عبادة الخط
محمد خضير
وجد خالد خضير في فن الرسم ضالة يسكن بها نزعة من نوازع موهبته المتعددة الجوانب .. فهو لاعب شطرنج وشاعر وناقد .حين امسك برأس الخط ، انجذب إلى النقطة الشابحة على رقعة رؤيته شخص وحيد ، قدم من الضفة البعيدة لبحيرة الحبر ، وحينما تكرر حضوره ، تشبع الفنان بحبرية هذا الشخص ، فلم يكن هذا الشخص سوى روح دمية مجنحة ، تبحث عن جسد واسم الأسرة . سلم خالد شخصه للطباعة فاحتل حيزا ضيقا إلى جوار النصوص الأدبية. واكتفى الشخص بهذا الحضور ، كما قنع الفنان بالتخطيط وسيلة وحيدة لاستحضار أشباح حبرية لفراغه التصويري. إذ ما يمتاز به التخطيط على اللون والظلال ، اتساع مساحة رقعة البصر ، وتقلص حجم الشكل إلى نقطة ضائعة في فراغ الرقعة الواسع. هذه مزية تناسب لاعب أدوار دهرية.
كنت وما أزال اعتقد أن فن التخطيط ممارسة خاصة جدا ، شأنها شأن الكتابة المنسوخة ، مادتها الورق و الحبر ، حتى لو استعان رسام التخطيط أحيانا بقلم الرصاص والفحم أو لجأ إلى التلوين أو التظليل . وان اعتكاف الرسام على خطوطه شبيه بتمركز النساخة في مخطوطه ، وكلا العملين نوع من أنواع عبادة الخط ، تلخصها عبارة أسامة بن منقذ (سعادة الوراق جلود وأوراق وحبر براق وقلم مشاق) . وحين يجتمع التخطيط والكتابة في تزويق مخطوطه ، تكتمل العبادة بزواج الصناعتين ، ويتحقق فيها قول شاكر حسن آل سعيد (عودة الشكل إلى أزله الخطي ، والحجم إلى أزله الشكلي).
ومثل أية عبادة تتعرض للانتهاك ، هتكت طباعة المحفورات (الكرافيك) الرباط المقدس بين الخط والكلمة ، وقضت احترافية الرسم على براءة التخطيط ، وغلبت تقنية الاختراع عفوية الأسلوب ، واختلط ظل الفنان المتبتل في محترفه بظلال النقاشين والطباعين والتجار وهواة جمع اللوحات المطبوعة. ولم ينجح رسام من حمى الحفر ، ولم يفلت مطبوع من امتصاص فائض التعبير الأدبي لروح الخطوط الحرة . ولم يعد التخطيط إلى صراط عبادته الأصلية إلا باختراع الطباعة السطحية (الأوفست) التي أباحت الاطلاع على كراسات محترفي التخطيط الأصلية ، فأحسسنا بطراوة الانطباع الأول ، وحرارة الفكرة ، وتنوع الإيقاع الخطي في دراسات مايكل أنجلو ودافنشي ورافائيل التشريحية ، وبورتريهات ماتيس ، ومجموعة تخطيطات بيكاسو ، وبغداديات جواد سليم ، ومعراجات شاكر حسن آل سعيد ، وتراثيات ضياء العزاوي ، وتخطيطات علاء بشير وإبراهيم رشيد وعلي طالب. كانت تلك الكراسات ترجمة أمينة لميول الفنانين الذاتية وقدراتهم الفنية ، احتفظت بإيقاع الزمن ، ومدت جسورا إلى تخطيطات أدباء وجدوا في البعد الحسي للتخطيط إسنادا قويا للأبعاد التصورية الرمزية في رؤاهم الأدبية . (تخطيطات وليم بليك وجبران ولوركا وميشو وغونتر غراس..).
وما دام التخطيط حرا ، وانفراديا ، في محترفه الأصلي وفي محترف الطباعة الحديثة ، فلننظر إلى تخطيطات خالد خضير في حيزها المستقل عن الرموز الكتابية . إنها ما تزال عند نقطة الابتداء ، بانتظار الهاتف القادم من النقطة البعيدة المتلاشية في بقعة الحبر ، مصورا في شخص وحيد ، لا تتغير ملامحه . انه نفسه في كل تخطيط ، رأس كبير ، جثة ثقيلة (ثقل قطرة الحبر) ، عين واسعة ، وأنف كبير . وليست للخط إلا وظيفة واحدة ، هي إيقاظ الشخص في الطرق البعيدة وإحضاره . ومهما اتخذ الخط من اتجاه ، أو تعددت نقاط انحنائه ، وكيفما استدار في محيطه ، فالشخص غالبا هو نفسه ، جانبي الوجه (يتجه إلى الجهة اليسرى) دافعا معه رموزه (لا تخلو زمرة من شكل طائر يتجه باتجاه الوجه) إذ ليست للخط إلا هذه المهمة ، توكيد الشخص في كل مرة يسمع الرسام هاتفا يتناهى إليه من عالم الأشباح ، يقود الخط الشخص كما يقود أعمى ، كان نائما في عالم المسرنمين ، بلا اسم ولا عمر ولا ذاكرة ، إلا ذاكرة الخط الرهيفة التي ترسمه ثم تدعه ينحل بسلام عند نقطة الالتقاء بعالم الحضور .هكذا يبدو خط خالد (خط شبحه) دائبا في المسير ، ولنا أن نتوهم أن وراء الشخص الوحيد أشباحا ساعية في ظلام الحبر ، لكنها لا تصل أبدا . كما لنا أن نتصور خلف رأس الشخص الضخم الملامح مخلوقا لا جنسيا ينتمي إلى عالم الرغبات المكبوتة ، وان خلف المساحة المحدودة أصقاعا مجهولة ، وخلف الخط الدقيق إيقاعا بدائيا عنيفا ، وان خلف التخطيط بحرا من الرسوم . إنها البداية فقط ، والخطوة القادمة أغنى في التنوع والإيقاع والتشكيل . أما الآن فلا يقدم التخطيط غير هذه الهواتف المترددة من الطرف الآخر ، والزيارات القصيرة الحميمة الثابتة الاتجاه ، والارتسامات المتماثلة . إن أشخاص خالد خضير أشكال أرواح ، كما وصفها هو ، أو دمى أرواح . وربما أثبتت تخطيطاته أن للأرواح وجوها متشابهة . وان فراغ السطح التصويري يلتقي بحافة فراغ كوني اكبر . وان الخط مهما نحف أو قصر ، هو الحقيقة الوحيدة التي تشير إلى أولية الفراغ على الامتلاء . إن التخطيط هو الممارسة التصويرية الوحيدة التي تكتفي بنقطة وحيدة . وحين يتحرك الخط منها فانه يتحرك لينتهي بها . وأي شكل سيحدده الاتجاه سيكون شكلا غزير الدلالة ، لأنه الشكل الوحيد الذي ابتدأ من نقطة صغرى نظيرة لنقطة الفراغ الأكبر .
بهذه التعليلات تسيل قطرة الحبر على فراغ السطح الأبيض فتملأ ثقوب الفكرة بأشكال الأزل ، مهما تصاغرت أو تكررت أو جمدت . وليس كالتخطيط احتراف تطور عن عبادة .
محمد خضير
وجد خالد خضير في فن الرسم ضالة يسكن بها نزعة من نوازع موهبته المتعددة الجوانب .. فهو لاعب شطرنج وشاعر وناقد .حين امسك برأس الخط ، انجذب إلى النقطة الشابحة على رقعة رؤيته شخص وحيد ، قدم من الضفة البعيدة لبحيرة الحبر ، وحينما تكرر حضوره ، تشبع الفنان بحبرية هذا الشخص ، فلم يكن هذا الشخص سوى روح دمية مجنحة ، تبحث عن جسد واسم الأسرة . سلم خالد شخصه للطباعة فاحتل حيزا ضيقا إلى جوار النصوص الأدبية. واكتفى الشخص بهذا الحضور ، كما قنع الفنان بالتخطيط وسيلة وحيدة لاستحضار أشباح حبرية لفراغه التصويري. إذ ما يمتاز به التخطيط على اللون والظلال ، اتساع مساحة رقعة البصر ، وتقلص حجم الشكل إلى نقطة ضائعة في فراغ الرقعة الواسع. هذه مزية تناسب لاعب أدوار دهرية.
كنت وما أزال اعتقد أن فن التخطيط ممارسة خاصة جدا ، شأنها شأن الكتابة المنسوخة ، مادتها الورق و الحبر ، حتى لو استعان رسام التخطيط أحيانا بقلم الرصاص والفحم أو لجأ إلى التلوين أو التظليل . وان اعتكاف الرسام على خطوطه شبيه بتمركز النساخة في مخطوطه ، وكلا العملين نوع من أنواع عبادة الخط ، تلخصها عبارة أسامة بن منقذ (سعادة الوراق جلود وأوراق وحبر براق وقلم مشاق) . وحين يجتمع التخطيط والكتابة في تزويق مخطوطه ، تكتمل العبادة بزواج الصناعتين ، ويتحقق فيها قول شاكر حسن آل سعيد (عودة الشكل إلى أزله الخطي ، والحجم إلى أزله الشكلي).
ومثل أية عبادة تتعرض للانتهاك ، هتكت طباعة المحفورات (الكرافيك) الرباط المقدس بين الخط والكلمة ، وقضت احترافية الرسم على براءة التخطيط ، وغلبت تقنية الاختراع عفوية الأسلوب ، واختلط ظل الفنان المتبتل في محترفه بظلال النقاشين والطباعين والتجار وهواة جمع اللوحات المطبوعة. ولم ينجح رسام من حمى الحفر ، ولم يفلت مطبوع من امتصاص فائض التعبير الأدبي لروح الخطوط الحرة . ولم يعد التخطيط إلى صراط عبادته الأصلية إلا باختراع الطباعة السطحية (الأوفست) التي أباحت الاطلاع على كراسات محترفي التخطيط الأصلية ، فأحسسنا بطراوة الانطباع الأول ، وحرارة الفكرة ، وتنوع الإيقاع الخطي في دراسات مايكل أنجلو ودافنشي ورافائيل التشريحية ، وبورتريهات ماتيس ، ومجموعة تخطيطات بيكاسو ، وبغداديات جواد سليم ، ومعراجات شاكر حسن آل سعيد ، وتراثيات ضياء العزاوي ، وتخطيطات علاء بشير وإبراهيم رشيد وعلي طالب. كانت تلك الكراسات ترجمة أمينة لميول الفنانين الذاتية وقدراتهم الفنية ، احتفظت بإيقاع الزمن ، ومدت جسورا إلى تخطيطات أدباء وجدوا في البعد الحسي للتخطيط إسنادا قويا للأبعاد التصورية الرمزية في رؤاهم الأدبية . (تخطيطات وليم بليك وجبران ولوركا وميشو وغونتر غراس..).
وما دام التخطيط حرا ، وانفراديا ، في محترفه الأصلي وفي محترف الطباعة الحديثة ، فلننظر إلى تخطيطات خالد خضير في حيزها المستقل عن الرموز الكتابية . إنها ما تزال عند نقطة الابتداء ، بانتظار الهاتف القادم من النقطة البعيدة المتلاشية في بقعة الحبر ، مصورا في شخص وحيد ، لا تتغير ملامحه . انه نفسه في كل تخطيط ، رأس كبير ، جثة ثقيلة (ثقل قطرة الحبر) ، عين واسعة ، وأنف كبير . وليست للخط إلا وظيفة واحدة ، هي إيقاظ الشخص في الطرق البعيدة وإحضاره . ومهما اتخذ الخط من اتجاه ، أو تعددت نقاط انحنائه ، وكيفما استدار في محيطه ، فالشخص غالبا هو نفسه ، جانبي الوجه (يتجه إلى الجهة اليسرى) دافعا معه رموزه (لا تخلو زمرة من شكل طائر يتجه باتجاه الوجه) إذ ليست للخط إلا هذه المهمة ، توكيد الشخص في كل مرة يسمع الرسام هاتفا يتناهى إليه من عالم الأشباح ، يقود الخط الشخص كما يقود أعمى ، كان نائما في عالم المسرنمين ، بلا اسم ولا عمر ولا ذاكرة ، إلا ذاكرة الخط الرهيفة التي ترسمه ثم تدعه ينحل بسلام عند نقطة الالتقاء بعالم الحضور .هكذا يبدو خط خالد (خط شبحه) دائبا في المسير ، ولنا أن نتوهم أن وراء الشخص الوحيد أشباحا ساعية في ظلام الحبر ، لكنها لا تصل أبدا . كما لنا أن نتصور خلف رأس الشخص الضخم الملامح مخلوقا لا جنسيا ينتمي إلى عالم الرغبات المكبوتة ، وان خلف المساحة المحدودة أصقاعا مجهولة ، وخلف الخط الدقيق إيقاعا بدائيا عنيفا ، وان خلف التخطيط بحرا من الرسوم . إنها البداية فقط ، والخطوة القادمة أغنى في التنوع والإيقاع والتشكيل . أما الآن فلا يقدم التخطيط غير هذه الهواتف المترددة من الطرف الآخر ، والزيارات القصيرة الحميمة الثابتة الاتجاه ، والارتسامات المتماثلة . إن أشخاص خالد خضير أشكال أرواح ، كما وصفها هو ، أو دمى أرواح . وربما أثبتت تخطيطاته أن للأرواح وجوها متشابهة . وان فراغ السطح التصويري يلتقي بحافة فراغ كوني اكبر . وان الخط مهما نحف أو قصر ، هو الحقيقة الوحيدة التي تشير إلى أولية الفراغ على الامتلاء . إن التخطيط هو الممارسة التصويرية الوحيدة التي تكتفي بنقطة وحيدة . وحين يتحرك الخط منها فانه يتحرك لينتهي بها . وأي شكل سيحدده الاتجاه سيكون شكلا غزير الدلالة ، لأنه الشكل الوحيد الذي ابتدأ من نقطة صغرى نظيرة لنقطة الفراغ الأكبر .
بهذه التعليلات تسيل قطرة الحبر على فراغ السطح الأبيض فتملأ ثقوب الفكرة بأشكال الأزل ، مهما تصاغرت أو تكررت أو جمدت . وليس كالتخطيط احتراف تطور عن عبادة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق