الأحد، 30 أغسطس 2009

هاشم حنون وربع قرن من الرسم







اللوحة بلغة الجسد

خالد خضير الصالحي
Khkh1956@yahoo.com


كثيرا ما صنفنا هاشم حنون، باعتباره رساما تعبيريا حتى حينما يكون في اشد حالاته غلوا تجريديا، فقد اعتمد هذا الرسام اختزال أشكال المشخصات وليس تأسيس رسم لاشكلي أو غير مشخّص، وبذلك فقد كان يعتمد الجسد الإنساني باعتباره منتجا للدلالة وللتواصل عبر استنطاق أعضاء الجسد ذاته أو امتداداته، فكان هذا الرسام، ومنذ أولى مشاركاته في معارض العاصمة العراقية، قد اتخذ الجسد كلا متكاملا كـ(ـمهيمنة شكلية) يؤسس عليها معمار لوحاته، جاعلا أعماله تلك مشبعة بإيماءات الجسد الإنساني من خلال ما تم التموضع عليه اجتماعيا من دلالات، وذلك يصدق عليه منذ لوحته (الأولى) التي تم اقتناؤها، والتي أطراها جميع من كتبوا عن بدايات هاشم حنون، ونعني بها لوحة الشهيد التي كانت تصور الجسد المسجى الذي تحيط به النسوة الناحبات، فكان يوظف إيماءة ذلك الجسد الإنساني من خلال نسق سبق وان وظفه دلاليا رسامون عراقيون عديدون: فائق حسن، محمود صبري، فيصل لعيبي، وآخرون، ونسق آخر هو من تأثيرات لوحات عصر النهضة وغيرها من الأعمال التي تصور جسد السيد المسيح (ع) وخاصة تلك التي كان رسمها جريكو ووظف فيها استطالات أشكال الجسد الإنساني ليوحي ببنية يرتفع فيها المقدس إلى الأعالي، وبذلك فقد كان هاشم حنون، ومنذ مشاركته المهمة التي استضافته فيها جماعة الأربعة في احد معارضها، حيث كُرس هاشم حنون باعتباره رساما سيشكل علامة في الرسم العراقي لجيل الحرب العراقية الإيرانية، كان يؤكد توجهه هذا بشكل قوي عندما طرح موضوعة الشهادة في معرضه الذي كرسه لها والذي أقامه في مركز الفنون عام ؟؟؟؟ ، ورافقته محاضرة لي أقمتها في المركز ذاته وأذن لي الصديق الناقد سعد القصاب بنشرها في نشرة (الواسطي) التي كان يشرف عليها، وكانت نشرة تعنى بموضوعات الفن التشكيلي وتصدر عن مركز الفنون في ذلك الوقت.
لقد كانت أشكال هاشم حنون في ذلك الوقت أشكالا تعبيرية مشخّصة ومحتفظة بملامحها بشكل كبير، وتكسوها غلالة لونية حليبية تماثل ألوان رينوار البيضاء، مع احتفاظها بالبنية التي كرسها عصر النهضة المتأخر والتي هي بنية هرميه لتوزيع الأشكال واتجاهها مرتفعة نحو مثلث الرأس العلوي.
كان احترام الجسد الإنساني دالة كبيرة في أعمال هاشم حنون المبكرة باعتبار ذلك الجسد موطنا للقداسة، رغم تعرضه للامتهان عند الوفاة، وذلك هو السبب القوي الذي جعل الرسام يعود إلى لوحات صلب المسيح ليتخذها هدفا للتناص في رسم أعماله التي تناولت موضوعة الشهادة، والتي كان الجسد الإنساني فيها هدفا تستوطنه الآلام ولكن تتجسد فيه القداسة في نهاية المطاف.
لقد أقام هاشم حنون معرضه الأول في بغداد والحرب العراقية الإيرانية في بداياتها، فلم يتكشف بعد ذلك الوجه القبيح الذي ظهرت به أخيرا حينما استعرت المعارك بعد الهجمات القاسية التي شنتها إيران لإخراج الجيش العراقي من أراضيها، ثم لاحتلال الفاو أخيرا، وهي معارك خلفت عشرات الآلاف من القتلى في كلا الجانبين، فشكلت جثث هؤلاء مادة تلفزيونية بشعة كانت يعرضها تلفزيونا البلدين كـ(ـصور من المعركة) ليبرهن كل طرف لشعبه إن ما فعلته قواته المسلحة (الباسلة) بالأعداء كان أمرا جللا تعجز عن وصفه الكلمات والصور، فظهرت الجثث نافقة، ومقطعة، ومحترقة، وتثير اكبر قدر من البشاعة والتقزز لتشكّل خزينا انغرس عميقا في لاوعي الناس في ذلك الوقت ثم ظهرت آثاره وآثار الحروب التي أعقبته، بعد سنوات حينما بدأت المجاميع المسلحة تستحل الجسد وتنتهكه بأبشع ما يكون عليه الانتهاك، فانتقل هاشم حنون من تقديس الجسد المقدس الذي يعرج مرتفعا نحو السماء إلى مرحلة لاحقة فبدأ الوجود البشري لديه ينفصل إلى جزأين من طبيعتين مختلفتين، جزء غير مادي يحمل القداسة ذات الطبيعة غير المادية وهي ترتفع إلى السماء كتلة هلامية لا معالم محددة لها وهي في طريقها نحو السماء، بينما تتخلف بقايا الجسد الممزقة التي كانت تعرض من على شاشات التلفاز في صور المعركة، أشلاء مقطعة تحتل قعر اللوحة وهي ليست إلا بقايا من كتل حمراء وسوداء غامضة ودامية وتشبه بقايا الدم المتخثر، وبذلك تمكن هاشم حنون من الكشف عن الطاقات التعبيرية التي ينتج بها الجسد وبقاياه الدلالات التعبيرية المضمرة فيه، فلا يعود الجسد يوجد خارج عالم الأشياء، بل يبدأ عالم الأشياء بالانتماء إليه بعد أن تكون الاشياء قد انفصلت عن عالمها بفعل قوة مدمرة؛ فتغدو كينونته كينونة لبقاياه، ولا يعود الجسد دالا مكتفيا وقادرا على توليد سلسلة لا متناهية من الدلالات انطلاقا من تنوع الأنماط الصانعة لكينونته؛ وبذلك يكشف هاشم حنون عن مسلك آخر تتحقق فيه كينونة الجسد من خلال فعل اندماجه ببقاياه التي تسد مسده، وحينما لا يتبقى منه إلا تلك البقايا، " عندما يستعصي العثور على معنى للكل، بإمكان المحلل أن يعود إلى الأجزاء. فقد لا يدل الكل إلا من خلال أجزائه، أو قد تختلف دلالة الكل عن دلالة الأجزاء المكونة له." كما يقول سعيد بنكراد.
لقد كرس هاشم حنون هذه الهندسة الشكلية واللونية والدلالية طوال عقدين من الزمن، لم يبتعد فيها أحيانا عن تناول الجسد باعتباره المكان الذي تمارس فيه أبشع جرائم البشر ضد أنفسهم إلا ويعود إليه سريعا بفعل الغربة، وأوضاع العراق التي لم تتبدل منذ حرب الخليج الأولى وحتى وقتنا الحاضر، فامتلأت نفسه بالحزن والغم على بلده الذي احترق وما زالت حرائقه مستعرة، فكانت عناصر لوحاته الأولى تختفي يوما لتظهر يوما آخر، ولتبلغ أقسى تمظهراتها من خلال تلك البقايا المادية لأجساد العراقيين: لبقاياهم التي لا تعدو أن تكون خرقا أو أشلاء أجساد محترقة، أو بقايا قطع جنفاص المواضع المحترقة التي ملأت المدن وهي تستعد للحظة الحرب، أو بقايا الآثار التي خلفتها الحرب الطويلة التي مرت بها مدينته البصرة، المدينة التي ولد وعاش فيها الرسام سنوات حياته الأولى، المدينة التي طالما اجتاحها الغزاة وموجات الطاعون على مر التاريخ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق