الجمعة، 18 يناير 2013

الرسام هاني مظهر في معرض (تحية إلى ناجي العلي)..


الرسام هاني مظهر في معرض (تحية إلى ناجي العلي)..


 احتفاء بالرؤية الكامنة

  
خالد خضير الصالحي

بدت لنا تجربةُ هاني مظهر (في تحيته لناجي العلي) استبطانا جديدا، متصلا ومنفصلا في آن معا مع تجربة ناجي العلي باعتبار الأخيرة تحديا لثوابت تحجرت عندنا نحن متلقي الرسم الكاريكاتيري الذي استقر في أذهان الكثيرين منا أنه، على عكس أنماط الفن التشكيلي الأخرى، يضع، وبشكل معلنٍ، قَدَميه في طرفي البقعة الحرجة للرسم: يضع قدما حيث يعتبر الرسم الكاريكاتيري واقعة بصرية مادية (متيريالية)، وينقل الأخرى إلى حقل متاخم قريب يعتبر ذلك الرسم، مطالبا منه ان يكون جزءا من واقعة لغوية سردية تجسّدها التعليقات والشروحات اللغوية التي ترافق الرسوم الكاريكاتيرية لناجي العلي وتؤلف جزءا جوهريا منها حتى في رسومه التي (بدون تعليق) حيث يتوارى التعليق خلف العلامات المبثوثة في الرسم فيحل محله وجود مستتر ومسكوت عنه؛ حيث ان الكاريكاتير عند العلي، وفي ان واحد، يتناوب الاشتغال بين طبيعيته: المادية البصرية، والسردية، بحركة بندولية دائمة؛ مما يجعله خرقا لنسق الرسم حينما يهدر، او يحاول ان يهدر المشتركَ العامَ للحقل البَصَري، ونعني به (مادية التعبير) او الطبيعة الشيئية (المتيريالية) لمادة الرسم وللوحة، فالرسم الكاريكاتيري بما يتوفر عليه من (هيمنة) للغوي على خطابه يتصف بأنه حقل جامع لدرجة من الايقنة والتماثل البَصَريَّين مع درجة من اللاتماثل والاسلبة، وهي من مواصفات النسق البَصَري؛ وبذلك ينتمي فن الرسم الكاريكاتيري إلى نمط الحقول المختلطة التي يمتزج فيها الخطاب اللغوي والخطاب البصري: كالإعلانات، والسينما، والتلفاز، وبرامج الكومبيوتر ومواقع الانترنت، وكل الصور المرفقة بالكتابة والكتابات المقترنة بالصور، فتكون أهم المظاهر المختلفة هي كون الصورة الكاريكاتيرية لا تستحيي من الوظيفة التواصلية الابلاغية للخطاب، حاله في ذلك حال أنماط عديدة من أنماط الصور..
لقد كان ناجي العلي يتوسل إلى إحداث الانزياح الضروري اللازم في انتقال اليومي إلى شعرية الفن عبر الطبيعة الاستعارية لانتهاك حرمة الثوابت والقناعات (الراسخة) ومفارقة الدارج: مفارقة مضحكة حينا ومحزنة أحيانا أخرى، عبر وسيلتين متناقضتين ومتتامتين في آن معا من خلال تشاكل الكلام (اللغة) وعناصر الرسم (البصري)؛ فتمتزج عنده رسائل الخطاب في جانبها البصري، بالرسائل في جانبها اللغوي(التعليق)، فلا تهمل الرسالة عنده أيّا من الوسائل المتاحة في الكاريكاتير: العناصر الخطية وغير الخطية معا حينما تتعاضد مشكّلة خطابا: علاماتيا بما يشبه الكتابات الأولى التي تتمازج فيها الدلالات اللغوية والبصرية في وحدة لا انفصام لها، ولا يبين فيها العنصر الاشد هيمنة؛ فكان ناجي العلي يغترف بسهولة كبيرة من محتويات (متحفه البصري) الذي جمّع عناصره ومفرداته الأولى البصرية- النصية (الهيروغليفية)  من مناهل واسعة، فكانت تظهر بشكل أيقونات: أهمها الطفل الشاهد (حنظلة) من عين الحلوة، وحشد آخر من المفردات البصرية والتقنية التي تظهر هنا أو هناك في رسومه بشكل متواصل: كالأسلاك الشائكة، وبرميل النفط، وشواهد القبور، والهلال، والكوفية، واللاجئ الفلسطيني، وحقائب السفر، والحمامة، ونجمة داود، والملابس المرقّعة، والمرأة الفلسطينية (فاطمة) بدموعها التي تنسكب على خديها.. وأحيانا تظهر عناصر غير مشخصة: كالخطوط، والحزوز، والنقاط التي يقطّرها على صفحة الورقة مباشرة من الدواة، وإشارات الحركة، وبعض العلامات الدالة على الشعور كالتعجب والهلع المجسدة بعلامات بصرية، ووسائل التظليل والعتمة والضوء، كلها عناصر يعاملها باعتبارها تنتمي إلى (مادة التعبير)، أي إلى البعد المادي للوحة (=الحبر الأسود الفاحم غالبا)، فلم يكن الخط حدا فاصلا ولا أطارا، بل صرخة قلم مستفز وأداة تثوير وتحد بكل محمولاته التكوينية والأدائية؛ فخلاصة القول ان ناجي العلي لم يكن ينظر للكاريكاتير باعتباره فكرة سردية تقودها او تخطط لها اللغويات التي تتناثر في الرسم كتعليق او كأية نصوص لغوية او علاماتية أخرى فكان يولي اهتماما رئيسيا على ان يكون الكاريكاتير واقعة بصرية لها مقوماتها وعناصرها الشيئية كأي عمل تشكيلي..
ان المماثلة (التشابه) مع الشكل البشري وأشكال المشخصات عموما، التي يحرص ناجي العلي على الإخلاص لها، مقارنة مع تجارب أخرى، تجعلنا نعتبر منجزه تجربة رسم كاريكاتيري (واقعي) خضعت الى مشرط تجريد لا يرحم أوصلها أحيانا درجة شديدة من الاختزال المضطرد والاسلبة لنسق الخطاب البَصَري وملأها بكمِّ من الفراغات التي هي واحدة من أهم الإزاحات التي ترتقي باليومي إلى مرتبة الفن؛ فكان، إضافة إلى حسه الفني العالي، يمتلك عينا (باربوسية) متلصصة، واعية لمهمتها، رغم أنها تحاول أن تتشبه بعين الكاميرا المحايدة في السرديات، تاركة أمر اتخاذ أي موقف على عاتق المتلقي، فكان ناجي العلي يحاول أن ينأى بنفسه عن الانغماس في السرديات التي هي اضعف مقاومة أمام التلوث الايديولوجي ليتخذ لنفسه مكانا في الطرف القصيّ البصريّ تاركا متلقيه منغمسا في محنة التلقي التي لا تقل شدة عن اشد المحن تعقيدا ...
                                                  ***



يبني ناجي العلي متحفه البصري من أيقونات بصرية أهمها: حنظلة الطفل الفلسطيني من مخيم عين الحلوة الذي يدير ظهره للمتلقي وللعالم؛ والذي صار جزءا مكملا لرسومات ناجي العلي، ونال حب الناس فصار احذ الرموز المهمة في الثقافة الفاسطينية؛ لأنه صار رمزا للفلسطيني المعذب، والقوي رغم كل الصعاب، انه شاهد صادق وبالتاي لا يخشى أحدا، فاتخذه ايقونة يوقع بها ناجي العلي رسوماته..
تتكرر الأيقونة المهمة الأخرى، المرأة الفلسطينية (فاطمة)، وهي شخصية مثل الشخصيات الأخرى لناجي العلي، غير مهادنة، وذات رؤية شديدة الوضوح فيما يتعلق بالقضية، فعادة ما تكون مواقفها قاطعة ومخضبة بغضب المواقف الشجاعة، بعكس شخصية زوجها، الأيقونة الثالثة الأهم في منجز ناجي العلي، الفلسطيني الكادح نحيل الشارب صاحب الأقدام المفلطحة الغليظة للمزارعين، والذي ينكسر أحيانا تحت وطأة ثقل الحياة، بينما تتحكم السخرية بأشكال الأيقونات الأخرى: كشخصية السمين ذي المؤخرة العارية ممثلا به القيادات الفلسطينية والعربية المرفهة والخونة الانتهازيين. وشخصية الجندي الإسرائيلي, طويل الأنف, الذي يكون في أغلب الحالات مرتبكا أمام حجارة الأطفال, وخبيثا وشريرا.
                                                ***



 ان المحنة الأشد التي أتخيلها تواجه الرسام هاني مظهر، كلما واجه قماشة لوحة بيضاء يريد تحويلها الى لوحة فنية، كانت رغبته الجامحة في تفجير شعرية العناصر البَصَريّة التي تمنح لوحته من شاعرية أجواء الشعر، وقد افترضنا ذات مرة حرصه ان تتشاكل تجربته الفنية مع الشعرية ان لم تتشاكل صراحة مع الشعر ومع نصوص شيوخ الصوفية الذين انتج اعمالا ومعارض مكرسة لبعضهم، وهي المحنة التي نعتقده واجهها حينما كان يجد نفسه مدفوعا الى بناء لوحته من مستوى لوني طارد للبنية الغرافيكية (الخطية) بقوة، تلك البنية التي تشكل جوهر المادة التي يبنى منها الرسام ناجي العلي اعماله، وبذلك لم تكن العملية هنا في (تحية لناجي العلي) إعادة إنتاج لتلك الأعمال بشكل مشابه لأهداف بيكاسو حينما كان (يعيد) إنتاج رسوم أسلافه من الرسامين، وإنما كانت العملية إعادة تمثل للروح الكامنة في رسومات ناجي العلي، تلك الروح التي تبقى (علامة لا تنمحي) مهما تغيرت المادة وتقنياتها.. فلم تكن مهمة هاني مظهر في معرض (تحية لناجي العلي) تقتصر على تلقٍ قالبي  stereotypes للكاريكاتيرات (التخطيطية) لناجي العلي ومن ثم (تحويلـ)ـها إلى أعمال ملونة، فلم تكن أهدافه تنحصر فقط في إعادة تغيير أو إنتاج المادة المهيمنة لتلك الرسوم وإبدالها من كاليغرافية خطية إلى لونية، بل كان استراتيجه يتعدى ذلك إلى إيجاد آلية صالحة للتعامل مع رسوم ناجي العلي باعتبارها وثائق بصرية مادية (اركولوجية) لها القدرة على تلبس روح شكل آخر من أشكال الفن أكثر من اعتبارها وثائق سياسية تخضع لاشتراطات السياسية وأهوائها المتقلبة..  فيصطفي هاني مظهر الرؤية البصرية الجمالية الكامنة تحت أنقاض الفكرة السردية اللغوية في منجز ناجي العلي، وهي رؤية عصية على الاقتناص إلا للعين ٍالخبيرة، حتى ان بعض الكتّاب كانوا ينكرون أن يكون هنالك جانب بصري (مادي) جمالي خارج سرديات الرسوم الكاريكاتيرية لتجربة ناجي العلي، بينما يحاول هاني مظهر جاهدا ليس فقط استخلاص (روح) الفكرة الكامنة في منجز العلي، وإنما استخلاص (الرسم) الكامن في تلك التجربة، وإعادة إنتاج  تلك الرؤية البصرية من خلال مادة أخرى، حيث تتلبس حبريةُ رسوم ناجي العلي طاقةَ الألوان ونضارتَها وهي بيد خبير في تفجير الطاقة التعبيرية للون كالرسام العراقي هاني مظهر الذي لا يجد نفسه، كما نعتقد، سوى معنيا بـ(ـالقابلية على الرؤية)، رؤية جوانب بصرية يعتقد الكثيرون، كما قلنا، انها غير ذات (جدوى)، فــ"ـالرسم احتـفاء بالقابلية على الرؤية"، لذا سيكون واجبا على الرسام اكتشاف (الرؤية البصرية) الكامنة في العالم المرئيّ ومن ثم تحويلها الى (واقعة مادية جمالية) أي تحويلها الى رسم؛ وبذلك فهو يمسك مفهوم (إنتاج الحقيقة رسما) ذلك المفهوم الذي اكتشفه سيزان واحتفى به ايما احتفاء: ميرلوبونتي ودريدا وسلفرمان وكأنه القارة المفقودة في الرسم الحديث..
                                           ***



كتبنا مرة عن موقع هاني مظهر ما أسميناه (جينات الفن)، وهي صفات ثقافية موروثة: بصرية، ودلالية معا، تنتقل ليس فقط من عصر لآخر، ومن مرحلة تاريخية فنية لأخرى، بل ومن فنان لآخر، ومن أهم تلك الصفات الموروثة في فنون الشرق هي توحّد السماويّ والأرضي (امتزاج المادة والروح أحدهما بالأخرى)، الذي يجد تجسده في أشكال متعددة؛ فكانت عناصر اللوحة تنتقل من مستوى لأخر، من الشعريّ( التجريد) نحو الأرضي (التشخيص)، فكان هاني مظهر يبني لوحته على مستويين: تشخيصّي (نثريّ، وأرضيّ) ومستوى الباطن (الشعريّ والمقدس) وطابعه التجريدي اللا هندسي (العماء اللوني)، وبذلك تهدف آلية التأويل اللازمة لدراسة منجزه ليس كشف المستوى الباطن عبر المستوى الظاهر، كما هو معتاد، بل ومحاولة اكتشاف آلية بناء اللوحة من قبل الرسام هاني مظهر وآلية إنجاز التواشج بين المستويين وتحديد التتابع الزمني لهما أي هو نقل للتأويل من اللغوي الى البصري، وهي مهمة عسيرة كفايةَ.
***



ان عملية الانقطاع الشكلي بين الكتل اللونية – الشكلية التي كنا نزعم انها تجري في أعمال هاني مظهر التجريدية، والتي كان يحاول ردمها، او اعادة وصلها في حقيقة الامر، كان يخلقها البياض الموجود اساسا في اللوحة او المضاف لها، تحولت هنا إلى عملية تجري بين نظامين من العالم ومن الرسم: نظام شكّـل عناصره الخطية ناجي العلي، ونظام شكّـل عناصره اللونية هاني مظهر، فكان هذا المعرض ليس فقط توليفا لنظامين شكليين وانما نظامين فكريين يصبان بعد امتزاجهما في جرف ان تكون اللوحة ليس فقط نظاما شكليا تجريديا بل و(رسالة) جمالية من نمط خاص يبقي في نفس المتلقي احساسا وان غامضا بوجود تلك الرسالة وطبيعتها المحسوسة والغامضة معا..
                                               ***

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق