18
الرسام صدام الجميلي
تأسيسُ
مدونة بصَريةٍ
(مجتزأ من كتابي (تشكيليو البصرة) الطبعة الثانية المزمع نشره قريبا بطبعة الكترونية)..
كانت الاعمال، التي قدمها الرسام صدام الجميلي في حقيقتها، تجربة شكلت تحولا في اسلوب الجميلي، بعد استقراره في عمان، فاعتبرناها في وقتها نمطا من التغيّرات الاسلوبية التي قاربت الانعطافات الضخمة او (التحولات الاسلوبية) قليلة الحدوث لأنها في طبيعتها طفرات ثورية وراديكالية تتغير فيها اساليب الرسامين، منفردين او مجتمعين، بكيفية جذرية.. وهي تحولات راديكالية بدأنا نتلمسها عند عدد من الرسامين العراقيين، وربما حدثت بفعل التحولات الدرامية المأساوية التي طرأت على المجتمع العراقي نتيجة التغييرات السياسية الأخيرة بعد 2003 وما تلاها، وربما حدثت بسبب تحولات داخلية ثقافية، او تغير في ذائقة الرسام صدام الجميلي الذي بدأ يشكل أسلوبه الجديد بعد رحيله الى عمان كما قلنا او قبله بقليل بهدف الخروج على الوسط الفني بإضافة حقيقية للمشهد التشكيلي العراقي.. فقد تحوّل أخيرا فهمُ هذا الرسام لأهداف الرسم، وغاياته، وبالتالي لوسائله وأشكاله، وحتى في تنظيراته التي رافقت معارضه الأخيرة؛ فكان، في مدوناته، ينظر الى الرسم وتحولاته على انها قضية تتعدى "السلوك التصويري المحض" الى "اعادة انتاج للمعرفة البصرية على نحو جديد"، ويتنبأ بأن الرسم العراقي الان ازاء "مدونة بصرية كبرى تصادر الجنس الفني باتجاه القيمة البصرية"، ويعتقد ان هذه القضية مفتوحة لعدد من (الحلول الجمالية) التي يطمح ان تنتهي عنده بــ"ـإقامة بنية بصَرية محضة" و"صياغات مبتكرة للعمل الفني" و"سلوك حداثوي في العمل الفني"، كما كتب في احدى مدوناته.
ان انشغالات الرسام، عندما كان يؤسس متحفه البصري في هذه المرحلة كانت تحتفي
ببساطة بأشكال الاشياء، وقطع اثاث، واكسسوارات المنزل؛ فاتخذها الرسام مناسبة للرسم،
وبدأت تشكل ما كان يسميه شاكر حسن ال سعيد (المتحف الشخصي) للرسام، بعد ان شكلت العالم
المحدود الذي يعايشه هذا الرسام في مرسمه؛ فكانت هذه الحاجيات اليومية موديلات جاهزة
للرسم، لانها تقع تحت يد الرسام في كل لحظة معيشة، وهي في وجودها ضمن اجواء اللوحة
لا تخضع لذات المنظور الذي كان سائدا في المرسم لانها توجد تحت غطاء منطق مختلف تماما،
فاتخذها الرسام ميدانا لاختبار قدراته التقنية، وتقديم مشروعه الفني الجديد في اتخاذ
التحوير الشكلي استراتيجا له خلال المرحلة (الانتقالية) التي يمر بها الان وهو يحاول
تشكيل تجربة فنية تطرح شيئا ما يشكل اضافة لفن الرسم العراقي.
ان الامر الذي يشكل برأينا (قضية) في هذه الاعمال هو وجود مجموعة من الرسامين
ارتبطوا بالمشخّص فكانوا كلما ارادوا اختبار مستوياتهم التقنية في معالجة مواد الرسم
يتجهون مباشرة الى المشخص الذي يخضعونه الى ضروب شتى من الممارسات التقنية حتى انهم،
حين تطاوعهم شجاعتهم نسيان ذلك المشخّص او التخلّص منه فإنهم يلتقطون صورته الفوتوغرافية
باعتبارها ايقونة فيتخذونها بلّورة تتجمع حولها الاشكال الاخرى في اللوحة... فكانت
الازاحةُ تحدث عبر الكولاج في جزءٍ لا يستهان به منها، وكانت الملصّقات التي هي نمط
من الـ(ready made) او الاشياء الجاهزة تقوم مقام الحل الذي يردم الهوة بين المتوحش او
النيئ، وبين المتمدن او المطبوخ كما تصفه الانثروبولوجيا، فكان المتوحش او النيئ هو
الاستخدام الجاهز للاشياء الجاهزة، بينما شكّل الاستخدام اللوني الجانب المتحضر والمتمدن
في القضية.. وقد يشكل الكولاج عملية (زراعة) اصطناعية للاشارة (الفوتو) في قلب الايقونة
(الرسم) الامر الذي يستلزم معالجة اضافية للكولاج لتأهيله لينسجم والنسيج اللوني للوحة،
وهو ما يفعله الرسام الجميلي في كل مرة..
.. وقد يكون الرسام صدام الجميلي قد ادرك الان بقوةٍ القدرةَ السحريةَ التي
تدفعه لادخال الصور الفوتوغرافية ضمن لوحته؛ وهي طاقة خلاقة تنبعث من اتصال الصور ببعضها
قد تماثل لتلك الطاقة الهائلة التي تنبعث من اتصال الاجساد ببعضها، ومن الكلمات التي
تتصل بكلمات اخرى، وهي امر ادركه الرسامون ووظفه السورياليون منهم كثيرا، وهي آلية
تهدف الى توظيف (التشاكل الصوري) الناتج من التلامس السحري بين الصور ..
ربما يهدف صدام الجميلي من توظيف التشاكل الصوري (تجاور اشكال اللوحة بطريقة
اعتباطية) الى خلق علاقات سردية ذات طبيعة يومية (منزلية) ذات سمات شكلية من (الفن
الخام out sider art) فتتجاور عناصر الغرفة الصغيرة هذه لتخلق عالما محدودا بعناصرها الحياتية:
تقويم شهري صغير، فردة حذاء وحيدة، جهاز حاسوب محمول، هاتف نقال...، وهي كلها تشكل
عالم الرسام في مرسمه..