الرسام حسن ابراهيم:
مجزوء الأشكال
"هل الرب رسام يستخدم وقت فراغه ليمتع نفسه برسم أشكال الموجودات التي نراها في السماء حين تنجرف الغيوم؟"
ابولونيوس تايانا
(بتصـــــــــرف)
اذا كان فن
الماضي العظيم قد كرس نفسه لتمجيد الخالق، أو لتحقيق فكرة تكامل الأنسان، أو لخدمة
الطبيعة، فأن الفن في يومنا هذا قد تحول الى الداخل، داخل العمل الفني ذاته، وداخل
وجوده كواقعة مادية، ليوجد من أجل ذاته، وداخل كل رسام، فبدأ جميع الرسامين بخلق
ميثولوجياهم السرية، وقوانينهم السرية، وحرصوا ان تكون تجارب متفردة لم تتكرر، لكي
تحظى بالقبول في سوق المتلقين.
ولكي لا يترك
الرسام حسن ابراهيم نفسه خارج هذا القانون الملزم، فهو يقوم بمحاولة تأسيس بناء
متفرد للوحته من مساحات (مستطيلات لونية) مستقلة، هي خطوط تصنعها فرشاة عريضة لا
تخفي آثار سيرها على سطح اللوحة، وبذلك فهي تماثل فعل قصبة الخطاط العربي، التي
تصنع، وهي تتقدم، النقطة بشكلها المعين، التي تبدأ بها، وتنتهي، موازين الحروف
التي تصنعها حركة القصبة المغموسة بالحبر، لتصنع، وهي تتحرك على السطح المستوي للورقة،
حروفا تحكمها نسب تنسجم وحجم النقطة (المتحركة)، لكن ذلك لا يضع الفنان حسن
ابراهيم ضمن رسامي (الحافات الصلبة)، المليحي مثلا، كونه (حسن إبراهيم) فنانا
يستثمر قدرة تلوينية عالية، فيداخل نهايات مساحاته اللونية، فتبدو وكأنها في حالة
حركة اهتزازية، بحيث لا يتمكن القارئ من الإمساك بنهاية محددة لكل خط، ومساحة
لونية؛ وبذلك فهو يؤكد ان الخط، وهو العنصر الأساس للهندسة الأقليدية، يمكن ان يظل
العنصر الأساس في الرسم التجريدي، شرط ان ينتبه الى انه لم يعد:
لا خطا
خارجيا، كتلك الحدود التي كان يستخدمها بيكاسو وماتيس لتأطير الاشكال، ومنحها
القوة الكامنة في الخط، كما يؤكد (الرسامــشاعر) وليم بليك، وليس محيطا كفافيا، بل
مساحة لونية نقية تجاور مساحات (خطوطا) أخرى، حيث تتبادل التأثر والتأثير مجتمعين،
وبذلك فهو (أي الخط) يتخذ لنفسه كينونة مستقلة حين يكتفي بنفسه لا بصفته أزلا
للشكل، ولا بصفته سلسلة من النقاط تشكل بعدا واحدا، بل ليتخذ شكلا طوبولوجيا
مغلقا، قد يذكرنا برسامي الحافات الصلبة، وبذلك فهو يمتلك انقطاعا مستقلا بصفته
خطا حقيقيا غير وهمي، ولكنه ليس خطا خارجيا ذا هدف نفعي، لا تتعدى مهمته اكثر من توكيد
استقلال المساحات اللونية، وبذلك يحاول حسن ابراهيم، مثله كمثل هاني مظهر، ان
يستثمر (الطاقة الإنقطاعية) للخطوط المخفية بطريقة قصدية، حيث يتم استثمار ظاهرة
(وجود اتصالات مستقيمة غير منحنية في تخيلات الأشكال) وبذلك يمكن اعتبار جهد هذين
الفنانين وكأنه يصب في اتجاه ما يعرف (بطوبولوجيا المخيلة) التي تعتمد على فعالية
(العناصر القابلة للتحول في ظاهرة التكوين الخطي) وهي التي تتصف بالأمتداد
(الأستمرارية)، امتداد الخط على المحور الطولي حتى وان انقطع جزء وسط فيه، بينما
تتصف بالأنقطاع التام (اللاشكل) للمحور العرضي.
تحكم لوحة حسن
ابراهيم قوتان جاذبتان فاعلتان: اولاهما، قوة طاردة مركزية تبعد الألوان الكابية
التي اتشحت بالسواد الى اطراف اللوحة، (وهي ما سنسميها الوان الهامش)، بينما تمكث
الألوان المشعة في مركز اللوحة، (وهي ما سنسميها ألوان المركز)، وثانيهما، قوة شدٍ
شاقولية (جاذبية أرضية)، حيث تستقر الألوان الداكنة، اسفل اللوحة، بينما ترتفع
(وقد نقول تطفو) الألوان المشعة (الضوئية) في اعلاها لتستقر العلامات الكالغرافية
(الخطية) في المركز، وكأن اللوحة مبنية بمعمار ساعة رملية يقصد أن تستقر الرمال في
طرفها القصي من جزئها الأسفل، رغم أننا نتلمس طموح الفنان على تحقيق تنافذ مستويات
اللوحة (طبقاتها من خلال البنية الأركولوجية)، بحيث تنصهر كل تلك المستويات مع، أو
فوق بعضها، مشكّلة مستوى واحدا تحكمه مركزية شكلية ولونية معا، ووحدة زمكانية، وهو
بذلك يحاول الإبقاء على بعض من القوانين الشكلية للفن الكلاسيكي!.
في كتابه
الأخير (البحث في جوهرة التفاني) يتابع شاكر حسن ما قد يصح تسميته (الدورة
الخليقية للشكل) بصفته نمطا من انماط التحولات الجنينية للنقطة نحو الشكل، مرورا
بالخط، بينما نرى الرسام حسن ابراهيم يحاول تأسيس (رؤية ميثوـ خليقية)، وذلك عبر محاولة
اعادة الشكل، بحركة ارتدادية، الى أزله النقطة،
ولكنه، مع ذلك، لن يصل اليها بل هو لن يريد الوصول اليها، فالنقطة ليست
هدفا هنا باعتبارها "عالما مستقلا بذاته، له دقته، وشكله، ومحتواه، ويتضمن
وجود الشيء واللا شيء معا، ما بين الأزل والأبد، عالم ما قبل الخط، ما قبل ظهور
الحرف، عالم ما قبل التجريد، وما قبل التشخيص، عالم العدم الذي يحقق وجوده محيلا
هذا الوجود الى حالة عدمه، فهو الصمت أو العماء"، لذا فهو يحاول الإبقاء على
(طيف الشكل)، لأن من شأن وجود الشكل أن يحيل أشكال اللوحة الى الواقع (الشكل جزء
من الواقع)، لذا فهو يتوقف عند (طيف الواقع) الذي هو طيف اشكاله، دون الوصول الى
النقطة التي هي أزل التجريد، وبذلك يغدو حتى المثلث قائم الزاوية، والذي يبدو ان
ابراهيم يتخذه، أحيانا ومجزوءاته معمارا للوحته، يغدو بوتر شديد الوضوح، بينما
يصيب الأنقطاع ضلعيه الآخرين، لكنه مع كل ذلك، يبقى ماثلا امام عين المتلقي،
ببنيته المعروفة، وقوانينه الفيثاغورية، نتيجة لهيمنة مبادئ الهندسة الأقليدية،
التي تفرض قوانينها قسرا على عملية التلقي هنا.
رغم رغبته
العارمة بالتنكر لضرورة تشكل المادة، أو نزوعها نحو ذلك، يشكل حسن ابراهيم
ميثولوجياه السرية من علامات ترسبت في ذاكرته، ويعتقد أنها تشكل الموضوع الذي لا
مفر من وجودها فيه، وهو ما يصلح ان يكون معيارا للفن بمقاييسه الحديثة: مقاييس الحروف،
وبقايا أجزاء الحروف، الأرقام وأجزائها، والعلامات المرافقة للكتابة، والنقاط،
والبقع، والمساحات اللونية النقية، وغير النقية، والمثلثات، والمربعات، والخطوط
الهندسية، والغمائم اللونية، وكلمات وجدت لترى لا لتقرأ.
بذلك نرى ان
الرسام حسن ابراهيم يقف على تخوم الشكل، لكن دون الدخول فيه، فهو اذن يستعير مجزوء
الأشكال، كما أنه يقف على تخوم النقطة أيضا.
خلاصة القول: ان الرسم ما زال يختلق اساطيره، كما قلنا، تماما
كما كان قبل الاف السنين، لكن الفرق بين رسوم الماضي، ورسوم الحاضر، ان الرسم كان
في ما مضى متجها الى اساطير يقع مركز ثقلها خارج النفس، فكانت موضوعاته متجهة الى
الواقع المختلط بالأساطير، والاوهام، والمخاوف، فلم تكن هنالك منحوتات للآلهة،
انما كانت المنحوتات هي الالهة ذاتها، فلم ينفصل الواقع وقتها عن الخيال في فنون
الناس البدائيين، بينما يفصل الانسان الحديث كل خانة لوحدها، فالفن عنده فن يختلق
اساطيره المعزولة عن (الواقع – المقدس)، لتكون اساطيره قائمة على التقنية ليس الا،
وكإن كل فنان بخلق ميثولوجياه السرية، والمستقلة، وبالتالي اساطيره المستقلة
النابعة من استقلال تقنياته التي يجب ان لا تتكرر عند رسامين اثنين فيكون عندها
احدهما مقلدا للاخر، وتفقد اعماله اصالتها..
لا نعتقد ان الرسام حسن ابراهيم يشذ عن هذا التوصيف، بل يمتثل
له بقوة، ويحاول ان يتفرد باللمسة، بل وبالملمس، وبالتقنية المتفردة، صحيح انه
يحشد في لوحاته الموتيفات ذاتها التي استخدمها جواد سليم، واتباع عديدون له، ومازال
البعض منهم وفيا لتلك الموتيفات: للمربعات، والمثلثات، والأرقام، وعلامات معمارية
بغدادية، الا ان حسن ابراهيم يتفرد عنهم بلمسته الخاصة، وبالاثر الذي تتركه فرشاته
وهي تدور دورانا مسعورا دونما قدرة على تسكين حركتها.. ولذلك من الصعب ان يوضع في
خانة اي من الـ(جماعات) كالحروفيين، لان الحروف والارقام فيها لا تشكل الا عناصر عابرة
للدلالة لصالح وجودها الشكلي، ولا الى التابيسيين، ولا رسامي الحافات الصلبة.