الخميس، 20 أغسطس 2009

تخطيطات خالد خضير الصالحي ...
















عبادة الخط
محمد خضير


وجد خالد خضير في فن الرسم ضالة يسكن بها نزعة من نوازع موهبته المتعددة الجوانب .. فهو لاعب شطرنج وشاعر وناقد .حين امسك برأس الخط ، انجذب إلى النقطة الشابحة على رقعة رؤيته شخص وحيد ، قدم من الضفة البعيدة لبحيرة الحبر ، وحينما تكرر حضوره ، تشبع الفنان بحبرية هذا الشخص ، فلم يكن هذا الشخص سوى روح دمية مجنحة ، تبحث عن جسد واسم الأسرة . سلم خالد شخصه للطباعة فاحتل حيزا ضيقا إلى جوار النصوص الأدبية. واكتفى الشخص بهذا الحضور ، كما قنع الفنان بالتخطيط وسيلة وحيدة لاستحضار أشباح حبرية لفراغه التصويري. إذ ما يمتاز به التخطيط على اللون والظلال ، اتساع مساحة رقعة البصر ، وتقلص حجم الشكل إلى نقطة ضائعة في فراغ الرقعة الواسع. هذه مزية تناسب لاعب أدوار دهرية.
كنت وما أزال اعتقد أن فن التخطيط ممارسة خاصة جدا ، شأنها شأن الكتابة المنسوخة ، مادتها الورق و الحبر ، حتى لو استعان رسام التخطيط أحيانا بقلم الرصاص والفحم أو لجأ إلى التلوين أو التظليل . وان اعتكاف الرسام على خطوطه شبيه بتمركز النساخة في مخطوطه ، وكلا العملين نوع من أنواع عبادة الخط ، تلخصها عبارة أسامة بن منقذ (سعادة الوراق جلود وأوراق وحبر براق وقلم مشاق) . وحين يجتمع التخطيط والكتابة في تزويق مخطوطه ، تكتمل العبادة بزواج الصناعتين ، ويتحقق فيها قول شاكر حسن آل سعيد (عودة الشكل إلى أزله الخطي ، والحجم إلى أزله الشكلي).
ومثل أية عبادة تتعرض للانتهاك ، هتكت طباعة المحفورات (الكرافيك) الرباط المقدس بين الخط والكلمة ، وقضت احترافية الرسم على براءة التخطيط ، وغلبت تقنية الاختراع عفوية الأسلوب ، واختلط ظل الفنان المتبتل في محترفه بظلال النقاشين والطباعين والتجار وهواة جمع اللوحات المطبوعة. ولم ينجح رسام من حمى الحفر ، ولم يفلت مطبوع من امتصاص فائض التعبير الأدبي لروح الخطوط الحرة . ولم يعد التخطيط إلى صراط عبادته الأصلية إلا باختراع الطباعة السطحية (الأوفست) التي أباحت الاطلاع على كراسات محترفي التخطيط الأصلية ، فأحسسنا بطراوة الانطباع الأول ، وحرارة الفكرة ، وتنوع الإيقاع الخطي في دراسات مايكل أنجلو ودافنشي ورافائيل التشريحية ، وبورتريهات ماتيس ، ومجموعة تخطيطات بيكاسو ، وبغداديات جواد سليم ، ومعراجات شاكر حسن آل سعيد ، وتراثيات ضياء العزاوي ، وتخطيطات علاء بشير وإبراهيم رشيد وعلي طالب. كانت تلك الكراسات ترجمة أمينة لميول الفنانين الذاتية وقدراتهم الفنية ، احتفظت بإيقاع الزمن ، ومدت جسورا إلى تخطيطات أدباء وجدوا في البعد الحسي للتخطيط إسنادا قويا للأبعاد التصورية الرمزية في رؤاهم الأدبية . (تخطيطات وليم بليك وجبران ولوركا وميشو وغونتر غراس..).
وما دام التخطيط حرا ، وانفراديا ، في محترفه الأصلي وفي محترف الطباعة الحديثة ، فلننظر إلى تخطيطات خالد خضير في حيزها المستقل عن الرموز الكتابية . إنها ما تزال عند نقطة الابتداء ، بانتظار الهاتف القادم من النقطة البعيدة المتلاشية في بقعة الحبر ، مصورا في شخص وحيد ، لا تتغير ملامحه . انه نفسه في كل تخطيط ، رأس كبير ، جثة ثقيلة (ثقل قطرة الحبر) ، عين واسعة ، وأنف كبير . وليست للخط إلا وظيفة واحدة ، هي إيقاظ الشخص في الطرق البعيدة وإحضاره . ومهما اتخذ الخط من اتجاه ، أو تعددت نقاط انحنائه ، وكيفما استدار في محيطه ، فالشخص غالبا هو نفسه ، جانبي الوجه (يتجه إلى الجهة اليسرى) دافعا معه رموزه (لا تخلو زمرة من شكل طائر يتجه باتجاه الوجه) إذ ليست للخط إلا هذه المهمة ، توكيد الشخص في كل مرة يسمع الرسام هاتفا يتناهى إليه من عالم الأشباح ، يقود الخط الشخص كما يقود أعمى ، كان نائما في عالم المسرنمين ، بلا اسم ولا عمر ولا ذاكرة ، إلا ذاكرة الخط الرهيفة التي ترسمه ثم تدعه ينحل بسلام عند نقطة الالتقاء بعالم الحضور .هكذا يبدو خط خالد (خط شبحه) دائبا في المسير ، ولنا أن نتوهم أن وراء الشخص الوحيد أشباحا ساعية في ظلام الحبر ، لكنها لا تصل أبدا . كما لنا أن نتصور خلف رأس الشخص الضخم الملامح مخلوقا لا جنسيا ينتمي إلى عالم الرغبات المكبوتة ، وان خلف المساحة المحدودة أصقاعا مجهولة ، وخلف الخط الدقيق إيقاعا بدائيا عنيفا ، وان خلف التخطيط بحرا من الرسوم . إنها البداية فقط ، والخطوة القادمة أغنى في التنوع والإيقاع والتشكيل . أما الآن فلا يقدم التخطيط غير هذه الهواتف المترددة من الطرف الآخر ، والزيارات القصيرة الحميمة الثابتة الاتجاه ، والارتسامات المتماثلة . إن أشخاص خالد خضير أشكال أرواح ، كما وصفها هو ، أو دمى أرواح . وربما أثبتت تخطيطاته أن للأرواح وجوها متشابهة . وان فراغ السطح التصويري يلتقي بحافة فراغ كوني اكبر . وان الخط مهما نحف أو قصر ، هو الحقيقة الوحيدة التي تشير إلى أولية الفراغ على الامتلاء . إن التخطيط هو الممارسة التصويرية الوحيدة التي تكتفي بنقطة وحيدة . وحين يتحرك الخط منها فانه يتحرك لينتهي بها . وأي شكل سيحدده الاتجاه سيكون شكلا غزير الدلالة ، لأنه الشكل الوحيد الذي ابتدأ من نقطة صغرى نظيرة لنقطة الفراغ الأكبر .
بهذه التعليلات تسيل قطرة الحبر على فراغ السطح الأبيض فتملأ ثقوب الفكرة بأشكال الأزل ، مهما تصاغرت أو تكررت أو جمدت . وليس كالتخطيط احتراف تطور عن عبادة .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق