الأربعاء، 18 نوفمبر 2009

المعرض الجماعي لجمعية التشكيليين في البصرة

الواقع وشيئية الرسم







خالد خضير الصالحي


1



منذ عقدين مضيا، وتحديدا منذ اندلاع حرب الخليج الأولى خبت جذوة معارض الفن التشكيلي في محافظة البصرة في زحمة انشغالات الناس بالحروب ونتائجها الكارثية، ولم تزل تلك الحالة لم تتغير حتى هذه اللحظة إلا بشكل طفيف حيث تقيم المؤسسات (الثقافية) معارض سنوية تعلن فيها إنها لم تزل موجودة، وكان المعرض الاخير لجمعية التشكيليين في البصرة واحدا من تلك المعارض التي تقام كل عام وتكون مفتوحة يشارك فيها الجميع... إلا ان ما يبدو سمة أساسية لكل المعارض التشكيلية في البصرة هو غياب التجارب الاستثنائية التي كانت تخترق المشهد الثقافي التشكيلي كما اخترقته من خلال تجارب محمد مهر الدين وعلي طالب وفيصل لعيبي وعفيفة لعيبي ومحمد راضي عبد الله وعجيل مزهر وآخرين قد لا نتذكر أسماءهم الآن... ؛وذلك راجع، بصورة عامة، إلى ضعف الثقافة البَصَرية وضعف تعامل الفنانين مع مادتهم رغم ان الفن، في حقيقته النهائية، حوار بين المبدع ومادة العمل الفني.

2

مع اعترافنا بان النقد اليوم ليست من مهماته لا توزيع الوصايا ولا التقييم المعياري للمنجز المعروض، فان أول ما استوقفنا في المعرض التشكيلي هذا العام كان عنوان المعرض (الفن الآن والحلم الثقافي) الذي بدا لنا انه يصلح عنوانا لملتقى بحثي حول الفن والثقافة أكثر مما يصلح عنوانا لمعرض فني، فهو يفتقر، على الأقل، لتلك الشاعرية التي تبدو عليها عناوين معارض الفن التشكيلي.

3

ان كل (النقائص) سواء في الوضع الثقافي، او في الوضع التشكيلي، لا تبيح لنا، كما لا تبيح لغيرنا، بأن نغفل الوجه الآخر للعملة في تلمّس أهمية أي معرض في تحريك الوضع الثقافي في محافظة البصرة، ذلك الوضع الذي لا يبدو فيه اعتبار البصرة (عاصمة) للثقافة العراقية إلا إجراء شكليا لا يخدش حتى سطح الثقافة في هذه المحافظة خدشا صغيرا غير محسوس، فهو كأي فعالية (فوقية) ترعاها (الحكومة) تبقى غارقة في وحل الإعلام والدعاية التي وقعت فيها فعاليات كثيرة بشكل أوضح الأهداف اللاثقافية للأطراف القائمة عليها حتى قبل بدايتها، وبشكل يؤكد حاجة المحافظة الى تاسيس بنية تحتية ثقافية راسخة اكثر من اقامة فعاليات فوقية تنتهي بانتهاء مناسبتها.

لقد تنوعت أساليب المشاركين في معرض جمعية التشكيليين العراقيين المرافق إلا أننا يمكن ان نتلمس بعض المتجهات الأسلوبية فيه:

4

غالبا ما يتجه الرسامون الأكاديميون نحو معالجة الرسم التشخيصي معالجة أكاديمية تضع قضية اللون والاشتغال التقني للون والحفاظ على قوانين الشكل الأكاديمي (التشريح والمنظور) باعتبارها روح الرسم عن الواقع، ومن هؤلاء خليل كاظم الذي يعتني بمعالجة المشخصات من خلال تكنيك أكاديمي عال واهتمام بقوانين التشريح والتقنية اللونية، إلا ان أسامة حمدي يتجه بتلك القضية صوب اختزال التفاصيل وحذف الزوائد لينغمر الشكل في غمامة اللون التي تكتسح أجواء اللوحة، بينما يتجه احمد شاكر فيها صوب التجريد الذي لا يتجاوز خطوطه الحمراء التي يختفي الشكل عندها، فيما يتخلى جاسم الفضل عن جزء من اشتراطات الرسم الأكاديمي حينما بدأ بالفترة الأخيرة التخلي عن بعض قوانين الشكل الأكاديمي ليتصرف بقوانين التشريح وقوانين المنظور بحرية لصالح توظيف طاقة اللون وشفافيته الكبيرة وهو الخبير بهذا النمط من الرسم وتقنياته، لكن جاسم الفضل مازالت تهيمن عليه الرغبة في معاملة الرسم باعتباره نمط تعبير اتصالي حتى انه يضع أحيانا كلمات لتشكل (نصا) يخضع للقراءة اللغوية وقوانينها أكثر مما يخضع لقوانين الرسم، بينما يتجه حامد مهدي وجهة مناقضة لذلك فهو يخلق أجواء حلمية تتناثر فيها أشكال مشخصة تؤسس شاعرية اللون والغرابة التشريحية للأشكال أحيانا. وبذلك يجري حامد مهدي إزاحته التعبيرية في الشكل بينما يحافظ على انطباعية ألوانه ودفقها الوهاج الذي يملا اللوحة، ويصل عدنان عبد سلمان بحدود نزعته التقليلية إلى أقصى مدياتها، فهذا الرسام الأكاديمي الانطباعي المتمكن قد وصل بالشكل إلى اقل قدر ممكن من الخطوط التي تفصح عن المشخص كما انه تخلى عن باليتة ألوانه فلم يضع فيها إلا لون الصدأ ومشتقاته، بينما يحاول حسن فالح ان يوظف قيم الرسم الأكاديمي وشاعري اللون وشفافيته في بناء مناظر خلوية وسحنات دافئة ومنسجمة لونيا، وتمنحه رشا هاشم وطه الشاوي وعلي مهدي ومحمد عبد الله سمات محلية بصْرية تنتمي لقرى أبي الخصيب ونخيلها ممزوجة بواقعية مشبعة برائحة السحر، بينما يعامل آخرون المناظر الخلوية باعتبارها تجربة لوضع اللون على سطح اللوحة من خلال قدرتهم التقنية في معالجة الألوان ومنهم: احمد شاكر، أسامة حمدي، حسن فالح، علي القريشي، علي الهاشمي، محمد عبد الرزاق، مقدام الزبيدي، ناصر سماري، نورس عدنان.

5

يعتمد بعض الرسامين على طاقة اللون التعبيرية دونما حاجة إلى المشخص من خلال تفجير طاقة اللون التعبيرية من خلال غمامة تنبثق من ظلام الخلفية قافزة بقوة نحو عين المتلقي حيث يعتمد أسامة نوري على طاقة بعض الألوان كالضربة الحمراء التي تحتل غالبا مركز اللوحة، بينما يعتمد حامد سعيد إلى الانسجام اللوني للمساحات التي يشتغلها بعناية، بينما يخلق حسين عبد علي ومصطفى عبد الكريم ما يشبه الفورة اللونية قاسية الحواف بما تضم داخلها من أشكال هندسية قاسية الحواف، ويحاول صبري المالكي الحصول على لون ذي ملمس حيث يشكل اللون خطوطا ومساحات ناتئة، فيما تتراءى أشكال المشخصات أشباحا غائرة في ضباب الألوان التي تغمر المشهد في لوحات صبيح البدري وهي أجواء اشتغل عليها سابقا سلمان البصري وكامل حسين بدرجات متفاوتة من النجاح، ويرسم طاهر حبيب لوحته بألوان الزيت بينما ترتدي مادته لبوس مادة الباستيل التي خبرها جيدا وأقام فيها معارض عديدة، ويهندس عائد الأنصاري لوحته ببناء هندسي تتحول اللوحة فيه إلى ما يشبه السجادة المنسوجة بعناية شديدة وفق مخطط أولي هندسي صارم، ولا يكتفي عبد الكريم الدوسري بأشكاله (=ألوانه) التجريدية فقط، بل يضيف لها شكلا مشخصا ربما رغبة منه في الارتباط بالواقع باعتبار الفن في النهاية ليس إلا شكل تعبير عن ذلك الواقع، وتختفي الألوان الكابية من تجربة عبد الملك عاشور وتحل محلها ضربات اللون الزاهية تتناثر فوق شخوصه المبثوثة على مساحة اللوحة بمتجه يرتفع إلى أعالي اللوحة، وهو ما تفعله الوان نور عبد الكريم التي تومئ باشكال مشخصة ترتفع إلى الأعلى.

6

تطفو الألوان في تجربة احمد حسين على سطح اللوحة مستقلة بعضها عن البعض الآخر ومتجاورة بما يشبه التشاكل الصوري.. حيث يمنح كل لون اللون المجاور له من عندياته عبقا فتختلط التأثيرات اللونية خالقة أرضية (منسوجة) بعناية من ألوان شتى، ويتخلى عيسى عبد الله عن هيمنة الخط السابقة على أعماله فتحل محل ذلك حرية معالجة لونية يحاول من خلالها إعادة تأسيس أسلوبه في الرسم، وقد خبر فؤاد هويرف سوق الفن وتعرّف من خلال مشاركاته في المعارض الجماعية في بغداد وعمان آخر موضات الفن العراقي في الوقت الحاضر، حيث تندمج القيم الكاليغرافية مع بنية اللوحة حيث صلابة الخط ممثلة بطراوة اللون، ويعامل قيس عبد الله اللون بقيم زخرفية عندما تتدخل الألوان وتفترق بموجب خرائط الرسم التي تخلقها مادة الاكريليك، ويوظف مرتضى السلمان حريته باستخدام اللون استخداما تعبيريا يبتدئ من الفنان نحو اللوحة لتنتصر الرؤية الحلمية للرسام على قوانين الواقع و (قوانين) الرسم معا، وتنتصر في النهاية الضربات الحرة التي يضعها وهاب رزوقي على سطح اللوحة الذي يشتغله برفق ودونما انفعال لتأتي تلك الضربات كمؤثر درامي.

7

يبني العديد من الرسامين مدنا ملونة شبيها لما كان يفعله نوري الراوي وهاشم حنون وغيرهما من الرسامين وذلك من خلال معمار مشيد من بقع اللون والإشارات وهي بقع تبدو مستقلة عن بعضها ، ومن هؤلاء: أزهر داخل، وهشام البطاط، وحسن عبد الشهيد الذي يعتمد كثافة عجينة اللون المسطح، ويقدم مهدي الحلفي لوحة هي مزيج من الإشارات التي يهندس منها مهدي الحلفي مدنه اللونية الدافقة بالسحر..

8



يلعب تفجير الطاقة اللونية في تجربة احمد شاكر من خلال اختزال الموضوع التشخيصي إلى اقل ما يمكن من الضربات اللونية التي تحافظ على جوهر الموضوع، فيكون التأثيرات المتضافرة للمساحات اللونية قادرة على تقديم إحساس بالموضوع التشخيصي من خلال التجاور الجغرافي لتلك المساحات، بينما يقدم رائد حسن ذلك الواقع منظرا خلويا ذا ملامح حلمية تذكّر بأجواء السورياليين الحلمية، وكان علي الاسدي رساما تعبيريا يمارس الرسم بضربات لونية قوية حرة وأشكال لا تقل حرية عن ذلك، بينما يواصل علي عاشور تجاربه على كائنه الذي تضيع ملامحه وسط نثار الألوان التي تتطاير متجهة نحو مناطق قصية خالقة حركة تعطي العمل أجواء درامية وحركة لونية ملموسة.

9

تتجه إعمال بان إبراهيم بالفن السوريالي نحو متجهات تجريدية من خلال استخدام تقنية المفروكات التي وظفها عدد من الرسامين السوريا ليين لتحفيز دهن المتلقي على إكمال فراغات الأشكال وخلق أشكال ذهنية بتأثير مستحثات سطح اللوحة من خلال فورة لونية تكتسح سطح اللوحة من أسفلها وكأنها أشكال الانفجارات التي تنطلق من كتلة الشمس الملتهبة، او ربما من بركان مستعر يلقي حممه بقوة نحو السماء، بينما يتجه تحرير علي صوب توظيف أجواء الحلم الضبابية والتكنيك الذي يمنح الموضوع صلابة وملموسية، وتتجه الطبيعة الصامتة لرحاب الحلو إلى مادة أخرى لا تمت إلى تلك الأجواء بصلة بانتمائها إلى عالم أحلام غريب ومربك، ويتسيد اللونُ أجواء عبد الصاحب البغدادي من خلال فوضى فوران الأشكال التي يتعامل الرسام معها بحرية واضحة، وتخلق الأشكال الزخرفية لعلي البصري أجواء أحلام غريبة ومقلقة فهي تومئ بشبه قصيّ لأشكال الواقع،

10

مازالت طاقة الرسم، ونقصد بالرسم هنا تحديدا المعنى الكاليغرافي الخطي، أرضا بكرا لم تستنفد كل مدياتها التعبيرية، وتحتفظ بقدرته على معالجة موضوعات شتى، فقد قدّم قسم من الرسامين إعمال رسم يلعب فيها العنصر الأكثر أهمية في تحديد الأشكال وردم الفراغات وخلق الإحساس بالموضوع ومن هؤلاء احمد زكي الذي بدا أكثر التصاقا بهموم الكائن الذي يرسمه خاضعا لشتى ضروب التجارب المؤلمة التي يفرضها الواقع عليه، ومحمد محيي الذي يحاول إنتاج لوحة تأثيرية بالقلم الخشبي بدل ألوان الزيت.

11

إبراهيم الخليفة يحاول خلق أجواء حلمية كأجواء علي طالب إلا ان لوحته تحنّ إلى المشخص باعتباره البلورة التي ينبني عليها الواقع الذي تفترضه اللوحة، فتجد في حومة هذه الغمامة اللونية الحالمة هنالك إشارات الى الواقع في كيان اللوحة طافية فوق تلك الخلفية المحايدة.

12

تتخذ العديد من الرسامات المرأة موضوعا لهن مع اختلافهن بالمعالجة، ومن هؤلاء الرسامات: رنا الدربندي وسفانة عذبي ووسام فارس والنحاتتان: علا محمود وشاكر ياسين.

13

تتحول اللوحة المؤسسة على طاقة اللون التعبيرية عند كامل الشمري إلى ألوان متحركة جيئة وذهابا لتشكل نمطا من فن الاوب دونما هندسة قاتلو كتلك التي يستخدمها فنانو الاوب التقليديون، وتتحول بيد نبيل شاكر إلى مدن مكعبة ملونة.

14

قدم عدد من الفنانين أعمالا يبلغ فيها ما يسميه فاروق يوسف موت الرسم درجة عالية من التحقق من خلال استخدام المواد الجاهزة (الردي ميد) في اللوحة وبذلك يؤكدون على انمحاء الحدود الصارمة بين ما يصلح ان يكون مادة للفن وبين ما لا يصلح، ومنهم: حسين ماجد، وعقيل الشاروح، ومحسن علي.

15

تقدم رجاء الحبيب أجواء تقترب من أجواء الرسامين الفطريين من خلال التقنية والأشكال معا، بينما تحاول رولا عبد الله إعادة الحياة إلى أسلوب تنقيطي بسمات فطرية دونما تلك الرؤية التي انبثق من اجل تحقيقها ذلك الاسلوب في الحركة الانطباعية،

16

لا يرتبط النحت عند احمد السعد بالشكل الإنساني فقط بل وبالقيم الإنسانية بشدة حيث يكون ذلك الجسد في النحت بمثابة الأيقونة التي تلتقي فيها، وتنطلق منها كل الموضوعات الإنسانية، وهي التي تشد فن النحت إلى ان يكون فنا ارضيا بالدرجة الأساس، وينحت علي الكناني الإنسان في محنته من خلال ما يضيفه إلى المنحوتة من إضافات تخدم دراما العمل النحتي، وهو ما تحقق في إعمال فاضل عبد الله حينما كان ينحت بروح المادة لا بمادتها، حيث تكون المادة موضوعا، ويكون الجسد الإنساني مناسبة لاشتغال المادة، إنها شيئية النحت ممثلة بصلابة المادة وملموسيتها و(صلابة) الفراغ الطفيف وملموسيته هو الآخر، ويحول الجسد البشري المشغول بالخشب الى طوطم تلفه الغرابة بتلك المادة التي فتنت شعوبا كثيرة وأسست عليها فنون عالمية كالفن الزنجي من خلال الطواطم والأقنعة، وهو ما نتلمسه في تجربة النحات نوري ناصر التي هي حشود من الطواطم والأقنعة التي تتلبسها روح الشجرة. أما النحات ماجد عباس فيعود الى النحت الرافديني القديم لإنتاج نصُب يمكن تكبيرها لتحتل إحدى جداريات الساحات العامة.


17

ينقطع الفخار بين يدي سمية البغدادي ومي المظفر عن نفعيته ليدخل باب الرؤية الجمالية؛ لإيمانها بان الطين مادة أولى أكثر بساطة وتجريدية.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق