الموت والحياة ... عناصر ما قبل تجريدية
"وحين يأتيه الجسد/الطيف، ثمة ما يشبه الفاجعة يملأ الغرفة/المسرح، فالحب قد سبقه الموت. وتحولت قصيدة الحب الممكنة إلى قصيدة رثاء" جبرا إبراهيم جبرا
ضم كتاب (علي طالب) الذي صدرت الطبعة الأولى 2009 منه خلال معرضه الأخير الذي أقيم في عمان 2009، ضمن سلسلة صدرت عن العديد من الفنانين العراقيين منهم فيصل لعيبي وهاشم حنون وغيرهما، ان هذه السلسلة التي أصدرت قسمها الأعظم دار الأديب البغدادية من مقرها في عمان، تستمد أهميتها من كونها تحاول ان تعكس الوجه الحقيقي للفن العراقي وللكتاب العراقيين بدرجة ما؛ حيث ان المقالات قد كتب غالبيتها كتاب عراقيون درسوا تجارب مواطنيهم من الفنانين.
1
كتب مقدمة كتاب علي طالب الكاتبة الهولندية انجريد روليما، بينما كتب فصول (نصوص) الكتاب: جبرا إبراهيم جبرا، وشاكر حسن السعيد، وعبد الرحمن منيف، ومي مظفر، وقد أصدرت الكتاب (شركة تُجْ@ أرت، لبنان).
كتبت انجريد روليما في مقدمة الكتاب عما "يحكم حقل الفن بشكل دائم، حيث يتعامل الفن بشكل متواصل مع الموت والحياة من جهة، والحب والكراهية من جهة أخرى... وقد استطاع علي طالب أن يعبر لنا عن مشاعره حول الحب والموت بطريقة شخصية جدا دون أن يتدخل في خصوصياتنا؛ فنقل إلينا في اللوحة الواحدة الشعور بالحب بشكل تدريجي يدعونا إلى الخوض في أعماق لوحاته. وفي تعبيره عن الموت هناك دائما التحول إلى نوع آخر من الوجود. فالحب هو ما يمنحنا الطاقة التي تجعلنا نواصل الحياة ونبعد الموت عنا".
وخلصت الكاتبة والفنانة ومديرة أكاديمية فري للفنون في لاهاي (هولندة) إلى أننا في لوحة علي طالب " نجد أنفسنا بلا دفاعات، فلغة اللوحات تخبرنا بأننا متساوون كبشر، ولكننا لسنا سواسية في اللعبة"
2
وكتب جبرا إبراهيم جبرا بان المرء "يُدهش حين يرى لوحة لعلي طالب يكون فيها وجه الشخص المرسوم مستديرا بكامله نحو المشاهد.... فعلي طالب من دأبه أن يرفض مواجهتنا بشخوصه، نحن المتعاملين معهم: إنه يجعلهم يأتون جمهورهم مواربة، فلا يرى المشاهدون منهم إلا البروفيل" في محاولة لعزل ممثليه عزلا يقتضيه الموقف الدرامي رغم أن الفنان يجعلنا شهودا عليها. انه "بروفيل غامض أساسا،ً لأن احتمالات المعاني التي شحنه بها الفنان كثيرة ومتداخلة... فهو وجه وقناع معا:ً هو حقيقة واقعة، وهو رمز لشيء ما وراء هذه الحقيقة" في واقعة أقرب ما تكون إلى المأساة التي يعبر فيها الفنان عن وضع إنساني هو في صلب الدراما المتكررة في لوحاته. وهي دراما مقلقة، تثير تساؤلا مستمرا،ً وتطالبنا بإعادة النظر في أعماقنا وتجاربنا رغما عن أنفسنا..
لقد اعتمد جبرا إبراهيم جبرا على المنهج النفسي بآلياته القديمة التي تدرس الجوانب النفسية لشخصية المبدع لا الجوانب النفسية للمبنى المتحقق للأثر الإبداعي.
3
لقد كتب شاكر حسن آل سعيد نصا بعنوان (جماليات رسوم علي طالب) بحث فيه عناصر لوحة علي طالب: الرأس والكف والأصبع باعتبارها "الوحدات الأساسية في رؤيته الفنية"، وإيمان الكاتب "بأننا من الناحية الجمالية (الأسثاتيكية) لا نستطيع أن ندرك همومه الفنية بغير
هذا التأصيل الإنساني، ولسوف يختصر في بعض لوحاته الأصبع إلى إنملة أو العين إلى دمعة"، وبذلك يكون علي طالب برأي ال سعيد "يحاول أن يحقق واقعه الذهني التجريدي محيلا إياه إلى (تجريدية ما بعد الذات) أو بعبارة أخرى إلى (واقعة فنية) ما بعد، تشخيصية (ذلك أن ثمة نقطة ما بين التشخيص والتجريد كهذه النقطة) لابد من عبورها وباستطاعة أي متأمل الإمساك بها تماما،ً كالنقطة المعروفة في علم البصريات (بالبؤرة) وهي التي تفصل ما بين الرؤية الطبيعية والرؤية المقلوبة في عملية الإبصار..( ولنقل إن الفكرة التجريدية عند علي طالب تستبطن وجودها التشخيصي، ويصح العكس، أي أن الظهور التشخيصي لديه يستبطن وجوده التجريدي".. وهذا الظهور التشخيصي يتمثل بالرأس المقطوع الذي يسميه (الرأس المنفرد) والذي ظل راسخا في مخيلته منذ طفولته.
لقد اعتبر آل سعيد البروفيل، أو الوجه الجانبي، الذي هو من موتيفات علي طالب المتواترة طوال ربع قرن، مليئا بغوامضه الموحية، ومليئا بأسرار مأساته، مسحوقا،ً متهما،ً رافضا،ً مؤكدا حضوره العنيد على نحو ما في هذه اللوحة أو تلك، كعنصر من عناصرها، ويخلص آل سعيد إلى ان "المتلقي أمام هذه الأعمال في غمرة ذلك الغموض الغني، الواقع أبدا بين منطقتي الوعي واللاوعي، ليحمل بعضا من توتراته، بعضا من نشواته وعذاباته، إلى حيث تغتني تجربة المتلقي بمحاولة الفنان السيطرة على تجربته، أسى وفرحا،ً كشفا وعمقا،ً في تضاد جاد الوقع في النفس، وقوي الفعل في الذاكرة".
ويؤكد آل سعيد النزوع التجديدي للفنان علي طالب الذي اشترك مع عدة فنانين شباب عام 1964 في تأسيس جماعة المجددين الفنية التي كان لها فضل تمثيل الفكر الفني في العراق في الستينات، كموجة تالية لموجات الجماعات الخمسينية. فهي بمثابة ذلك الانفتاح العالمي نحو الفكر التكنوقراطي حينما نادى المجددون (بالرؤية الجديدة).
4
وقرر عبد الرحمن منيف في نصه الذي بعنوان (علي طالب.. وحالة التساؤل) "ان المصورين الذين يطرحون، من خلال العمل الفني، أسئلة على المشاهدين، قليلون؛ لأن السائد أن يكون العمل الفني إجابة على تساؤل، أو تحقيقا لرغبة وطموح، أي أنه جواب وليس سؤالا.ً هكذا يفعل أغلب الفنانين، وهكذا تعود المشاهدون". فكان علي طالب يحرص على (إيصال رسالة)، ومن هنا كان علي طالب يعتبر عنوان اللوحة حلا لإنقاذ موضوع اللوحةً ليضمن عدم إمكانية وقوع خطأ في قراءة اللوحة!.
ومن أجل الدخول إلى عالم علي طالب يقترح محمد منيف "أن نأخذ بعين الاعتبار طبيعته الخاصة وتكوينه، ثم المرحلة التاريخية التي عاش خلالها ... وربما تكون مدينته الأولى، البصرة، عاملا،ً فإن هذه المدينة نهاية الصحراء وبداية عالم المياه الفسيح، بكل ما يعنيه ذلك من رغبة اكتشاف، الآخر، ورغبة المغامرة، والوصول إلى الأماكن القصيةّ. فإذا أضيفت: الذاكرة التاريخية للمكان، والمتمثلة بقصص المغامرات والعجائب (التي) يرويها المسنون، والتي ترد في الكتب التي خلفها الأقدمون، فعندئذ تكون الحصيلة نداء لا يهدأ يدعو إلى السفر والمغامرة، ومعهما التساؤل عما وراء هذه المياه من عوالم وغرائب .... فقد كانت البصرة تاريخيا،ً المدينة التي تستقبل وتودع باستمرار، إذ بمقدار ما تغري بالسفر وركوب البحر إلى الأماكن البعيدة والمجهولة، فإنها الميناء الذي يستقبل الآتين من كل الأصقاع .... وهذا ما يمنح أبناءها نكهة مختلفة"
لقد اعتبر عبد الرحمن منيف الرسام علي طالب فنانا ظل مثابرا على البحث والتجريب؛ فقدم معارض متتالية، فردية وجماعية، ولم يكن مكتفيا،ً إذ واصل عمليات البحث عن احتمالات جديدة؛ فكان الوجه الجانبي "مصدر اكتشافات لا تنتهي، وعاملا محرضا للفنان لكي يبحث ويتقصى حالات واحتمالات دائمة التجدد" فإذا كان من دأب هذه الرسام أن يصور شخوصه مواربة، فإن صور هذه المرحلة جانبية غامضة، يضاف إليها القناع لتبدو كثيمة .... في تصوير للمفارقة الأليمة بكل سخريتها الجارحة، التي يعبر فيها الفنان عن الوضع الإنساني.
5
اعتبرت مي مظفرّ، في نص (علي طالب: اللغز والرمز)، ان جوهر الرؤية عند علي طالب (طقس غامض يتوخى السريّة والتكتم)، ولعبة ملغزة تنبع من عوالم داخلية ما تكاد تفصح حتى تتكتم، فكان التداخل ما بين الظاهر والخفي سمة لصيقة بفن علي طالب ظلت تلازمه على مدى السنوات، وإحساسا عميقا بالعزلة والتوحد.
لقد كان التمرد على القيود، والنزوع نحو التغيير من السمات التي تطبع المبدعين العراقيين، وقد تجلت على نحو خاص بالفنانين التشكيليين والشعراء. كان هذا التمرد قد بلغ ذروة اندفاعه وتوقه للتجريب، وتحريك الجمود الذي خيمّ على الأجواء الفنية بعد وفاة جواد سليم في مطلع عام 1961 ،فالاتجاهات الحديثة، والإنعتاق من القيود، والأشكال التقليدية، مع حرية البحث والسعي للنهوض بتركة جواد سليم ....
لقد تحولّ الرأس ، وهو الثيمة الرئيسية عند علي طالب، إلى صخرة حفُرت فوقها خطوط عميقة وملامح تاريخ الأرض برمتها، لقد تحول الإنسان إلى رأس، وتحول الرأس إلى حجر.
ولكن حينما تحول الرأس، الذي هو خلاصة الإنسان، إلى حجر، تحولّ الحجر بدوره إلى إنسان.
فكان الفنان يوظف الخطوط التي تشقق السطح مكونّة صورا وعلامات وأرقاما، هي رموز ذات علاقة بمرحلة مبكرة من تاريخ الفرد.
كانت عملية الرسم عند علي طالب أشبه ما تكون بالممارسة الذهنية، وكان المجاز لديه وسيلة فعاّلة في عملية التكوين، فهو المعبر الذي يتم من خلاله التحولّ تحت تأثير الضوء واللون.
وقد كانت البصرة وأجواؤها الأدبية، وهي أجواء مشبعة بحب المعرفة والإبداع،، كفيلة بأن تعمقّ لدى علي طالب نزعته الفكرية التأملية وتدخل في صلب تجربته لتغذيّ تمرده وتطورّ بحثه الفني.
كانت أعمال علي طالب مقلقة حقا، بل محيرة بقدر ما هي مثيرة للجدل. إنها تتأرجح بين التشخيص والتجريد، تتضح مرة وتغمض مرات، فتترك المشاهد معلقا بخيط من أمل للتوصل في توغله إلى الإمساك بملامح تظل أبدا هاربة، ولعل وجود هذا الشيء الهارب في اللوحة ليس دخيلا على فنه بقدر ما هو أصيل فيه، إنه جوهر كل موضوع يقترب منه.
وقد تجسدت المشاهد ذات الطابع الدرامي، بشكل يشعر فيه مشاهدو أعمال هذا الفنان، أي صراع يخوضه مع شخوصه، وأشكاله، وفضاءاته. ومن يقترب من عناصر تكوينه اقترابا أشد، يحس بالنار المستعرة التي انعكس جمرها على سطح اللوحة. فإذا كانت هذه الشعلة حافزا رئيسيا، ربما، في الإبداع عموما، فإنها لدى علي طالب السر الكامن وراء القوة التعبيرية التي تفرض نفسها وتشكل عالمها الخاص.
يختار علي طالب للوحاته عموما أسماء لها طابع أدبي، بل إن تكوينات لوحاته ذات مسحة سردية تغري المشاهدين بالغوص في متاهات التأويل فتلهيهم، ربما، عن التمتع بالجماليات البصرية المؤثرة للوحة والمهارات التصويرية للفنان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق