نسق فني (خارج ثقافي the outsider art)
مثلما اجمع النقاد عندنا على ان (التعبير عن الروح المحلية) او الفولكلور العراقي هو جوهر تجربة الرسام فيصل لعيبي، لم يكن صدر الدين أمين، الفنان العراقي المغترب ليخرج كذلك عن توصيف اجمع غالبية النقاد عليه، حينما كانوا يصفونه بأنه فنان بدائي، لكن ما يثير الغرابة حقا أنهم لم يكونوا يكترثون إلى أهمية تبرير حكمهم، فلم يعرض اغلبهم أسباب مسلّمتهم هذه، وكان ذلك راجع على الأغلب بسبب ما يرونه من درجة الهوس التي كان يبديها الرسام صدر الدين أمين بالمحيط، والبيئة، وموجوداتهما من الكائنات التي يتخذها وسيلة بصرية بهدف الكشف عن المعطيات الجمالية الكامنة في ثنايا الكيان المحيطي
بصفته موضوعه الأثير وربما الوحيد، بينما تشكل لقى ذلك المحيط بوابة الفنان إليه، وهي بوابة ذات اتجاه نسغي ارتدادي، يبدأ من ذات الفنان نحو لقى المحيط، ويعود إليها؛ مما يؤكد اعتبار تجربته واحدة من التجارب التعبيرية ــ التجريدية العراقية التي تستلهم المحيط، وتحاول أن تَسِمَ ما تضمه من لقى المحيط بالقناعات الشكلية التي يؤمن الرسام صدر الدين أمين بها، والتي يبني وفقها منظومته الشكلية، ففي الوقت الذي آمنت فيه أعداد غفيرة من الرسامين العراقيين ان موضوع اشتغالها مستحثات الجدران العتيقة، فاتجهوا إلى تلك الجدران يستقرئون مستحثاتها الشكلية في السطوح التي يستنطقونها، ويجرون بحوثهم الأركولوجية عليها؛ لاكتشاف كوامنها الإشارية والعلاماتية، ومعالجة نسيجها، وإجراء تجاربهم عليها، باعتبارها مقطعا عرضيا، او شريحة نسيجية تحمل واقع الحياة الإنسانية في اصغر تفصيلاتها، من خلال اكتشاف مخلفاتها التي تشكل أثرا لمرور إنساني ترك إشارته على سطح المحيط: كتاباتٍ وآثاراً وحزوزا، ولكن صدر الدين أمين لم يرغب في تتبع آثار أولئك الرسامين وسواهم، فاتجه متجها داخليا حينما بدا يملأ سطح لوحته بكل ما حملت ذاكرته من كائنات عايشها طويلا؛ فاندغمت؛ وصارت جزءا من وعيه بالشكل في تداخله مع الطبيعة؛ فظهرت لوحته وهي تضم حشدا خليطا من البشر الذين يرتدي بعضهم أقنعة، ويضع بعضهم قروناً كما كان القدماء يرسمون السحرة على شكل شامانات، او حيوانات خرافية تمتزج أشكالها بحشود لا حصر لتنوعها من: اسماك، وقطط، وثعابين، وسلاحف، وطيور، و أقمار، ونجوم، وشموس، ونباتات، وزواحف، وأشجار، وورود في كرنفالات تشترك فيها كل هذه الجموع، لتمثل هذه الحكايات والأساطير معينا أساسيا في تشكيل البنية الثقافية المستمدة من الميثولوجيا الشعبية لمناطق الغابات الجبلية في العراق والتي أعاد صدر الدين أمين صياغتها من خلال فن عالي التقنية والصياغة البنائية.
كانت موضوعاته مليئة بالتماعات البراءة وسلطتها على الأشياء، غير عابئة بردود الفعل حول مدى التوافق بين تصوراتها وبين حقيقية تلك الأشياء، فمهما تكون الفكرة (ساذجة) بمعنى فطرية، او بمعنى أدق ان تكون خارج النسق الفكري (الحضاري) المهيمن؛ فإنها تشكل جوهرا رفيعا وحرا للمخيلة، نعده من مكملات الوعي (العقلاني).
فكانت الحكايات والخرافات والمعجزات والسحر تعبيرا عن حلم الإنسان وعن هدفه العظيم وكانت تلك الفنون (الخارج ثقافية) ” نمطا من الجمال النابع من السجية التي لم تشوهها الأحداث والنظريات وتقنيات الثقافة فتدثرت بدثار البساطة والعمق” فكانت هذه التجارب الفطرية متجاوزة لكل القيم المقبولة والمحظورة معا فيما يخص القواعد التي تموضع عليها الفن الرسمي المنتمي إلى قيم الثقافة؛ فكانت تسحر بموادها وتقنياتها وأشكالها المتجاوزة، وكانت فنونا تضرب بجذورها في عمق اللاوعي الجمعي البشري والفنون ( البدائية) والشعبية وفنون الأطفال والمرضى العقليين وقبلها فن الكهوف وفن الأقوام (غير المتحضرة) وهي كلها تستمد قيمها من البساطة الشكلية والمادية والتقنية في (نسق قيمي) تحتل فيه هذه البساطات الثلاث المرتكز الأساس من خلال تواشجها مع بعضها دونما انفكاك، ودونما قواعد مفروضة خارج هذه البساطات الشيئية.
يبدو ان قناعة صدر الدين أمين كانت تتجه في منجزه الأخير نحو تكريس إشارات المحيط باعتبارها أيقونات، على تنوعاتها الشكلية ومكونات أساسية في بناء العمل الفني؛ لأنه لم يكن يهدف إلى استضافة (المرجع) ليستنسخه بأية درجة كانت من التفاصيل على سطح اللوحة؛ فنسخ الشكل لم يكن من أهدافه بل “ترجمة الإدراك فنياً، أي تدمير المحيط نفسه لصالح ولادته الجديدة على سطوح التصوير”، وهو وعي يضمن تحرر منجزه المتحقق من خلال تشفير وتحوير أشكال المرئيات، فهو بالمقابل يؤسس نظاما تحكمه قوانين اللوحة أكثر مما تحكمه قوانين الواقع، فلم يكن يكترث لأية مركزية شكلية؛ فهو لا يحاول ان يقنن تدفق الأشكال الذي ينهي أية فاعلية للقوانين الاقليدية للمكان، ورغم ان صدر الدين أمين كان ينشئ نصا دونما مركز إلا انه حينما يترك كائناته تسيح على سطح اللوحة دونما ضوابط كان يدرّع أشكالها (البسيطة) فكانت تحاول عزل نفسها شكليا لتتخذ شكل (خلايا) مغلفة بجدار سميك أسود مغلق يعزلها عن العالم الخارجي المليء بالكائنات الأخرى التي ربما كانت تتصف بالعدائية، وبقدرتها على التهام بعضها بعضاً دون وجود ذلك الجدار، ربما هو إجراء دفاعي من الرسام ذاته بهدف تحصين أشكاله وعزلها قيميا من خلال عزلها شكليا عن المحيط، خوف ضياعها في هذا الخضم الهائل من الأشكال السابحة على سطح اللوحة كما تسبح الحجيرات في سائل موضوع تحت المعاينة المجهرية، انه حقل مترامي الأطراف من أشكال مشخصة تؤكد نزوعها والأدق تؤكد نزوع الشكل نحو أزله العلاماتي، الأشد بساطة من الناحية الشكلية والذي يختزلها إلى نظام بعدي هو بشكل ما نظام أقل من بعدين، نظام يتجاوز الخط (كبعد واحد) ولكنه لا يصل إلي حالة التشكل فهو محاولة للعودة إلي الوجود الجيني للشكل أو (الوجود الحجيري) لشكل الكائنات فلا يعدو ان يكون شكل الطير هنا أكثر من شكل يشبه حرف (ي)، ولا تكون الشمس إلا دائرة يخرج منها الضوء بشكل خطوط قصيرة تستقر على محيطها وهكذا.
إن الانقطاع الواقع بين أشكال الرسام صدر الدين يجعلها تقصر فن الرسم على انطباعات بصرية مفردة، تحقق وحدة واندماجا يستحيل أن يحققها الأدب القادر على تحقيق تتابعات حكائية وبذلك ينتهي البعد الاستطرادي والبنية الخطية، فلا وجود لذلك النظام الأرسطوطاليسي في التتابع عند بناء اللوحة في هذه التجربة إنها بنية متشظية لا مركز لها حيث تتناثر الأشكال فيها لتملأ سطح الفراغ، ملونة ومحاطة بخط (حقيقي) سميك أسود، وكأننا أمام نص تعويذة تعود إلي أبجدية صورية غائرة في القدم، أمام نصوص لا يمكن فك معانيها لافتقارنا إلى معرفة قواعد أبجديتها، أو أمام صور رسمها عقل طفولي لم تلوثه الحضارة باكتشافاتها ومعارفها، فلم يزل يرسم بأسلوب (عين الطائر) حيث تظهر كل الموجودات معاً دون أن يحجب أي منها الآخر، وخلال منظور ذي بعدين تتخذ فيه الأشكال ما يرغبه الرسام او ما يفكر فيه لا ما يراه وهو الجوهر الذي بدأ به الرسم تاريخه وانتهى إليه.
تتواشج بنيتا اللون (=المادة)، والأشكال المنعزلة، والتقنيات المادية، في جوهر اللوحة التي يرسمها صدر الدين أمين، فرغم اتخاذ كل شكل وحدة قائمة بذاتها، إلا أن تواشجاً قد نشأ بينها وبين (السائل) الذي تسبح فيه وهو ما يمنحها وحدة شكلية نصية صورية دوّنها آلافٌ من البشر الذين مرّوا أمام كهف الرسام فسجلوا علاماتهم؛ وبذلك كانت أعمال الرسام مقاطع من جدران عشرات الكهوف الملونة بألوان زاهية ذات روح طفولية تلقي بظلالها على منجزه من الناحية التقنية أيضا.
يمتلك الفنان صدر الدين وعياً شكليا يمتلكه القليلون، وعيا جوهريا في تأسيس فهم فن الرسم على بنية (مكانية ــ صورية) أي طوبولوجية، وعيا بصريا جمع في ثنايا ذاكرته ذخيرة ضخمة من أشكال (عناصر) المحيط القابلة للاستيعاب، وتكوين الصورة وفق عملية انتقائية داخلية تخضع لعملية تحولية من الأسلبة الملازمة لكل حركات الفن باتجاه تكريس وجود الموضوعة الدالة التي تنطوي على الجوهر الشكلي الكامن في قلب الرؤية حيث ظل ذلك الجوهر كامنا رغم كل التحولات التي تبدو وكأنها ستنال من وجوده.
ان بساطة العناصر البنائية (العناصر الشيئية) للوحة صدر الدين أمين: الشكل والمادة والتقنية تذوب في (نسق قيمي)، هذه العناصر الثلاثة من خلال تواشجها مع بعضها دونما انفكاك، ودونما قواعد مفروضة خارج هذه البساطات الشيئية، تشكّل الطابع الأهم الذي يسم تجربة هذا الرسام بأنه رسام بدائي او فطري او برأينا فنان (خارج النسق الثقافي) لفن الرسم (the outsider art).