الأحد، 20 يناير 2013




الرسامة والأكاديمية المصرية أمل نصر

                     تحوّلات المادة..
                                   وتشكّلات الصور


  
خالد خضير الصالحي
البصـــــــــــــــــــــــــرة
  
"تنمو في عمق المادة نبتةٌ قاتمة، كما تزهر في ظلمة المادة أزهار سوداء، سبق واكتسبت نعومتها، ونموذج عطرها" (غاستون باشلار، الماء والأحلام، المنظمة العربية للترجمة، ت: د. علي نجيب إبراهيم، ط1، بيروت، 2007، ص15)
***


تتعاملُ امل نصر مع سطح اللوحة، ومع الأشكال المجردة بإداء حر يستجيب لتقنية عفوية،  بأنسنةٍ قد يفتقرها الكثيرون؛ فتبدو أعمالُها وكأنها ناتج حنوّ مبالغ به تعامِل به الرسامةُ سطحَ لوحتها؛ فهي تعتكف الى سطح لوحتها، مثلما ينقطع النسّاخون والورّاقون إلى صحائفهم، يسوّدون اسطرها، فتندمج الرسامة بحروفها، كما يندمج هؤلاء، لترتحل إشاراتُهم التي يبثونها عبر الزمن القادم حينما تتنقّل من قارئ لآخر، وكلّ من هؤلاء، يضيف هوامشه على هوامش سابقيه، كما أضاف السابق هوامشه على هوامش سابقيه، حتى تتضخم تلك المخطوطات إلى ما شاء لها النص ان تتضخم، وهو ما يحدث لأعمال امل نصر؛ فبدت لوحاتها متشابهة بشكل مختلف ومختلفة بشكل متشابه، فهي تبدو متشابهة وكأنها لوحة واحدة قـُطـّعت إلى نتف متشابهة؛ وتبدو مختلفة لأنها لا يمكن ان  تكون متماثلة تماما كطبعات الأصابع التي لا يمكن ان تتطابق تماما...
***


حينما عنون الكاتب المصري (ياسر منجي) مقالا له عن الرسامة بعنوان: (أمل نصر.. بين سطوة (البكتوغرافيا) وعنفوان الهيولى القديم) فانه قصد بمقالته ان قوتين متعارضتين تتجاذبان تجربة امل نصر هما: قوة الفوضى، وهو ما يسميه جاستون باشلار، (العصيان الأبدي للمادة على التشكّل)، وسلطة النظام، "فالمادة في منظور عمقها تنقاد باتجاهين: اتجاه التعميّق واتجاه الانطلاق، ففي اتجاه التعميق تبدو غير قابلة للسبر، كمثل لغز، وتبدو باتجاه الانطلاق كقوة لا تستنفد، باعتبارها معجزة. وبالاتجاهين كليهما ينمـّي التأملُ خيالا مفتوحا " (غ. باشلار، السابق، ص15) وهو الصراع الذي نشب ذات مرة بين انغريس وديلاكروا، فوصفه (ريجيه دوبريه) بأنه صراع بين الحرية والسلطة ولكنه اعتبره كذلك، وفي الوقت ذاته، صراعا بين الخط واللون باعتبارهما ميدان الصراع وأداته وميدان تحققه الشيئي الذي نكون معنيين به باعتبار الرسم في النهاية واقعة مادية،   حينما مثل الأول الانضباط السلطوي،    بينما مثل الثاني الحرية ورفض القيود، الا ان كل تلك الصراعات كانت تتفجّر على سطح اللوحة من خلال الصراع بين فوضى العناصر وانضباطها، فكانت امل نصر تعامل اللوحة باعتبارها (صورة مادية) ان هي أخضعت لدرجة اكبر من الانضباط فستتجه إلى نظام لغوي بكتوغرافي صوري يفتقر إلى الاعتباطية (=الحرية) التي تتصف بها الكتابة الأبجدية لان الكتابة الصورية مرحلة تمثل اكثر مراحل التاريخ ترابطا بين الصورة والشكل المشخص، حينما اندمج الشكل بالمعنى لدرجة مازلنا نعيش بقاياها المتحجرة في لا وعينا الفني، واذا أفلتت السيطرة عن تلك (الصورة المادية) فإنها ستكون صدى للعصيان الأزلي للمادة ضد التشكـّل؛ وبذلك ستكون تجربة امل نصر بالرسم تجربة خاضعة لنوازع ورغبات متناقضة، وصراعات مستحكمة لا يمكن حسمها؛ فالعالم الذي نعيشه مهدد، كما يقول (بول فاليري)، بقوتين خطرتين تتنازعانه، وتهددانه هما: الفوضى والنظام، انهما قوتان يجب ان يخضعا معا لقدر مناسب ومتوازن من الكبح؛ وهو ما نجحت في تحقيقه امل نصر..
***

لا اعتقد ان امل نصر تضع في حساباتِها ان يجد المتلقي في أعمالها مشخـّصاتٍ أو أشباحَ مشخّصاتٍ؛ فقد يكفيها ان تكون مستمتعة بالخامة، والمفردات البصرية، دون ان تكترث لارتباط تلك الاشكال بالواقع؛ فهي تكتفي بمهمة تنتهي حالما تشعر أنها أودعت في تلك الأشكالَ روحَ المشخّص كامنةً في خطوطِها، وبقعِها، دونما حاجة للبحث عن مرجعيات شكلية لأي تفصيل كبر أو صغر في اللوحة، فقد ذاب المشخّصُ في السائل الذي تسبح فيه كلُّ الأشكال، والبقعُ اللونية، والعناصرُ الأخرى في لوحة امل نصر التي تحلم بتجليات صور المادة الصلدة، على نحو حميم نابذةً إغواءَ الأشكال الهشّة غير المجدية..  فما يشغل لوحةُ امل نصر ان تتحوّلَ ماديةُ (متيرياليةُ أو شيئيةُ) اللوحة، إلى صورة لا تشترطُ الواقعَ ومشخصاتِه مرجعيةً لها، أي ان يتحول الخيال المادي إلى خيال صوري وكفى.. فالمشخصات تفتقرُ، وتعيقُ الخيالَ الصوري وجمال الحلم اليقظ الذي يرافق انعتاق الصور من ربقة تلك المشخصات لأنها تحدد ذلك الخيال باطر شكلية واقعية (مادية المشخص) بينما يفترض بالخيال الحق ان لا تحده محددات مهما كان نوعها..
                                                                                    ***   
ان قيام امل نصر بانجاز لوحتها بتكنيك سريع يتيح فرصة لتدفق انفعالي تلقائي، لا يسمح للعقل الواعي الاشتغال بفاعلية للهيمنة على اللوحة، ويتيح للقوى اللا واعية، وللمصادفة ان تشكل احدى اهم القوى الفاعلة، فيبدو العمل وكأنه يمتلك دينامية تجعل منه اشبه ببناء من الأشكال المجردة التي تنطوي على قوى وتوترات داخلية تتوحد فى شكلٍّ مستقلٍ بذاته لا يشير إلى حياة خارجية..  

                                                   ***

تقول الكاتبة امل نصر عن تجربتها الفنية "تسعى أعمالي إلى اكتشاف الشكل من خلال اللون فأبدأ بطرح مساحات اللون بلمسات عريضة حرة، ثم أبدأ في اكتشاف الأشكال خطياَ فوقها، حتى لا أحاصر بالخطوط بل أستسلم لسطوة اللون وحضوره أولاَ، وفى بعض الأعمال نجد الأشكال تظهر وتختفى، تكبر وتتضاءل تنكشف وتطمر بقوة دافعة وفقاً لقانون عاطفي خاص باللوحة فلا نعرف أين تبدأ وأين تنتهى، حيث يُتاح للخواطر البصرية أن تسترسل وأن تتوارد، إنها فكرة التداعي الحر التي تطرح وفقها الأشكال والعناصر، ويحكم هذا البناء رغم حريته نوعاً من النظام الفطري الغريزي . وتظهر الصور بين الحين والآخر فى تدفقات غير متماثلة وفقاَ لآلية الطرح الخاصة بالذاكرة فتعطى حيوية للخيال في محاولة لتلمس تلك الطاقة التنظيمية الروحية التي تجعل حياتنا محتملة ومستمرة".
                                         ***

لم تكن امل ناصر رسامة فقط، إنما هي أكاديمية مرموقة، وناقدة تشكيلية.. كتبتُ مرة تعليقا على مقال نُشر لها في الفيس بوك: "تطرح الكاتبة والرسامة المبدعة امل نصر قضية غاية في الأهمية وهي إمكانية وجود: تجريد يتكئ على الواقع، وتمتص حواسُّه تفاصيلَ ذلك الواقع .. ويستند إلى الخبرات المباشرة .. تجريد لا يتناقض مع الحياة ولا ينسحب منها.. أي أنها تقدم إمكانية وجود تجريد مؤنسن، فيه روح المشخص رغم غياب جسد ذلك المشخص.. إنها تطرح أفكارها بلغة مفاهيمية خالية من ترهل اللغة البلاغية التي يقع في براثنها بعض الكتاب..." 









ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق