تحول في الرسم العراقي الحديث، حينما افتتح (معرض الشهيد) عصر الستينات بعد ان ختم نصب الحرية لجواد سليم، عصر الرسم العراقي الخمسيني، او شكل النهاية المنطقية لذلك العصر، عندما انتقل مركز الثقل الى (السطح التصويري) باعتباره "اهم مستوى من مستويات الوجود الفني"، وحيث صارت الاولويات تنطلق من، وتعود الى "إعادة تجريب إنتاج المرئي بصور مختلفة ... والاهتمام بالمادة التي يٌنفّذ بها العمل بعفوية وتلقائية وجرأة" فكان الوعي الرؤيوي للستينيين هو (الوعي المتجاوز) ذلك الوعي الذي يحاول البدء من جديد في كل مرة من خلال وعي عال بمعالجة المادة باعتبارها "بحد ذاتها رؤية".
لقد كانت نظرة كاظم حيدر للوحة، باعتبارها بناء فكريا يستغرق وقتا طويلا للانتهاء منه، نظرة تنتمي الى كلاسيكيات فن الرسم رغم اشكاله الحداثية، وتنتمي الى (حكائيات) روبنز وانجيلو ودافنشي، وكل اللوحات (القصصية) التي كانت تستلهم القصص المقدسة، بينما تنتمي رسوم الترك الى فهم مختلف تماما، فمثلما لم تولد لوحات فرنسيس بيكون وجاكسن بوللوك "من ساعات طويلة من التفكيرفي موضوع، ولا رسمت من نقاش، بل كانت تنمو من تلقاء نفسها، من صنيع من الرسم، او ربما من انفعالات العقل اللاواعي" كما قالت لليان فريدكود، فان الترك كان يعتبر اللوحة تجربة متيريالية (شيئية)، او مناسبة لاختبار المادة، فلم تكن لوحاته‘ لفرط اخلاصها لشيئيتها، بحاجة الى عنوانات مثلا، فكانت عنواناتها لا تعدو ان تكون اشارات لتمييزها عن بعضها كعنوانات جاكسون بوللوك للوحاته حينما كان لا يكلف نفسه مشقة تلفيق عنوان مناسب لكل لوحة فيكتفي بترقيمها، وهو فهم دشن عصرا جديدا في الرسم العراقي هو جيل الستينات، وبذلك فقد شكّل الترك وعدد من مجايليه: ضياء العزاوي، ورافع الناصري، وصالح الجميعي، ومحمد مهر الدين، وعلي طالب، والــ(ـخمـسـ)(ـسـتـ)ــيني شاكر حسن ال سعيد، شكّلوا الوجه الاخر من العملة التي شكل فيها كاظم حيدر وجواد سليم وجهها الاول، وبذلك لم يكن كاظم حيدر واسماعيل فتاح الترك الا وجهين لعملة واحدة هي المخاض الستيني الذي انقض على قداسة الاشكال الخمسينية فيه كاظم حيدر بينما اسس الترك و(مجموعته) الطليعية (الرؤيا الجديدة والمجددين) فهما جديدا للوحة باعتبارها مغامرة متيريالية، او واقعة شيئية، لذلك كان الترك، مثله في ذلك مثل فرانسيس بيكون الذي لا يستغرق كثيرا في التفكير بموضوع اللوحة، فيكفيه ان يغمس فرشاته باللون، ويضعها على سطح اللوحة ليظهر وجه الشاخص الذي كان يظهر ويعاود الظهور في كل مرة بمظهر وقناع جديد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق