الأربعاء، 20 يناير 2010

معرض النحات العراقي إياد القرغولي في استراليا


علامة المادة الأولى




خالد خضير الصالحي



البصرة





1
أقام النحات العراقي،المغترب في استراليا، إياد القرغولي، أول معرض شخصي للنحت يقيمه في استراليا، ضم منحوتات مشغولة بالبرونز، تلك المادة الأثيرة لديه، والتي انشغل عنها أحيانا إلى منحوتات نصبية كبيرة الحجم مشغولة بالقنب والقار... وقد انشغل النحات القرغولي منذ بداياته الأولى بالإنسان شكلا وموضوعا لمنحوتاته، فشكّل النحت ما افتقر إليه منجز الرسام في لوحاته أي الشكل الإنساني.
لقد ظل النحت، فترة طويلة مقارنة بالرسم، الفن الأكثر ارتباطا بالمشخصات، فلم يتحرر منها إلا بدرجة ما وفي فترة متأخرة ترقى إلى النحات البريطاني هنري مور، بينما كان الرسم يمارس منذ القدم ضروبا شتى من أظهار شيئية المادة والاعتماد على طاقتها التعبيرية إلا بدرجة اقل بكثير من الرسم، حيث لم يظهر في الفن العراقي نحات (تجريدي) بالمعنى الذي نقصده هنا إلا عبد الرحيم الوكيل، وربما ظهرت بعض المحاولات هنا أو هناك فلم تشكل تيارا واضحا له سماته الواضحة.

2
كتبت مرة ان منحوتات البرونز مادة مخادعة أو ذات قدرات استثنائية من أهمها قدرة الإبقاء على آثار المادة الأولى، أو روح المادة الأولى التي صنعت منها المنحوتة، هذه الروح التي تماثل ما سبق وكررته مرات بشان بقاء العلامة الأولى المشخصة في الرسم كامنة في بنية اللوحة مهما أوغل الرسام في إجراء الأسلة التي تبدو وكأنها تغير من طبيعة تلك العلامة الأولى باتجاه محوها؛ مما يجعل روح العلامة الأولى باقية لا يمكن محوها من اللوحة..، ففي المنجز الذي قدمه النحات العراقي إياد القرة غولي في معرضه المقام في استراليا مؤخرا فقد ظلت روح المادة الأولى (=الطين) كامنة في المنحوتة تظهر من خلال آثار أصابع النحات التي مازالت بقاياها مؤثرة في سطح البرونز، وكذلك آثار أدوات النحات واضحة كبصمات على جسد المنحوتة، فيكون التمثال مصنوعا من البرونز ولكن بروح مادة الطين.

3
يبدو النحات القرغولي وهو ينحت كأنه يتبع إليه النحت التجميعي حيث تضاف المادة إلى الفراغ، عكس النحت بالحذف التي يحذف الفراغ فيها من المادة، ولكن إياد القرغولي في إليته تلك كان يمارس في الحقيقة النحت التجميعي بروحية النحت بالحذف فهو يضع الأقل القليل من المادة التي تحفظ للمشخص أهم سماته فلا يتبقى من ذلك المشخص إلا القليل، رغم حرص النحات ونجاحه في أحيان كثيرة، على ان يجعل ذلك المشخص (الكائن) يعبر عن نفسه ما يريد، وبأقل قدر من المادة المتبقية والضرورية لذلك، فقد كان الكائن وعبر معارض القرغولي المتتالية يتجه صوب مزيد من الاختزال الذي لا يبقي إلا جوهر الكتلة الضروري لبقاء ذلك الكائن.

4
من السمات التي يتفرد بها معرض القرغولي الأخير هو انه نحت (يرسم) شخوصه بالخطوط الرفيعة من المادة التي بقيت للكائن، فظهرت المنحوتة وكأنها رسم كاليغرافي، خطوطياً يستخدم اقل ما يمكن من الخطوط كذلك لإظهار الكائن وتفاصيل الموضوع الأخرى، وهو ما كان يفعله بيكاسو في الرسم التخطيطي، وما كان يفعله جايكوميتي في النحت كذلك، رغم ان حركات الشخوص عنده تمتاز بكونها حركات عنيفة، فهو ينجز الكائن في ذروة حركته وانتقاله في المكان؛ وبذلك يتحول النحت إلى اعتماد قوانين اللقطة الخاطفة التي تلتقطها الكاميرا بسرعتها الخاطفة رغم ان محيطها مرتب ومخطط له بعناية هذه المرة.

5
يطر إياد القرغولي كائنه، كما كان يفعل الرسامون: فرنسيس بيكون وكاظم حيدر ومحمد مهر الدين، بإطار يطره ويحاول ان يقنن حركته وتوقه إلى الحرية فيبدو أحيانا وكأنه مسجون في قارورة يسبح في مياهها كما تسبح اسماك الزينة في وعائها وكما يطير العصفور في قفص... إنها منحوتات تلامس التوق الأزلي للإنسان إلى الحرية... وهيمنة الضغوط الكابحة لحريته وتوقه إلى الانعتاق..

6
يهندس القرغولي منحوتاته وكأنما هي ماكيتات (مصغرات) ستتخذ عند التنفيذ أحجاما نصبية ضخمة لتحتل إحدى الساحات العامة بأحجام تأخذ عدة أمتار ارتفاعا ؛ وبذلك يكون على المتلقي ان يضع في حسابه هذا الأمر كبعد إضافي يسبغ على اللوحة طابعا دراميا كامنا..

7
عندما يترك النحات علامات أصابعه على المنحوتة فإنما هو يعاملها بأقصى ما يستطيع من الإحساس المتيريالي (الإحساس بشيئية المادة) واضعا المتلقي أمام آثار المادة الأولى للمنحوتة (الطين) رغم ارتدائها الآن ثوبها الآخر بعد الصب (البرونز)، إلا انه يترك مخلفات أخرى مناقضة ومربكة لعملية التلقي برأينا تلك هي العناوين النثرية والسردية التي هي موجهات قرائية خارج متيريالية...










ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق