الأربعاء، 27 يناير 2010

الرسم العراقي ما بعد التغيير.. محمد مسير نموذجا


رسم دونما.. شروط (خارج بصَريّة)







"ليس هناك معنى خارج الإشارة، سابقا لها، وليس هناك أي حضور ضمني لخطاب أولي يجب إعادة إنشائه لإيضاح المعنى الأصلي للأشياء" ميشيل فوكو


(الكلمات والأشياء، مركز الإنماء القومي،1989، ص 75)


خالد خضير الصالحي
يصاب بالخيبة من يحاول ان يتتبع مسارات التحولات الثقافية، ربما بسبب الفشل الذي سيلاحقه جراء عجزه عن إمكانية إيجاد خط تطور واضح و(منطقي) ينتظم كل التحولات التي طرأت على الإبداع الأدبي والفني في النصف الثاني من القرن الماضي في العراق، فقد قرأت للكاتب علي الفواز رأيا يقول ان جيل السبعينات، في الشعر، كان "جيل الانفصامات الكبرى، والانفصامات الأيديولوجية، والانفصامات عن موروثات الحداثة التقليدية"(جريدة المدى، ملحق موقع ورق، 30 أب 2009)، قد أثار عندنا سؤالا، هل ان جيل السبعينات ذاته بالضرورة يجب ان يكون جيل الانفصامات في الرسم كذلك.



نؤكد أولا إن استخدامنا الجيلية التقليدية لا يكرس الجيلية العشرية التي قد تكون أو لا تكون مقبولة في الشعر، بينما نحن نعني بها هنا؛ فاعلية الهوية الأسلوبية التي تشكلها سيول من الخصوصيات الفردية المتقاربة، الهوية الأسلوبية ليست بفهمها الجمعي السابق باعتبارها لازمة إبداعية قبلية لا تتحقق صفة الرسم إلا بتحققها، لذلك نؤيد رأي الدكتور حاتم الصكر بأن "القطيعة سمة معرفية وليس عداءً أو اختراقاً تقابلياً ضدياً"، عند أجيال الفن العراقي منذ الستينات، وثانيا نحن نعني بالفن التشكيلي هنا على الأغلب فن الرسم تحديدا رغم انه يشمل أحيانا طيفا من الفنون البلاستيكية المعروفة.



شكّل جيل الستينات حلقة (رابطة _ فاصلة) بين مرحلتين في الرسم العراقي فاستحق ذلك الجيل ان نؤرخ به، وكان جيل ما بعد الستينات رزمة من جيل ما قبل (الحروب) وهو جيل السبعينات، وأجيال الحروب التي تسمى بجيل الثمانينات، ذلك الجيل الذي طحنت الحرب، بضراوتها، وقسوتها، وعبثيتها، آماله، وعطلت التطور الثقافي العراقي الذي قاد بدوره إلى تخريب البنية التحتية الثقافية، وكانت أهم نتائجها: الفوضوية، والإرهاب، والطائفية، وكل الأمراض الاجتماعية الكامنة في المجتمع العراقي وفئاته التي لا صلة لها بالتعليم والثقافة والمعرفة والحضارة، مباشرة بعد إسقاط النظام السابق.



لقد بدا لي جيل الستينات، في الرسم العراقي، جيل الانفصامات الكبرى، فقد كان منطقة فاصلة بين جيل الرواد بلازماته (اللابصرية) التي خلقتها طروحات خارج بصرية، أهمها (التعبير عن الروح المحلية بقوانين اللوحة المسندية) باعتبارها لازمة للإبداع، فزحزح جيل الستينات (عمليا) هذه الاشتراطات؛ رغم انه لم يكن شجاعا كما ينبغي، في ميدان التنظير؛ فأبقى الباب مواربا هنا، وحاول المداورة بالنصوص للمحافظة على المتناقضات كلها رغبة منه في ديمومة الصلة بالجمهور عبر أسهل الطرق: اللازمة السابقة والجاهزة والخارج بصرية (التعبير عن الروح المحلية ... )، ومحاولة إقناع الجمهور بقبول تغير أنماط التعبير بين تجربة وأخرى، وبين مرحلة وأخرى، سواء بسبب التحولات الاجتماعي أو ربما بسبب التحولات العالمية في الرسم.



أولى الغرائب التي نواجهه ان جيل السبعينات في العراق كان جيلا ارتداديا سادت فيه الايديولوجيا ومتطلباتها، بطريقة قاسية ومكشوفة، بسبب الوضع السياسي، فشاعت أساليب الرسم المدرسي الأكاديمي والبوسترية الإعلامية سواء تعلق الأمر برسم لوحة أو منحوتة أو أي عمل (فني)، لقد ضمّ هذا الجيل أولى الدفعات من الخريجين الذين تتلمذوا على يد فناني الستينات الذين بدؤوا التدريس إلى جانب الأساتذة الخمسينيين وأبرزهم فائق حسن الذي اثر في شخصية السبعينيين بشكل كبير: صلاح جياد، وفيصل لعيبي، ونعمان هادي، ووليد شيت، وعفيفة لعيبي، وإزاء (الفراغ الحداثي) الذي لم يكن بمستطاع السبعينيين ملؤه؛ استمرت فاعلية جيل الستينات الذين كانوا أكثر حداثة من السبعينيين الذين هيمنت عليهم الايدولوجيا التي كانت تروجها الأحزاب في تلك المرحلة، إلا ان الأمور لم تكن تتطور بهذا الشكل؛ فتحْتَ السطح، وفي خضمّ الحرب العراقية الإيرانية، وظهور أجيال من الرسامين ذوي الرؤية المتجاوزة من الذين خرجوا من عباءة شاكر حسن آل سعيد، أو التفوا حوله، وتبنوا طروحاته في (الفن التأملي)، و(الحقيقية المحيطية)، و(النزعة الخليقية)، و(البعد الواحد)، إلا ان صوت هؤلاء لم يكن الأقوى وقتها، فقد كان الصوت الأقوى هو صوت النقاد الرسميين الذين بشروا بالتعبيرية باعتبارها (فن المستقبل) في العالم!، التعبيرية التي تمّ تبنيها رسميا باعتبارها النمط الرسمي للفن العراقي، فماذا نسمي هؤلاء الرسامين؟، هل نقول جيل الثمانينات؟، لكننا على كل حال نعني بهم تحديدا جيل: هناء مال الله، وفاخر محمد، وكريم رسن، وغسان غائب، وحيدر خالد، ونديم محسن، ونزار يحي، وإيمان علي، وهيمت محمد علي، وسامر أسامة، ومحمود العبيدي، وحسن عبود، وهاشم حنون، وعاصم عبد الأمير، وإيمان عبد الله، وجسام خضر.



لقد كان الميل للاصطفاف يجري عند هؤلاء حول القناعات التحديثية والرؤى الفنية المغايرة، وكانت الانشغالات النظرية لشاكر حسن آل سعيد فكانت مفاهيم: (الفن المحيطي)، و(النزعة الخليقية) تؤلف المناهل التي كان هؤلاء الرسامون يشتغلون عليها، وقد استعنا بالناقد حاتم الصكر الذي كان قريبا من أجواء هذا الجيل؛ فذكر بأن:



هناء مال الله كانت مهتمة بـ"إشارات المحيط وأيقوناته" وإنها "تكشف قناعتها بالفن المحيطي ورؤيتها لوجود اللون عنصراً متعيناً في اللوحة، وربطها لذلك كله بما أسمته (التنقيب داخل الوجود) و(اكتشاف المحيط وتوثيقه)" وذلك يستتبع يقينها "بدخول المحيط بمستوياته المتراكبة والمتجاورة كبنية أساسية في هيكلة العمل الفني" وبذلك تعلل ظهور "الاستعارات المحيطية ضمن جغرافية اللوحة"، مع إيمان راسخ يشاركها فيه رسامو (جيل الحروب) "بـ(اختزل) المحيط وأشكاله المرئية بتشفيرها وتحويرها ، إدراكاً منه بأن ليس ثمة شكل نهائي أو (استقرار شكلي) للمرئيات" ..



وكان فاخر محمد مهووسا بالنزعة الخليقية التي كرسها من خلال "احتفائه باللون واحتشاد اللوحة بالأشكال المشجعة على البحث عن خيط سردي (حكائي) ينتظمها... فتآزرت في أعمال فاخر محمد مخيلة عفوية وحرية قصوى لاستعادة سحر المخلوقات الأولى".



وكان التجريد مسيطرا على منجز غسان غائب منذ بواكير عمله الفني و"غالباً ثمة مساحات لونية فارغة، في أعمال غسان غائب.. تناظر بتوزيع ذكي ذلك الاحتشاد الكتلوي للألوان في مساحات مجاورة لها. فكان من أكثر زملائه استخداماً للزيت على القماش".



لقد كانت حرارة الحرب، وهيمنة النفس الأيديولوجي المحرك للسائد النقدي الذي كان يقوده عدد من النقاد المروجين لطروحات خارج بصرية تشد الرسامين إلى إنتاج فن يتلاءم وطروحاتهم، إلا ان هذه التعبيرية سرعان ما تبخرت بفعل الضعف الذي أصاب محركاتها الخارجية، فقد هاجر العديد من الرسامين خارج العراق فتبنوا أساليبهم بحرية ومن هؤلاء: كريم رسن، ونزار يحيى، وسامر أسامة، وهاشم حنون، وغسان غائب، وهاشم حنون، وهناء مال الله، ومن الستينيين: رافع الناصري، وضياء العزاوي، وعلي طالب، ومحمد مهر الدين، فبدؤوا بإنتاج فن اتجه نحو فضاءات أكثر حداثة من خلال اطلاعهم على آخر صرعات الرسم العالمي، رغم ان بقايا من عناصر منجزهم ظلت كامنة كأطلال باهتة (لا يمكن محوها)، وخاصة ممن كانوا تعبيريين سابقين مثل علي طالب وهاشم حنون وعاصم عبد الأمير، وحتى الذين اتجهوا بقوة نحو التجريد التعبيري كهناء مال الله وفاخر محمد في تحولاته التجريدية؛ تجد في تجاربهم بقايا واهنة، بينما تحولت تعبيرية الآخرين من الذين اتجهوا إلى التجريد الهندسي إلى إحساس طغى في طريقة تعاملهم مع اللون في مساحات هندسية ليس فيها أية مشخصات كما في التجارب الأخيرة لكريم رسن، ونزار يحيى، وسامر أسامة، وكأنما كان الجميع متفقين على تصريف شحنة التعبيرية بشكل ما ودرجة ما، وهو تصريف لم يكن قادرا على محو السمات التعبيرية كلية فظلت عالقة، ولو بشكل واهن وضعيف ولا يمكن تلمّسه إلا بصعوبة شديدة، وهي بقايا تمثل برأينا الوجه الآخر لما لم يتمكن الستينيون من الإجهاز عليه، وهو الحاجة إلى الجمهور الذي تشده العناصر التعبيرية في اللوحة باعتبارها الخيط الرفيع الباقي الذي يحفظ صلة الرسم بالواقع.



لقد بقي الرسم في مرحلة ما بعد التغيير، ولا اعلم ترقيمها جيليا، محتفظا بذلك التوازن بين الأساليب والعناصر؛ فظهرت تنوعات كبيرة هي في حقيقتها تعكس الوضع الحقيقي للرسم الحديث الذي أجهز على (الأسلوب) الجمعي لصالح (طابع) فردي لكل رسام، كما ان الانفتاح على العالم عبر الهجرات الكثيفة للمبدعين إلى خارج العراق بعد التغييرات التي حدثت عام 2003 وبعد سقوط الهيمنة الأيديولوجية الموجهة للفن التشكيلي وجعلت الفن التشكيلي يتطور بالشكل الذي تقوده إليه محركاته الداخلية (الداخل بصرية).



لقد ظهرت بعد التغيير (هل نسميه المرحلة جيل ما بعد التغيير؟؟، او ربما ما بعد الحروب) تجارب لم تكن تعول كثيرا على الاستنادات النظرية، وبذلك لم يعد احد يعول على العناصر الـ(خارج بصرية)، وبذلك ستجد الأساليب المتناقضة فرصة التعايش معا، ليس فقط جنب بعضها، بل وداخل المنجز الواحد، وهو ما قدمته تاتو باختيارها نموذجا حافظ على توازن مقبول للعناصر البصرية بين التجريدية والتعبيرية؛ تلك هي تجربة الرسام محمد مسير الذي نشرت أربعة أعمال منها مجلة تاتو الثقافية في العدد 7 (15ايلول2009) حيث كانت اللوحات الأربع، حالها حال منجز محمد مسير، تتأرجح بحركة بندولية بين التعبيرية حينا وبين التجريد حينا آخر، فقد كانت تلك الأعمال نموذجا لما يمكن ان يكون عليه منجز محمد مسير حينما تتصالح عناصره مع بعضها وتتعايش (بحرية كاملة) كما تصف ذلك مجلة تاتو نفسها (ص16) الأعمال التي تحتل هذه الزاوية، لقد كان محمد مسير حريصا على ان تنطوي لوحته على عناصر تحافظ هي الأخرى على توازن مماثل لذلك الذي في منجز محمد مسير ككل، فلم يكن الرسام مسير ليتورع عن إقامة معرض ينتمي إلى أقصى درجات التعبيرية يعقبه معرض لا تجد فيه أثرا لمشخّص، بينما هو الآن في (معرضه) المصغر هذا (أربعة لوحات) على صفحات مجلة تاتو تجمع معا كل (تنوعاته) الأسلوبية في لوحات منفردة تنطوي كل منها على ذات العناصر بترتيب يزحزح كل مرة بدرجة طفيفة، ان أي من هذه الأعمال تتشكل من ثلاثة عناصر رئيسة: مسحة من اللون الصافي على مساحة واسعة من اللوحة لا تحتوي أي عنصر آخر، ثم مجموعة من الأشكال الملونة بأشكال تقرب من أشكال المربعات المرصوفة جنب بعضها تتغلغل فيها مجموعة من الخطوط (=الشخبطة) واهم هذه الخطوط الشكل المثلث، بينما يمتد العنصر الوحيد الذي يبدو انه مستمد من مشخصات الواقع وهو يقطع اللوحة باتجاه شاقولي بلون غامق نسبة إلى ألوان اللوحة ويبدو شبيها بكف أو بيد ترتدي كفا من المطاط.



حسنا فعلت تاتو وهي تختار تجربة يمكن ان تقدم باعتبارها نموذجا لتعايش الأساليب ذات الطابع الفردي بحرية في سوق حرة دون مسبقات واشتراطات قبلية.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق