الثلاثاء، 12 أغسطس 2008




هاشم تايه مرة أخرى


تنافـــــذ
البساطــــــة والقـــــــــــــــوة
في التكويــــــــــــــــن الخطــــــــــــــــي


هاشم تايه ، هو غير هاشم حنون ولكنهما معا من البصرة ، رسام متعفف ، لا يحب الشهرة ، بل قل لا يسعى إليها ، فجلّ ما يطمح إليه هو ان يعبر بالرسم ، وهذه عنده رسالة لا قبلها و لا بعدها ! ، كتبت عنه ثلاث مرات سابقة ، ولكني أجد نفسي مدفوعا للكتابة عنه رابعة ، فأن مرور الوقت يكشف للمتابع الأركولوجي طبقات خفية ، طبقة بعد أخرى ، وكل واحدة منها تقود مجرى الكتابة تجاه مسرب جديد آخر ، وبشكل يمكن الإدعاء معه ان تجربة متعددة الطبقات لابد وأن تتيح إمكانية كتابة متعددة المسارب.
في كل كتاباتي السابقة كنت أحاول ان اعكس توجها طوبولوجيا في دراسة التجارب الفنية التي تناولتها ، فكنت أحاول ان أضع دراسة التكوين (= البنية) هدفا لي ، وهو ما حاولته ، في دراستي هنا لأعمال الرسام هاشم تايه ، والتي سوف تقتصر على تلك الأعمال ذات البنية الكاليغرافية ، وهي قد تكون أعمالا بالألوان الزيتية ، ولكن بنيتها تتخندق مع الأعمال التخطيطية ، وكأن اللون فيها لم يتنافذ كفاية مع بناء اللوحة ، فبقيت بنيتها كاليغرافية تشي وكأنها تخطيط تمت إضافة اللون إليه ، في مرحلة لاحقة فلم تغير تلك الإضافة على طبيعة العمل شيئا ، وبذلك فنحن نعاملها وكأنها لوحة تخطيطية من وجهة النظر الطوبولوجية ، وسوف نقصر اهتمامنا على تكوينها الشكلي الكاليغرافي ، مع بعض الإهمال لمتيرياليتها ، وهذه الملاحظة الأخيرة لا تصح على الأعمال التخطيطية بالحبر الصيني ، فأن تناولنا لها يتضمن (المتيرياليتي) كون الخط الأسود هو الذي يبني اللوحة وحيدا ، فيغلق الأشكال ، ويردم الفراغان ويقوم بكل المهمات .
يقيم الرسام (= المخطِّـط هنا) هاشم تايه أعماله على تنافذ استعاري بين مستويي العمل لديه : البساطة و القوة ، والبساطة تعني ببساطة التخلص من الشوائب الزائدة في الشكل ، وهو توجه تقليلي يحاول الاكتفاء بأقل قدر من الخطوط الضرورية لبناء الشكل ، تماما مثلما استخلص (بيكاسو زبدة كتاب براساي المسمى (أشكال خطوطية جداريه Graffiti ) في فصل (ولادة الوجه) وهي تجميع لصور فوتوغرافية لوجوه نفّـذت من ثقبين أو ثلاثة ثقوب في جدار ، وقد درس بيكاسو هذه التخطيطات باهتمام بالغ وعلق بأنه كان يعمل وجوها كهذه ، وأن ثقبين هما رمز للوجه الإنساني ، وهو ما يكفي لأبرازه من غير تجسيد بهذه الوسائل البسيطة ، وكذلك أنجز بيكاسو تخطيطات لم تكلفه سوى خط خارجي وحيد كاف لأبراز كثافة وامتلاء الجسد الإنساني ، وهذا هو ما فعله هاشم تايه تماما ، فكما يصنع الصغار الوجه الإنساني من كلمة (ملح) التي يمطون نهاية الحاء لتشكل دائرة تلتف حول الميم لتلتقي مع رأس اللام ، فقد كان يطلق حركة نقطة (من مكان مجهول من الشكل) خط يصنع أشكالا طوبولوجيا مغلقة، ينتهي من حيث يبتدئ ، يحيط الشكل ، فيصنع بذلك شكلا مغلقا معزولا ، بالخط الخارجي عن بياض الورقة المحيط به ، تماما كما كان يصنع العراقيون القدامى جدارا محيطا لمعابدهم بهدف المحافظة على قداستها بعزلها عن المحيط الخارجي ، وكانوا يسمون ذلك الجدار كيسو ، خط لا بداية له هنا ولا نهاية ، يبتدئ من أية نقطة وفيها ينتهي لصنع أشكاله المغلقة ، خط لا انقطاع فيه ، ولا وجود لتعاقب ارسطوطاليسي من البداية مرورا بالوسط وانتهاء بالنهاية ، هو زمن متعاقب مستمر ابدي لا ينتهي ، فلا وجود إذن لزمان يمكن ان نؤرخ له بتحرك النقطة ، وكأنما انهت الحركة الدائرية للنقطة البعد الزماني الذي يستوجب تسجيلا للتطور الخطي.
يتجسد البعد الآخر للتكوين (= القوة) في جرأة الخط ، أو جرأة النقطة التي يبدو أنها تعرف مسبقا خط سيرها ، لذا تترك أثرا لها خطا قويا محفورا على بياض الورقة ، يمتلك حدة واضحة ، خط يمتلك ثقة ومقدرة على فصل مساحتين من نفس اللون (=الأبيض) ، لذا فهو خط حقيقي يختلف عن المحيطات الكفافية الوهمية التي تفصل مساحتين لونيتين مختلفتين عن بعضهما ، وذلك راجع الى ان التكوين الخطي تصنعه خطوط حقيقية (محفورة) على بياض الورقة يصنعها المداد الأسود الفاحم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق