هاشم تايه في معرضه (حياة هشة)
خالد خضير الصالحي
يؤكد هاشم تايه، طوال السنوات التي
قضاها مشتغلا بالفن التشكيلي، انه صاحب تجربة عابرة للتجنيس اولا، وانه كذلك مبدع
عصي على التصنيف فهو واحد من المبدعين متعددي الاهتمام والإمكانيات، ومن (العابرين
للتخصص)، والذين يشتغلون في المناطقِ التي يسميها سلفرمان وبرتراند رسل (المابين)
أو (التخوم)، فكان ينتقلُ بيسر في مناطقَ التخومِ هذه؛ مرتكزا في ذلك على هيمنة
على المادةِ التي يشتغلُ عليها: اللغةِ وهو يأخذُها نحو الشعرِ، او الكتابةِ وهو يقودها تارة الى:
النقدِ، واخرى الى الصحافةِ في ارقى مستوياتِها، والمادة وهو يطوّعُهُما على
ديناميةِ الرسمِ والنحت؛ فلم يمتلك هوس اعادةُ اختبارَ قدرةِ الألوانِ التقليديةِ
فقط، بل ويكتشفُ موادِّ جديدةِ لم يكنْ يتخيّلُها الآخرون قبله صالحةً للرسمِ، فكان
يذكي القوانينَ الاستثنائيةٍ التي أسسها الرسامون الذين مارسواَ النحتَ نمطا
إبداعيا (آخرَ)؛ ففتحوا فيهِ أبوابا لم يعد غلقُها ممكنا بعدهم..
تعيدنا (حياة هشة) بشكل ما إلى (اسم الوردة)
لـ(امبرتو إيكو)، الذي يقول في كتابهِ (حاشية اسم الوردة) ان "الأمر يتعلق
ببيت شعري مأخوذ من كتاب لبرنار دو موراليكس (حول أشياء الحياة الهشة)".. ام
تعيدنا لما يؤكد هاشم تايه بأنها مماهاة مع (الحياة الجامدة).. او (الحياة
الساكنة) وهو ما يعبَّر عنه بالإنجليزية بـ (still life)؛ فيرجع صفة الـ(ـهشاشة) الى طبيعة
المواد والخامات والسطوح التي أنجزت بها الأعمال التي التقطت من النفايات
والشوارع؛ فبدت أعماله مخيبة للكثيرين بسبب توحّشها، ونشازها، وغرابتها، ولوثتها،
وتلوّثها، وعدم أهليتها لأن تعلَّق على جدار نظيف في بيت، أو متحف، لأنها لا
تطاق.. ويُرجعُ استثمار المواد غير التقليدية الى نزوع شخصي للتجريب، واستثمار الاثر
الذي يطرأ عليها من فعل الطبيعة بشكل يجعلها تكتسب مظاهر وأشكالاً مثيرة، فتكون وعيا
بصناعة أثر فني مفارق ببدائل عن المواد التقليدية في فن يعمل خارج منطقتي الرسم
والنحت المعهودتيْن، وخارج الأعراف الفنيّة جاعلا النصّ البصريّ مجالا لاستضافة
واستقبال واستدعاء لأية مادة في الحياة اليومية، ويعيد الممارسةَ الفنيّة إلى
بدائيّتها كفعل حرّ يُنجز أثره بتطويع أية مادة مهما تكن بساطتها في محاولة منحها
قدرة تعبيرية.
يبني هاشم تايه منجزه بناءً قصديا
حسب (قانون) التشاكل الصوري، بجمع عناصر من الصعب جمعُها، فكان ذلك الجمعُ
(القسري) يخلق الانزياحَ الاستعاري الذي هو جوهرٌ للجمالي، كما هو جوهر للشعرية،
وهي آلية استخدمها السورياليون: سلفادور دالي، وماكس ارنست..
ظلت المحركات السابقة لتجاربه في
الرسم فاعلة هنا: أولا، مازالت البساطة والقوة التي كان يجلّها الرسام الشاعر (وليم
بليك) في التكوين الخطي؛ حيث البساطة والتخلص من الشوائب الزائدة، ثانيا، مازالت
المقاربة السيكولوجية صالحة هنا حيث تؤكد شخصياته بانها ترميزات لمظاهر داخلية من
شخصية الرسام، مشفّرة عبر كائنات متعددة، ومتناقضة في تركيبها ومواقفها، يبثها
بشكل يغطي مساحة العمل.. يستلّها من مستوى غائر، مطمور في أعماق النفس الإنسانية، وثالثا،
ظلت (سلطة المادة) الجوهر الأكثر فاعلية في
تجربة هاشم تايه؛ فقد كان هذا الرسام قد تخلى عن مواده التقليدية السابقة والأدوات
التقليدية، وواصل الاشتغال على الخامات الاستثنائية التي تذكرنا بتجربة الألوان
العطارية (=النباتية) التي كان يجمّعها من مصادر نباتية متنوعة، وعودته إلى تجربة
الورق المقوى في معرضه هذا، والعلب الورقية (الكارتون)، والأسلاك، والخيوط،
والقناني البلاستيكية، وعجائن يصنعها من الورق المقوى أو من مواد أخرى، يحاول بها
تطوير تقنياته في: الخرق، والحرق، والقص، واللصق، والتمزيق، والتراكم، والحك،
والشطب، وسوى ذلك من التجارب التقنية، وكنا صنفنا تلك المحاولات بانها تقع ضمن ما
يمكن ان نسميه (بالتشكيل الفقير)، مستثمرا كل مادة في اقصى ما تقدمه من قدرة
تعبيرية؛ فكانت طبيعة المادة المستخدمة تلقي بثقلها على العمل، فكان العمل يأخذ
استراتيجا مختلفا في كل مادة مستخدمة في إنجاز العمل؛ وبما يلائم الحدود التعبيرية
لكل مادة.
ان احتلال تجربةِ هاشم تايه مكانا
ضمن المشهد التشكيلي في البصْرة؛ قد يثير مفارقة، ومحنة نقدية، كيف احتلتْ تجربةٌ
مفارقة لـ(ـلانساق) المألوفةِ والأنماطِ السائدةِ من الفنون التشكيلية، مفارِقة
بالمادةِ، وبالتقنياتِ، والوقوع في (المابين)، وهنا تكمنُ محنة المشتغلين بالنقد
التشكيلي، وامتحانُ (قواعِدهم)!.
أقيم معرض (حياة هشة) لهاشم تايه بعد
عدد من المعارض السابقة: (لوحات مشوية) 1992 في قاعة المتحف الوطني في بغداد، و(منفيات
هاشم تايه) في المركز الثقافي في البصرة 2007، ومعرض للتخطيطات في اتحاد الأدباء في
تسعينيات القرن الماضي..
في جلسة اقامها اتحاد ادباء البصرة
حول معرض (حياة هشة) اعتبر الكاتب صباح سبهان بأن تايه يكشف عن المخبوء من تحت اقنعة الجمالي باشتغاله على
انساق ومهيمنات متحررة من الاستهلاك، وبمقصدية باحثا عن المسكوت عنه عبر لغة ثرة
قادر على الادهاش وقادرة على نزع الاقنعة عن الايديولوجيا, وان تجربة تايه تقبلتها
النخبة من المتلقين وعزف عنها الجمهور العريض رغم انها تجربة خصوصية من ناحية
الخامات الموظفة التي قد لا تقاوم الزمن ولكنها قادرة على اثارة شعور بالاسى فقد
اضفت المادة شعورا محسوسا وقيما مضافة..
واعتبر الكاتب احمد صحن
اعمال هاشم تايه بأنها تحمل دادائية بصرية يتعذر على المتلقي فك شغراتها ورموزها
الا بعد الغور في المعاني الصورية ليجد الروح التي تتحرك مستمدة طاقتها من ربط
الاشياء المستخدمة واخضاعها لقواعد التشكيل خالقا بذلك تاثيرا تفاعليا ناتجا من
الاشارات الصورية المنبعثة من عالم اللوحة الدادائية التي جاءت محصلة حكمة ان
اللاشيء هو كل شيء، وان معرض (حياة هشة) يثير جملة استفهامات ومعان لا متناهية
تدعونا لان نتلقى طيات الورق المقوى المعمولة باليد حينما قام الفنان بالجمع بينها
وبين المتناقظات متحولة الى قوالب لفظية تتفاعل مع النفس وتحرك بوصلتها ضمن سياق
الفن المضاد..
واعتبر التشكيلي عبد الرزاق
الحلفي اعمال هاشم تايه رد فعل للشعور بالفراغ ولا جدوى الحياة التي يعيشها الناس
في العراق فكانت تجربته في معرض (حياة هشة) محاولة للخلاص من قيود المنطق الذي فقد
فاعليته، واستعادة لمنطلقات الدادائيين والياتهم في التعبير عن قسوة الحروب وجشع
الانسان والافكار السلفية التي اصبحت عائقا بوجه الحياة..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق