الرسام مهند
العلاق الانتهاء بالصفر الموضوعاتي
خالد خضير الصالحي
كتبت مرة ان (ادامة
الصلة مع الجمهور) كانت اهم هواجس الرسم العراقي، وظهرت الحاجة الأولى
لها حينما
بدأ الرسم العراقي يخرج عن طاعة الواقع، ومشخصاته، فوجد نفسه في حاجة ماسة الى
ابقاء الصلة حية مع المتلقي (الجمهور)، الذي وجد نفسه، هو الاخر،
بعيدا عن المحاولات الفنية التي نأت بنفسها عن اتخاذ اشكال الواقع،
ومشخصاته، حقلا لاشتغالها، فلم يجد الرسم العراقي، في هذا المسعى، الا
خيارين لا ثالث لهما:
الاختيار الاول، حينما تم دعم تجارب الفن من داخل اللوحة
باعتبارها (واقعة شيئية)، وهو ما جعل اعدادا من الرسامين يبالغون في التمسك بـ(دعم) اللوحة
ببعض مشخصات الواقع،
الى درجة قيام بعض (التجريديين) منهم، بإضافة بعض العلامات المشخصة للوحة
التجريدية بعد انتهائها!؛ باعتبار ذلك الفرصةَ الاخيرةَ للوحة في ادامة الصلة مع
الواقع، وبالتالي مع (الجمهور)، مما يجعل اللوحة، ذاتها، وليس الخطاب المحايث فقط،
مصابين، بنمط من (الشيزوفرينيا الثقافية)، والتناقض البنيوي، بين طبيعة البناء التجريدي
للوحة، وبين ما يضاف لها لاحقا من مشخصات واشكال الواقع.
والاختيار الثاني،
ان تتم ادامة الصلة مع المتلقين بوسائل من خارج اللوحة كواقعة مادية (مستقلة)،
وكان ذلك يجري عبر انتاج (جهاز مفاهيمي) من النصوص اللغوية المكتوبة، اي عبر جهاز
مفاهيمي خارجي يسبق العمل الفني، ويبشر باعمال فنية، او
اتجاه اسلوبي، باعتبارهما ناتج امتثال لذلك الجهاز المفاهيمي، ولقوة اسانيده
(الخارجية)، وهو ما اتبعه اثنان من اهم صناع الاساطير (المفاهيملغوية) في الفن
التشكيلي العراقي: شاكر حسن ال سعيد خلال المرحلة
التجريدية التعبيرية، والذي اصدر العديد من الكتب التي
كانت تعتبر اعماله (ناتج) خطابه المدون، بدأت بكتاب (الحرية في الفن) و(الرؤية
التاملية) و(البعد الواحد) وغيرها، ومحمود صبري خلال مرحلته التجريدية
الهندسية التي اعتبرها تطبيقا لـ(واقعية) ذرية جديدة هي (واقعية الكم) او
الكوانتوم، وتطويرا للواقعية الماركسية، بمعنى انه كان وما يزال في ميدان
(الواقعية)، ولكنها واقعية تلائم العصر الذري، واصدر عنها كتابه الشهير (واقعية
الكم)، باعتبارها (واقعية) عصرنا الحاضر.
حينما قام سيزان
بخفض موضوع لوحاته الى اقل منسوب ممكن؛ انتهت اللوحة وقتها الى محض تفاحات،
وقتها شعر المهتمون بالفن التشكيلي إن اللوحة يمكن ان تبقى محتفظة بصفتها كلوحة،
بأقل قدر من الموضوع، وقد اكتفى سيزان بحدود ثورته تلك، وكانت مقرونة بأسلوب شخصي اعتبره عالمُ
الفن معالجاتٍ شكليةً ادت فيما بعد الى ظهور الثورة التكعيبية التي أعتبرُها
الثورة الشكلية التي اعقبت سيزان، ولكنها كذلك، لم تمتلك الجرأة الكافية، وقتها، سوى
الى خفض (الشكل) لأقل قدر ممكن، وهو مالم يرقْ لـ(كازيمير ماليفيتش) الذي كان يسعى
الى قدر اكبر من تخفيض منسوب الشكل في اللوحة، فجاءت لوحته الشهيرة (مربع أبيضٌ
على خلفية بيضاء)، ليدخل الشكل في اللوحة، وفي الرسم الحديث مرحلة (الصفر)، وهو ما
سعى اليه (مهند العلاق) في اعماله الاخيرة التي اطلعت عليها.
هذا ما خطر لي
وانا اعاين اخر صفحات تجربة الرسام العراقي، المقيم في هولندا (مهند العلاق)، والتي
بدت لي، وهي لا تغادر مشخصات الواقع وحدها، بل وتجرب (صفرية)
الشكل والموضوع، فبعد ان قضى زمنا يجري تجاربه على مشخصات الواقع، شعر ان تحقق صفة
العمل الفني ليست مرتبطة بالواقع، ومشخصاته، وسردياته، فابتدأت اعماله تتجه بثبات،
وجْهَة أخرى، نحو افاق من الرسم الخالص، وكأنها تبدو غير مكترثة لقضية الصلة بالجمهور، ليس بفعل
الاعتقاد بعدم اهميتها، وانما للاعتقاد بأن هذه التجربة قد تجاوزت هذا الموضوع من خلال: ايجاد
وسائل تحقق تلك الصلة، ليس عبر التطابق (المشخصاتي)، او
التماثل الشكلي مع موجودات الواقع، وانما، عبر وسائل اخرى اهمها، بالنسبة
للجمهور، خلق اثر بديل لتلك المشخصات، والاهم هو
ان يتم ذلك، عبر التحول من التجذر المكاني، وهو العودة الى اقل الابعاد (Dimensions) في اللوحة، وهو ما لم
يكن هدفا لمهند العلاق يوما، ولم يكن يطمح، ان تحيل اشكاله، الى ما يماثلها من اشياء الواقع.. فهو اذن
ينسجم داخليا مع فهم ماتيس الذي اعترضت عليه سيدة شاهدت عملا فنيا له صوّر فيه امرأة
بساعد اعوج او أقصر من اللازم، فأجابها بان ما موجود في اللوحة علامة مستقلة
للمرأة، وليست امرأة.
تبدو اعمال مهند
العلاق وكأنها ناتجة عن تمسكه، بإيمان راسخ، بأن العمل الفني لن يكون عملا ابداعيا
ان لم يحقق صفته باعتباره (تجذرا ماديا)، ونعني بـ(المادي) هنا، ان يتخطى حدود
(التجذر المكاني)، الذي قال به شاكر حسن ال سعيد، ويعني به: تلاشي، او تآكل،
الوجود (الأَبعادي)، والأبعادي تعني أبعاد العمل الفني او (السطح التصويري) للوحة،
وابعاده الوهمية كذلك.
ان (التجذر المادي)، وهو تأهّلٌ، او (بحثٌ تراجعيٌّ) نحو
البنية التحتية للعمل الفني، وليست نحو أبعاده الهندسية، وان التجذر المادي ذا صفة
(مكانية) حتى وان انتهت ابعاد العمل الفني في (النقطة)، من خلال (عالم الأبعاد(:ثلاثة
أبعاد مجسمة: في فنون النحت، والخزف، وفن العمارة، والفن المفاهيمي.. الخ وجذرها
البعدان (انتفاء العمق).. ثم جذرهما البُعد الواحد، وتحولاته الى الحروفية الخالصة
او المتخفية).
ان تجربة (اللاشكل)،
التي تدخلها أعمال مهند العلاق، هي محاولة لا تهدف الى هدم الصلة مع الواقع، انما
لهدم النسق الفني المؤسس ليس فقط على اعتبار الرسم شكلا من الصلة مع الواقع، انما
باعتبارها هيمنة عنصري (الشكل واللون)، والتحول الى مفهوم المادة، الذي عرفه شاكر
حسن ال سعيد انه يشتمل اللون والمواد المضافة الى اللوحة، وكل التقنيات المؤثرة
على سطح اللوحة من: لصق، حك، وترقيع، وتجميع، وحرق، وخرق، وهي ما يجملها بالتقنيات
التي تحاكي (التفاعلات المحيطية): الكثافة، والسيولة، والهبوب والاحتراق...
ان ما اعتبرناه (التجذر المادي) في فن الرسم التشكيلي: و"العودة الى الصفر، لم تعنِ علاقة
إنكارية بقدر ماهي عودة الى تواضع الأصول، أي الأصول البسيطة حيث التحرر من زحام
التراكمات الدخيلة... حيث لا مدلول محدد، إنما يدل على ذاته ووجوده فحسب... ونهاية
الطريق في الفن اللاموضوعي، حيث يقدم أبسط أشكال الإيجاز، والإختزال في الشكل
واللون... (والتي عاودت الظهور في) الإتجاهات
الأمريكية والأوربية في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، وعرفت بـالمنيمال
آرت (Minimal art)، أو الفن الإيجازي"، حسب ما تؤكد د. اماني علي
فهمي (مصر).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق