مع كتابات.. خالد خضير الصالحي: النقد الفني هو التذوق في أعلى مستوياته ويستند على الحياد
الاثنين 24 شباط/فبراير 2020
خاص: حاورته- سماح عادل
“خالد خضير الصالحي” ناقد تشكيلي وأدبي عراقي، ولد في 19 حزيران 1956 في مدينة البصرة أقصى الجنوب العراقي، وتخرج من جامعة البصرة (كلية الفنون الجميلة.. قسم الرسم)، كتب في نقد الفن التشكيلي والشعر المئات من المقالات، عمل في الصحافة رساما ومصمما ومحررا، ومدربا دوليا بلعبة الشطرنج وحكما دوليا ولاعبا.
ومن مؤلفاته:
– هاشم حنون.. الواقعة الشيئية.
– قيم تشكيلية في الشعر العراقي.
– الشطرنج للمبتدئين (ترجمة).
– تشكيليو البصرة 2017.
إلى الحوار:
(كتابات) متى بدأ شغفك بالرسم وكيف طورته؟
– غالبا ما ينتمي الشغف بالأشياء إلى حقب غائرة في حياة الإنسان، إلى مرحلة الطفولة حينما اكتشفت أن صفحة الورقة في دفتر الدراسة لا تصلح للكتابة فقط، وأن هنالك نمطا آخر من (الكتابة) هي الرسم، التي صارت وسيلة أثيرة للتعبير عن الوعي الجمالي الطفولي.
أن هذا الفهم الأولي الغائر في الطفولة الذي تعلمناه من أهلنا، ومعلمونا، كنا نفهم الرسم كما نفهم الكتابة، باعتبارها مفردات دالة، فكنا نستبدل مفردات الرسم بدل مفردات الكتابة، وهو الخلل الأول الذي إن لم يتغير، فسيتحجر لاحقا لينتج متلقيا نثريا سرديا لقضية غير سردية، وهو ما انصب جهدنا النقدي فيه.
فقد انصب جهدنا على عملية التلقي، والمقاربات النقدية اللاحقة على الجانب الجمالي الاسثطيقي، ولا ينصب على المقاربات التأويلية، ولكن محنة الكتّاب، والكتابة، أنها الأقرب إلى (المقاربة التأويلية)، حتى وإن كتبوا عن حقل مختلف هو الحقل الجمالي (الفن التشكيلي). وكما أن محنة علم الأديان انتماؤه لحقل العلم، وليس لحقل الدين، وكذلك محنة الرسم في انتماء علم الجمال إلى حقل الكتابة والتأمل الفلسفي، ولا تنتمي إلى (الواقعة الشيئية) التي هي جوهر الفن التشكيلي..
(كتابات) احكِ لنا عن عملك بالرسم ولما توقفت عنه؟، ولما اخترت مجال النقد للفن التشكيلي؟ حدثنا عن اهتمامك بالنقد الأدبي؟
– كنت أشارك في معارض الفن في ثمانينيات القرن الماضي في مدينة البصرة، في أقصى الجنوب العراقي، واشتغلت ونشرت في العديد من الصحف العراقي كرسام لنصوص الشعر المنشورة ومنها صحف: “الزمان والمدى”، وأكملت دراستي في أكاديمية الفنون الجميلة قسم الرسم في البصرة، بينما نشرت مقالاتي عن الفن في فترة متأخرة مقارنة بالرسم.
ولكنني أدركت أن التميز والتفرد هو أهم سمات الإبداع، وأنني يمكن أن أحقق ذلك بالكتابة أكثر مما أحققه بالرسم؛ فالثقافة العراقية، والعربية مليئة بالتجارب الفنية التي من الصعب تخطيها، ولكن حقل الكتابة التشكيلية النقدية حقا، مازالت أرضا بكرا لم تحرث بعد، برأيي؛ فاتجهت إلى الكتابة، وكتبت عشرات المقالات، وعددا من الكتب المنشورة، والتي هي قيد النشر. أما النقد الأدبي فأنا أمارسه حينما أجد مشتركات له مع الرسم، ومع الصورة، وتعالقات الصورة الشعرية والصورة المرئية.
(كتابات) كتابك قيم تشكيلية في الشعر العراقي، حدثنا عنه؟
– كنت ومازلت أحاول الاشتغال على التخوم التي توصل الشعر بالرسم، فأصدرت كتابي (قيم تشكيلية في الشعر العراقي)، تناولت فيه تجارب عدد من الشعراء العراقيين عبر ثيمات بَصَرية، فقد كنت أؤكد دائم: “الاشتغال من خلال اللغة، وهو إحدى نِعَم الكتابة النقدية التشكيلية، ومآسيها في الوقت ذاته، وهو أمر يتلمّسه النقادُ المهتمون بالفن التشكيلي، وبالشعر معا، فقد أكد الناقد التشكيلي “سهيل سامي نادر” مرة “أن لا وجود للنقد الفني بوصفه حركة مستقلة، إنه نص يختلط بنصوص أخرى.. إنه لا ينفصل عن التقاليد الأدبية، فخطته أدبية، أوصافه وتعابيره، ولاسيما لغته كلها، وطريقته في الحكم”.
ولأننا كنا قد بدأنا علاقتنا بالثقافة، مثل آلاف قبلنا، بمحاولات في كتابة الشعر، وقراءته، باعتباره حاضنة أولية للثقافة، فقد وجدنا في أنفسنا هوى لقراءة الشعر، وقراءة النقد الذي ينشر عنه، ودراسة آليات ذلك النقد، إلا أن الصلة الوثيقة التي تربطنا بالرسم ونقد الرسم جعلتنا نبحث، معظم الوقت، في تخوم، العلاقة بين هذين النمطين الإبداعيين، رغم أنهما من طبيعتين مختلفتين: طبيعة لغوية، وأخرى بصرية، إلا أننا نشعر أننا نتلمس وشائجهما قوية بشكل محسوس، وهذه هي وجهة نظرنا التي نزعم أنها خبرت كلا الفنين بدرجة لا بأس بها، وهو ما يجعلنا، وما زلنا نحاول التعامل مع الجوانب البصرية للقصيدة، أو ما تسميه “هناء مال الله” (العناصر التكوينية للوحة) بشكل يجعلها أمامنا وكأنها لوحة، باحثين فيها عن الجوانب البصرية، وعن ما يربطها بالرسم من الناحية البنائية”.
لقد حاولت أن أبقي الرّسم مجازفا بإطلاق عينه المبصرة في حقل لغويّ خاصّ ويدفع بها، بلا تحفظ، من أجل أن نرى الرسمُ بـ: ألوانه، وخطوطه، وأشكاله، وسطوحه، وفضاءاته وهي تتقلّب في كلماتٍ قُدِّر لها، هي الأخرى، أن تصنع، بمنطقها الخاص، التأثير الذي اجتهدت بصناعته، بطريقتها الخاصّة، على سطح مرئي، وحاولت أيضا أن أفتح الحدود بين الشعر والرسم لإجراء عمليات تبادل مصالح بين تخومهما المشتركة، لتغدو الصورة مجالاً حيوياً يستثمر فيه الشعر والرسم رأسماليهما وطاقاتهما في إنتاج نصّ ذي طبيعة هجينة تضافرت في تشكيلها قوى مخلوقيْن لم يكفا عن تمثيل قرابتهما ورغبتهما في أن يتباريا على سطح موحّد.
من يستطيع أن ينكر اليوم ذهاب الرسم في الشعر، ونزول الشعر في الرّسم؟ من يقدر على دحض جوهر عملهما المشترك القائم على الرؤية والتشكيل؟ أليس هناك من أطلق على ضرب من الشعر ذي نزعة تصويريّة بالشعر التشكيليّ؟
إنّ الرسم والشعر عاشا في وفاق دوماً، وفي صداقة يُغبطان عليها، في أغلب الحضارات، وفي صلة لا تتقطّع أسبابها، وتعلّم أحدهما من الآخر، وما يزالان يتجاوران، أو يتداخلان، ويلتصقان ببعضهما كتوأمين يحكي أحدهما حكاية الآخر بمتعة. وما يجعل الشعر والرسم قريبيْن من بعضهما تمركزهما في الانشغال بقيم التشكيل الجمالي لعناصرهما الأساسيّة.. وعلى أساس إحساسهما بجوهرهما المشترك راح الرسم يتدخل في حياة الشعر، ومضى الشعر يتدخل في حياة الرسم، وصار بإمكانهما أن يأتلفا في نص مشترك على سطح جامع تتفاعل فيه قواهما ووسائلهما، وتتحاوران صانعتيْن دراما مشتركة من الكلمات والخطوط والألوان. وإذن غدا ممكناً تحقيق تداخل، أو دمج مثاليين بين الرسم والشعر في فضاء موحد يسمح بتعميق تضافر عناصرهما الأساسية عن طريق تطويع الكلمات، وتحويلها إلى أشكال مرسومة على سطح تصويريّ.
ضم الكتاب موضوعات تناولت تجارب عدد من الشعراء العراقيين، منهم: “حسين عبد اللطيف ومؤيد حنون ومجيد الموسوي وعادل مردان، وجبار الوائلي، ورنا جعفر ياسين، ووديع شامخ، وإلهام ناصر الزبيدي، ومحمد طالب محمد، ومصطفى عبد الله، وعلي النجدي، وكاظم اللايذ، وعبد الخالق محمود، وسلام الناصر، وأحمد العاشور” وغيرهم..
قال عنه الناقد التشكيلي والشاعر “هاشم تايه”، تحت عنوان (انفتاح الحدود بين الشعر والرسم) بأنني كنت فيه “منطلقاً ممّا بات أقرب إلى قناعة راسخة لدى كثيرين، بولادة الفنون جميعها سواء أكانت قوليّة أم مرئيّة من رؤية بالعين لعناصر مختلطة في صورة أولى تتسم بالتشوش، والفوضى، والضبابيّة، وتخضع لخيال نشط يجتهد في انتخاب عدد من تلك العناصر المختلطة، لتشكّل بالتحامها مع بعضها نواة صورة جديدة مقترحة لتحولات مفتوحة يصنعها الخيال، وتنتهي بإنتاج تكوين صوري ذي عضويّة مهيّأة للتفتح والحياة، وبالوسع تمثيلها بمادة بصريّة أو لغويّة، منطلقاً من هذه القناعة يحاول خالد خضيّر الصالحي، وهو ناقد تشكيليّ مثابر، أن يختبر عُدّته النقديّة المنتمية إلى حقل التشكيل، في قراءة نصوص شعريّة مستعيناً بعدد من المفاهيم التي أنتجها هذا الحقل، وخاصّة مفهوم (الشيئيّة) الذي أطلقه هيدغر في كتاب عنوانه وموضوعه (أصل العمل الفني)”.
وكتب الشاعر “وديع شامخ” عن الكتاب: “خالد خضير الصالحي مبدع متعدد المواهب: رسام، وخطاط، وشطرنجي، وناقد تشكيلي، وشاعر، ولقد تأخر الشاعر في أعمال خالد منتجا.. لكنه تواصل مع الشعر من حقل التأويل/النقد.. فكان هذا الكتاب وفاءً للأدب وللشعر منه خاصة. وهو ليس مقالات متفرقة تُجمع في كتاب كما شاع في إنتاج الكتاب التقليدي، لكنه مقالات ينتظمها متجه واحد، وموضوعات واحدة هو الشأن الأدبي والشعري العراقي وبالأخص قصائد النثر منه باعتبارها اتجاها مهيمنا في الشعرية العراقية، وإن كان برتراند رسل يعرف الفلسفة في كتابه (حكمة الغرب) بأنها اشتغال في مناطق التخوم التي تفصل بين العلوم المختلفة، فقد ارتضى خالد خضير الصالحي الاشتغال في مناطق تخوم مماثلة تقع في المياه الإقليمية للرسم والشعر معا، مناطق تخوم مرتكزها الفكري الأساس: إن الرسم والشعر يتجهان من، ويصبان في، منبع واحد مادي متيريالي لا سردي.. وكان هذا الكتاب تطبيقا عمليا لهذه الفكرة (النصية- الشيئية)..
أشاطر صديقي خالد متعة الكشف الشعري في هذه التجارب الشعرية، والتي تمثل بلا شك جزءا حيويا من المشهد الكلي الإبداعي العراقي”.
(كتابات) وماذا بشان كتابك (تشكيليو البصرة)؟
– من إصدارات اتحاد أدباء البصرة صدر كتابنا (تشكيليو البصرة)، عام 2017، وهو كتاب نقدي وليس كتابا في تاريخ الفن، حيث بينت مقدمته: ”لقد حاولنا في كتابنا هذا (تشكيليو البصرة)، أن نفارق، أو ربما نتكامل مع ما كتب سابقا عن الفن التشكيلي في البصرة، فقد حاولنا تجنب التدوين التاريخي والسوسيولوجي، متجهين إلى محاولة كتابة (الواقع) التشكيلي في محافظة البصرة من وجهة نظر نقدية تفهم مادية العمل الفني باعتبارها جوهر الفن؛ فتناولنا تجارب بعض الفنانين منفردين، وقصرنا مهمتنا على فن الرسم، وبعض من نتاجات النحت والفوتوغراف والخزف، وهو ما توفر لدينا في الوقت الحاضر آملين أن نستكمل بحثنا في أساليب تشكيليي البصرة ونعيد نشره في طبعة قادمة”.
وقد تضمن الكتاب دراسات عن الفنانين، منهم:
الرسامون: محمد راضي عبد الله، وعلي طالب، ومحمد مهر الدين، وسلمان البصري، وفاروق حسن، وعجيل مزهر، وفيصل لعيبي، وعيسى عبد الله، وعفيفة لعيبي، وجبار عبد الرضا، وحامد مهدي، وهاشم حنون، وعبد الملك عاشور، وهاشم تايه، وكامل حسين، وجنان محمد، وصدام الجميلي، وصلاح جياد، وعدنان عبد سلمان، وطاهر حبيب، وجعفر طاعون، وفؤاد هويرف، وجاسم الفضل، وياسين وامي، وسمير البدران، وأزهر داخل، ومحمد مسير، والكاريكاتيري كفاح محمود، وناصر سماري، وصبري المالكي، واسماء الحساني، ويوسف الناصر، وخالد خضير الصالحي (بقلم محمد خضير).
النحاتون: إسماعيل فتاح الترك، ومرتضى حداد، ومحمد ناصر الزبيدي، ونوري ناصر طاهر.
الخزافون: مي جبار المظفر.
الفوتوغرافيون: معين المظفر، وحيدر الناصر، وصفاء ذياب، عبد المهدي الغرابي.
الخطاطون: رعد عبد الرحمن عبود.
وملاحظات قصيرة عن عدد كبير من الفنانين التشكيليين البصْريين.
(كتابات) ما تقييمك لحال الفن التشكيلي العراقي وهل يمر بمشكلات؟
– الفن التشكيلي لا ينفصل عن الوعي الثقافي كونه يتجه في النهاية، شاء أم أبى إلى المرور عبر وعي المجتمع الذي هو المتلقي الافتراضي لذلك المنتج. إن التردي الثقافي الذي يعيشه العرب، وضعف مساهمتهم بالحضارة، وبالإنتاج الثقافي العالمي يجعل الفن التشكيلي متأثرا بذلك، كونه ناتج واقع متخلف وبعيد عن الثورات الفكرية والتقنية التي يعيشها الفن في العالم المتقدم.
(كتابات) في رأيك هل يواكب النقد غزارة الإنتاج في العراق سواء على مستوى النقد الأدبي أو الفني ولما؟
– النقد الفني هو التذوق الفني في أعلى مستوياته، حيث يستند ذلك التذوق على المعرفة والخبرة والحياد وانتفاء المعيارية، والانغماس في تفحص الواقعة التشكيلية من خلال عناصرها المادية، ولقد تخلص النقد، في آخر تحولاته، بدرجات متفاوتة، من محاولة: تفسير، وتوضيح العمل الفني، وإيضاحه ليفهمه الآخرون. وإرشاد الفنان وغيرها من المرتكزات المعيارية، وأن جهده الأساسي رأينا الآن ينصب على دراسة العمل باعتباره واقعة شيئية مادية.
ليس المطلوب من الناقد الركض وراء التجارب الفردية لمتابعتها، تلك مهمة من يكتب في الصحافة، النقد حقل ثقافي له مشروعه الخاص وإن كان يقارب التجارب الإبداعية كنماذج تطبيقية.
(كتابات) ما تقييمك لحال الثقافة في العراق وهل يمكن الحديث عن نهضة ثقافية؟
– يعيش العراق الآن وضعا غير مؤات لنمو الثقافة، أولا بسبب افتقار النظام الحالي إلى الحاجة، والشعور بأهمية الثقافة في بناء المجتمعات المتحضرة، وهو أمر راجع إلى المفاهيم القروسطية التي تهيمن على النظام العراقي الحالي، وكما قال أمين معلوف مرة أن هناك عناصر في التطور الراهن للعالم مصدرها الثقافة العربية، وأهمها الشعبوية المتنامية، ونحن نضيف إليه التطرف الديني، وذلك راجع برأينا إلى نمط الاقتصاد الريعي الذي تأسست عليه الحضارة العربية عبر الغزو والجزية، ومازالت تعتمد على الاقتصاد الريعي الذي تشكل جوهره أموال النفط (البترودولار) التي بدأت تمول كل الحركات المتطرفة من أجل إنتاج ثقافتها.. لذلك نجد الآن تراجعا لمراكز الثقافة العربية بسبب افتقارها إلى النفط، كمصر التي شهدت اندحار الإيديولوجية القومية العربية قابله نهوض للإسلاموية المتطرفة في دول النفط ومنها العراق، لقد امتلكت القوى الإسلاموية عوائد النفط فأسست نظامها الذي ليس في مكوناته الفكرية مكان للثقافة.
(كتابات) في رأيك هل سيكون للثورة العراقية تأثيرات على الثقافة والفن سواء في الداخل أو الخارج؟ وما توقعاتك بشأن الثورة العراقية؟
– أتوقع منها الكثير، لأن الشعب انتفض الآن بسبب إداركه بأن القوى الحاكمة تتاجر بالدين كما تاجرت القوى القومية واليسارية الأخرى بالوطنية والاشتراكية والعدالة الاجتماعية.