الرسام صلاح
جياد
سبعينيو الرسم العراقي..
تجارب
محاصرة بالـمِحَن
خالد خضير
الصالحي
إن انقطاع
الرسام العراقي صلاح جياد، (البصرة 1947)، عن الساحة الثقافية العراقية بسبب
الهجرة الى فرنسا وما نتج عنها من ضعف في تسويق التجربة إلينا، من هناك،
قد ألقى بظلاله
على تقييمنا لتلك التجربة، ووضع اللمسات الأخيرة لخسارتنا إحدى اهم تجارب سبعينيات
القرن الماضي في الفن التشكيلي العراقي، ونحن نحاول الآن أن نرتق صورتها من
اذهاننا، ونختبر قناعتنا القديمة الراسخة التي مازال الكثيرون متمسكين بها حولها،
والتي تقول بانه لولا تلك الهجرات لكان ممكناً للفن العراقي أن يمتلك الآن ذات
الزخم التشكيلي الذي كان في سبعينيات القرن الماضي، وأيضاً أن يكون لتجربة صلاح
جياد تحديداً شأن أعظم في الرسم العراقي.
فحينما كتب
الكاتب الرسام يوسف الناصر عن صلاح جياد كان يخيل لي إنه كان لقد شخصتُ، (في مقال
سابق نشرته، قبل خمسة أعوام، في عدد مخصص للرسام صلاح جياد كفنان العدد من مجلة
فنارات، التي يصدرها اتحاد الادباء والكتاب في البصرة)، مهيمنةً شكلية رئيسة، كان
يبني عليها صلاح جياد والرسامون السبعينيون اليساريون المجايلون له، اعمالَهم، وهي
ما اطلقت عليه مرة ايقونة (المناضل الجورنيكي)، وربما اعدها من مؤثرات بعض رسامي
الخمسينيات وأهمهم: محمود صبري الذي نقلها حينما كان في مرحلته التعبيرية
(الثورية) عن بيكاسو، وكاظم حيدر في معرض الشهيد، وضياء العزاوي في أعماله عن تل
الزعتر، ومؤثرات جواد سليم في نصب الحرية، وهي ايقونة لرجل صارخ يرفع قبضته في
الهواء رغم تقطع أوصاله، وبقائه: رأساً، ويداً ترقع قبضتها، وبعض الأشلاء المقطعة،
وكان نموذجه القياسي: ذلك الرأس المتألم الذي يحتل مقدمة أشكال لوحة جورنيكا
بيكاسو، فكان أغلب المنجز السبعيني، للشباب وقتذاك، ومنه منجز صلاح جياد وفيصل
لعيبي ونعمان ماهر ووليد شيت قبل إكمال دراسته خارج العراق، اشتغالا على تكرار ذات
الثيمات، وأشكالها الإيقونية المتكررة، "بتطويرات وتحويرات تمليها طبيعة
اللوحة"، ولم يكن العالم الخاص بصلاح جياد إلا ذاك الذي حمله معه الى فرنسا،
وظل يرسم تحت وطأة إيقوناته وأشكاله المهيمنة دون تغيير كبير في الموضوعات، مكرراً
إياها طوال منجزه الماضي، مما يعني أن قناعاته الأساسية عن اللوحة، وماهية الرسم
لديه إنما بقيت ثابتة لديه وكثير من مجايليه من السبعينيين العراقيين الذين كان
الرسم عندهم (سطحاً تملأه إيقونات الجورنيكا)!، وأدى ذلك الى ما أسماه يوسف الناصر
( اتساع مهمة اللوحة) عند جيل السبعينييات، فصار مطلوباً منها أن تؤدي وظائف جديدة
أدت الى خضوعها الى مزيد من (الالزامات) الاضافية واقترابها، بدرجة ما، الى نوع من
وسائل الايضاح (البوسترات) التي شهدت معارضها فورة بالانتاج والعرض وقتذاك، حيث
كانت برعاية رسمية من قوى السلطة والقرار، فكانت موجِّاتها سردية، (خارج بصرية)،
و(خارج جمالية)، وقد استحكمت (المهام) المنوطة بالبوسترات الإعلانية التي استحكمت
شيئاً فشيئاً باللوحة تالياً، بسبب ما تحظى به من قبول (رسمي)، لكن ذلك السيل
الوافد من منابع تقع خارج حدود التشكيل لم يتخذ شكلَ عصفٍ جارف عند صلاح، والسبب،
كما يؤكد الناصر "قوة الوانه، وخطوطه، وحريته، التي هيأت له مدخلا امنا
لاستقبال العصف وللاستجابة للفروض الجديدة، ساعده في ذلك انتشارُ وشعبية بعض الصياغات
الجاهزة التي منحها الفنانُ ابعادا جديدة، وبدا الاعلامُ الصديقُ مزهوا بالمواهب
التقدمية الشابة".
لقد كان صلاح
جياد واحداً من شباب الرسامين في البصرة من الذين استوعبوا الدرس الأكاديمي
الانطباعي لأستاذهم الراحل فائق حسن بشكل استثنائي، إلا أن تجربة صلاح جياد لم
تأخذ مداها المتوقع بسبب جملة محن، ربما كان النقد التشكيلي العراقي باتجاهه
الايديولوجي الفاعل فيه، هو الطرف الأكثر مسؤولية عن ذلك، ربما بسبب التطرّف في
التناول المعياري العتيق: سلباً أو إيجابا، أو ربما بالامتناع عن الكتابة، ولكل من
هؤلاء دوافعه (النفعية) المختلفة.
لقد خضعت تجربة
هذا الرسام إلى قوى ضاغطة كانت أهمها محنة الجيل السبعيني من التشكيليين والمثقفين
العراقيين الذين تزامنت تلمذتهم، وصعودهم، مع تصاعد الخطابات الأيديولوجية التي
كانت تسعى إلى توظيف الفن، والثقافة العراقية، لوجهة نظرها، ومصالحها بعد 1968،
فقولبت جيلاً بكامله وقع الكثير منهم تحت طائلة (شيزوفرينيا) ثقافية مماثلة لما وقع
فيه جيل الستينيات قبلهم، حينما انفصل عندهم الخطاب اللغوي وجهازه المفاهيمي، عن
التجربة المتحققة، ففي الوقت الذي انتمى فيه خطاب جيل الستينيات وجهازهم
المفاهيمي، الى بقايا خطاب جيل الخمسينيات، الذي هو بدوره كان مستمداً من مصادر
عتيقة مستمدة من الخطابات التنويرية لعصر النهضة العربية، وهي خطابات نثرية لا
تنتمي إلى الجوهر المادي (الشيئي) للفن التشكيلي، وذات طبيعة التهامية قادرة على
توظيف أي حقل يخدم أهدافها، بينما كانت اللوحة، وعلى العكس من الخطاب العتيق
المحايث لها، قد انطلقت في آفاق الحداثة، وتجاوزت عصرها، سواء من ناحية التحرر من
موضوعات ومشخصات الواقع، او من ناحية سبرها آفاقا تقنية كان الستينيون يجربونها؛
فظهروا بها وكأنهم أكثر حداثة من أجيال شابة ظهرت في جيل تال لهم وعاصرتهم، فبدت
تجربة صالح الجميعي، كمثال نموذجي لهذا الجيل، بموادها شديدة الغرابة نموذجاً لعصر
تخلفت فيه التنظيرات عن منجزات تدعي تلك التنظيرات إنها ناتجها، ويمكن الرجوع الى
البيانات والمدونات التي كان يصدرها الستينيون وجماعاتهم ليرى درجة تخلف الخطاب عن
المنجز.
إن محنة
السبعينيين كانت محنة مضاعفة، أولاً من خلال التصاق غالبيتهم بموضوعاتهم فكانوا
يفكرون نثرياً بطريقة (رسامي إلبوسترات) فتأتي نتاجاتهم، ربما بوعي أو دونه، في
خدمة اتجاهات فكرية خارج الواقعة الفنية وماديتها، بينما كانوا ينفذونها كرسامين،
وهو وجه التناقض المماثل لما وقع فيه جيل الستينيات، ولكن منحة السبعينيين الآن
تقع داخل اللوحة لا خارجها، ورغم أن غالبية هؤلاء، ومنهم: صلاح جياد، نعمان هادي،
فيصل لعيبي، عفيفة لعيبي وغيرهم؛ كانوا من أخلص تلاميذ الرسام الرائد فائق حسن،
وأكثرهم قدرة وتأهيلاً أكاديمياً، وجدارة تقنية عالية، وربما فاقوا في ذلك الأجيال
السابقة لهم في هذا..
لقد تربى صلاح
جياد على مرجعية فكرية تركز على (البطل الإيجابي) وتُعلي من شأنه، حيث كانت
الترسيمة القياسية لذلك البطل السمة الأكثر ملموسية للرسم الواقعي بمفاهيمه التي
كانت تطرح في الأدبيات العراقية في السبعينيات، والتي سادت، كما قلنا، بفعل أعمال
بيكاسو (الثورية) وأهمها الجورنيكا التي غدت (علامة) تشبّع بها جيل السبعينيات،
باعتبارها مرتكزات قبلية لكل عمل فني، وهو اتجاه أشاعه وحافظ عليه رسامون خمسينيون
أهمهم: محمود صبري في أعماله عن الثورات والمسيرات، والذي تحول أخيراً الى تجريدية
هندسية موندريانية (نسبة الى الرسام موندريان) اسماها واقعية الكم والف عنها كتابا
بالعنوان ذاته، والستيني محمد مهر الدين الذي حتى حينما تحول الى التجريد كان
موضوع ما سمي بـ(البطل الإيجابي) يطل بشكل ما، في أعماله فكانت خطابات ذلك البطل
تظهر بشكل كتابات تعلن سخطها على الإمبريالية، والاستعمار، وأمريكا، وكل أشكال
استعباد الإنسان لأخيه الإنسان، وكان ذلك البطل مهيمناً في تجربة ستينية شهيرة هي
تجربة (كاظم حيدر) في ملحمة الشهيد، والتي كانت الحدود التي ينطلق منها ويعود
اليها جيل واسع من الرسامين العراقيين، فهيمن ذلك البطل على تجربة صلاح جياد
باعتباره موضوعا أثيرا ولازمة تقريبا في بناء اللوحة، "فالجسد أو بعض من
أجزائه يشكل القاسم المشترك لأهم مفرداته التشكيلية، والتي يصعب تجاوزها، حتى لو
اشتغل على المشهد الطبيعي" (علي النجار)؛ فكانت لوحته تعبيرية في شكلها، وفي
موضوعها، وغالبا ما يشكلها حشد من (الأبطال) الساخطين الذين يخضعهم الرسام لشتى
ضروب الاشتغال التقني المتمثل بشتى الفورانات اللونية؛ لينقل للمتلقي إحساسا بحالة
اللوحة، من خلال رداء لوني تقني عال، ولكن بقيت روح اللون الانطباعي تطل براسها من
خلال تلك الأجواء..
إن انشغال
الرسام بالموضوع (النثري) للبطل الإيجابي لم يكن توسيعاً لدائرة اهتمامات فن
الرسم، كما كان يصور ذلك (النقاد) المكرَّسين للكتابة في الصحافة والنقد وقتذاك،
بل هو قناعة بوهم لا يعدو ان يكون ضغطا للموضوع ذاته، كما كان يفعل العديد من
الرسامين: فرنسيس بيكون الذي لم يكد يضع فرشاته على سطح اللوحة حتى يظهر الكائن
الذي كان لا يتورع عن تصويره وهو جالس على المرحاض أو منكب فوق المغسلة، فخلق ذلك
الرسام كلاسيكية رفيعة في التصميم، وقد تنبهت العاصمة الفرنسية لـ(صراخ أشكاله)
التي حققت حلمه بالشهرة، ومن العراقيين اسماعيل فتاح الترك في رسومه للوجوه، إنما
يفعل كما كان يهدف سيزان حينما لم تكن تفاحاته موضوعا مطلقا، بل كانت وسيلة لضغط
الموضوع في اقل درجاته الممكنة، وهو ما كان يفعله بيكون، والترك، ومحمود صبري، وما
انتهى اليه صلاح جياد فعلا..
إن موضوع البطل
الإيجابي وهْمٌ كرسته الأيديولوجيات، وبعض نقادها من الذين كانوا يبشرون بميلاد فن
وادب (الواقعية الاشتراكية) بإصرار أشد من إصرار منظري الأدب والفن السوفياتي، مما
جعل الفن حقلاً طيّعاً لمنفعية الجهات التي تنفذت في الثقافة العراقية في سبعينيات
القرن الماضي عبر ثيمة (البطل الإيجابي)، وهو ما شكل المحنة الأشد إيلاما، والاشد
ارتكاسا لتجارب رسامين كثيرين من جيل السبعينيات، ومنها تجربة الرسام صلاح جياد،
هذا الرسام الذي يتوفر على قدرات اكاديمية وتقنية كبيرة تم إجهاضها بفعل الإصرار
على رسم موضوعات بمحددات قبلية لا تدخل ضمن جوهر الرسم، وهو أمر محزن ومخيب بما
فيه الكفاية...
إن نقطة القوة
التي يتمتع بها الرسام صلاح جياد كانت عقب آخيل في تجربته، ونقصد بها التقنية
الانطباعية التي يمتلكها، فقد قدم، ومذ كان طالب فن، أعمالاً دراسية انطباعية جلبت
اهتمام المعنيين له، فقد اتصف، كما يؤكد الكاتب فاروق سلوم بـ"ـقدرات
تصوير... يؤاخي (فيها) فائق حسن في كلاسيكياته... وكان منهمكا بحرفية عالية في
دراسة الطبيعة ومخلوقاتها.. منظورها وتفاصيلها الدقيقة بأسلوب منهجي مدرب وعميق
... وكانت معظم الأعمال التي انجزها خلال عقدين مهمين، منذ أواخر الستينيات حتى
أواخر السبعينيات، أعمالاً منهجية متكاملة، دراسية وتشريحية، تسمّيه كرسام كلاسيكي
من الطراز الأول.. يوم كانت الدراسة همّه ومبتغاه في مواءماتها مع متطلبات التجربة
الشخصية"، الا ان تجربته كانت تحتاج، بمرور الوقت، إلى حلول من نمط اخر يتخلص
فيها من روح اللون الانطباعي ليتجه الى مديات حداثية أرحب، ولكنه، مثل الكثير من
الاكاديميين الانطباعيين المتمكنين، لم يتمكنوا من الخلاص من انطباعية اللون التي
ظلت علامة عالقة في تجاربهم حيثما حلوا وارتحلوا، فقد كنا نرى رسامين منهم ينتقلون
الى التعبيرية، وأحياناً الى التجريد، بينما تبقى ألوانهم انطباعية تماثل أعمال
فائق حسن التعبيرية التي بقيت فيها ألوانه ذاتها دونما تغيير، فكأن هؤلاء يحاولون
أن يذكروا المتلقي انهم بارعون في الرسم الاكاديمي، وانهم قادرون بذلك على الرسم
في اية منطقة يشاؤون، فكان ذلك يصيب منهم مقتلاً لا تخطئه عين خبير الفن..
وقد أدرك العديد
من تلاميذ فائق حسن الخلّص محنتهم هذه فحاولوا الاتجاه متجهات شتى للخلاص من هيمنة
(روح) اللون الانطباعي، فاتجهت عفيفة لعيبي الى رسم قريب من الواقعية السوفياتية
والرسم المكسيكي، بينما اتجه فيصل لعيبي الى أجواء محلية تعود فلسفتها الى خطاب
جماعة بغداد للفن الحديث، بأشكال قريبة من أشكال عفيفة لعيبي وبتجديدات تشريحية
جريئة، ولكنها أشكال بدت اقل صلابة منها، وتغلب عليها موضوعات فولكلورية تنسجم
ودعوى المحافظة على الروح المحلية التي شكلت جوهر خطاب جماعة بغداد للفن الحديث
ومرحلة الخمسينيات، وهو ما يذكرنا بالاكاديمي البارع سيروان باران الذي استعار
أجواء بيكون حينما ارتحل الى التعبيرية في محاولة للخلاص من هيمنة (روح) اللون
الانطباعي على تجربته في الرسم، بينما ظل نعمان هادي، على حد علمي، مقتنعاً
ببراعته الأكاديمية وألوانه الانطباعية، مترسماً خطى أستاذه فائق حسن، وإن لم أكن
أتابع تجربته بسبب الهجرة الجماعية التي فرضت في الثمانينيات على هذا الجيل بأكمله
نتيجة انتماءاتهم السياسية الجماعية وهو ما فعله محمد صبري، وهو رسام من جيل لاحق
كان قد وقع على بيان جماعة الأربعة، لكنه ظل وفياً لجذوره المدرسية الانطباعية..