الأحد، 23 أغسطس 2009

فاخر محمد وعاصم عبد الأمير وهاشم حنون













تماثل الهيكلية البنائية



خالد خضير الصالحي
khkhiraq@yahoo.com

حينما ظهرت تجارب الفنانين فاخر محمد وعاصم عبد الأمير في معارض جماعة الأربعة كانت تمتلك قدرا واضحا من القطيعة التي جعلت الكثيرين غير مقتنعين تماما بإمكانية بعث الجماعات الفنية، وبدعاوى جماعة الأربعة باعتبارهم جماعة ذات اتجاه فكري يجمع شتات تجاربهم المختلفة، إلا ان توالي معارض هذه المجموعة والمزاملة الطويلة لبعضهم واستضافتهم للرسام هاشم حنون بدأ يلاقح تجاربهم ببعضها، وينقل تأثيرات احدهم إلى تجربة الآخر؛ فبدأت تجاربهم تقترب من بعضها ونخص الآن منهم الرسامين: فاخر محمد وعاصم عبد الأمير وهاشم حنون، حيث لم تتشابه تجارب هؤلاء شكليا فقط بل وتماثلت بالهيكلية البنائية السرّيّة التي كانوا يبنون عليها تجاربهم فقد كان نسيج اللوحة عند هؤلاء الرسامين لا يمتد فقط في انتشار سطحي بل يمتد ويتغلغل عمقا، وفق بناء مؤلف من طبقتين (أي من مستويين = شريحتين بنائيتين) هما: مستوى (الباك كراوند) الخلفية (بعدان = طول X العرض)، وهو المستوى الذي يؤسسه تكنيك الألوان، حيث تستعاد علامات المحيط (= آثار الزمن في المحيط أو ألوانه التي تركها على المحيط) آثارا وبقعا وألوانا وسوائل مسكوبة دون وعي، وهو، أي هذا المستوى، يعالجه الفنان أولا، من الناحية الزمنية، فهو إذن مستوى غائر، تمثله بقايا مقتطعة من حائط أو بلاطة قديمة دونت الرطوبة والتعرية عليها آثارها، فبدا عليها فعل الزمن واضحا، وهي طبقة فاتحة من اللون دائما؛ لأنها مهيأة لاستقبال الأشكال الداكنة التي في مخيلة الرسام. بينما يبدو المستوى السطحي الكاليغرافي (العلامات = الخط = البعد الواحد)، داكنا، قريبا من السواد، الذي يقترب لونه من لون الحبر (الفاحم) الذي كان مداد تدوين المخطوطات، وهو يمنح اللوحة (بنيتها الشكلية) الأهم، ويجمّـعه فاخر محمد من عناصر شتى، من (مخلفات البشر) وآثارهم ورسومهم وعلاماتهم، من علامات جدران كهوف عصور ما قبل التاريخ وحتى الزمن الحاضر: أشكال حيوانات عاشت في تلك الأزمان وأسلحة صيد بدائية (سهام وأقواس)، وأشكال أنشأتها الحضارة :كالنقاط والمثلثات المتقابلة بالرأس غالبا، والنماذج والأشكال الهندسية الأخرى. خدوش وأطراف توحي بأشكال بشرية وحيوانية دونما تفاصيل محددة، نثار من خطوط كأنها مطر يرسمه الفنان فاخر محمد كما يرسمه الأطفال، وعلامات غائرة في الوعي الشعبي مثل أشكال البسط والسجاجيد وعلامة الكف التي يرفعها الناس في المواكب الدينية، أو التي تدق عند مداخل البيوت دفعا للحسد، بينما يتمثل عند عاصم عبد الأمير بوسيلة شكلية يعمد إليها الرسام ليؤكد أشكال اللوحة بعد الانتهاء من الطبقة السطحية للون وهو ما يفعله هاشم حنون كذلك ولكن بطريقة انتقائية لا تعدو ان تكون بضع لمسات خطوطية تشكل خارطة طريق للمتلقي ليتلمس بنفسه الأشكال التي (توحي) بها بقع اللون.
وبذلك تكون هذه الآلية هي ذاتها عملية (الانتحاء الرئيس) كما يسميها فرانكلين ر. روجرز ، وهو اتحاد الصور الذي يحدث في مخيلة الفنان بين صورتي الواقع (وهي هنا ما تثيره طبقة اللون من أشكال) والذاكرة (وهي ما يضعه الرسام من خطوط تحدد المياه الإقليمية لأشكاله)، حيث السطح (=البعدان) ينطوي على العلامات الخطية (البعد الواحد)، وأيضا يتفانى التشخيص والتجريد معا لإنتاج مادة كثيفة رؤيويا هي (المادة الجوهرية) العصية على التشكل ، بل أن كل عناصر اللوحة تنصهر في (البعد التقني) لتلك المادة، إلا ان علاقة هؤلاء الرسامين الثلاثة بهذه العملية متفاوتة القوة وهو ما يعطي لكل منهم سماته الأسلوبية المتفردة عن الآخرين إلا أنهم جميعا متفقون على الطبيعة الشكلية لهذه الآلية حيث يضعف الطابع النفعي للعلامة أي البعد الاتصالي، ويكرس بعدها الشكلي المجرد، وهم بذلك يكرسون (البعد الأسطوري للتدوين) حيث يتوحد اللغوي بالشكلي (=مدونات الأوفاق والتعاويذ والسحر) وهو ما يسميه شاكر حسن آل سعيد (التفاني =بمعنى فناء كل جانب في الآخر) ، حيث لا وجود عندها لثنائية (الشكل والمحتوى)، فالرؤية تتخذ تركيبة من (قالب الشكل) وتصبح الفكرة هي شكل الأشياء التي جمعتها المخيلة، وهي ذاتها فكرة الشيء التي يسميها الرسام ماكس آرنست (العلة الأولى)، وذلك ما نتلمسه في توجه واسع في الفن التشكيلي العربي الحديث: شاكر حسن آل سعيد، التريكي ، المليحي ، كريم رسن "وهو اتجاه يكرس فناء اللغوي ببعديه الحروفي و ألعلاماتي في التشكيلي وفي الرسم بشكل خاص".
ان الامتلاء الواعي والاحتفاء غير المحدود بموجودات الواقع في أعمال هؤلاء جميعا جعلنا نعتقد ان هؤلاء الرسامين لم يعرفوا التجريد، ولم يمارسوه كما يفعل الكثيرون، إنهم يوظفون علامات المحيط، ويوظفون محتويات الذاكرة التي تتم استعادتها يوما ما، باعتبارها (المادة الجوهرية) التي تملأ ذاكرة هؤلاء؛ فيستلون منها ما يشاءون، دون ان يعرفوا كيف ومتى يحدث ذلك. ورغم الحرص الواعي على إخفاء (المصادر الواقعية) للوحة، إلا ان مصدر الشيء (فكرة الشيء) أو بكلمة أدق (بصمة الواقع التي لا تمحي) تكون قد تركت (علامة لا يمكن إزالتها)، لأنها (الجرثومة الطوبولوجية) التي هيكلَ الفنان بناءَ لوحته عليها بطريقة لاواعية منذ وضع أولى لمساته على سطح اللوحة، تماما مثل كثير من لوحات كاندينسكي (التجريدية)، فلوحة كاندينسكي (دراسة لتكوين رقم 4) مثلا ، قد تبدو (تجريدية) من نظرة سطحية، إلا انه لم يزل هنالك الكثير الذي يمكن تبيّـنه من (تشخيصات) الواقع: يقف المحاربون المسلحون بالرماح وسط الحشد، يعتمر بعضهم القبعات الحمراء، وتظهر خلفهم القلاع التي جرت المعارك قبالتها، بينما تظهر أسراب الطيور والشمس في جانب اللوحة و يظهر قوس قزح بين الغيوم في الجانب الآخر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق