الاثنين، 11 أغسطس 2008

هيمنة خطاب عصر النهضة العربية على الفن التشكيلي





هيمنة خطاب عصر النهضة العربية

على الفن التشكيلي العراقي ..


كانت الإشكالية الحضارية لعصر النهضة العربية والخطاب الذي تمخض عنها قد اعتمدت (على معادلة طرفاها: التراث العربي الإسلامي، من جهة، والتراث الأوربي الغربي الذي تم تركيزه في الكشوفات العلمية وثمارها التكنولوجية من جهة أخرى.. وكان التوفيق بين طرفي هذه المعادلة هو أساس مشروع النهضة العربية) إلا أن النتيجة النهائية التي ترسبت هي تبلور خطاب عصر النهضة في موقف تعامل نفعي مع (الآخر) ، تعامل (يفصل بين التكنولوجيا وبين الفكر الذي أنتجها، فيكتفي باستيراد التكنولوجيا لاعنا أساسها العلمي) ، وتضمّـن شكل الموقف من الآخر تناقضا فاضحا باعتباره (غازيا) و(معلما) في الوقت ذاته: غازيا فيما يتعلق بالمستوى الفكري، ومعلّـما فيما يتعلق بالمستوى العلمي أو بصفة أدق المستوى التكنولوجي . فتولد حيال ذلك (موقف) هو رد فعل يرفض (الغزو الفكري) ، ويتقبل المخترعات العلمية وما يتعلق بها من معارف.





جماعة بغداد وادلجة الفنون التشكيلية
لقد انسحب هذا الموقف الأيديولوجي على كل المجالات الإبداعية في الثقافة العربية التي سعى الخطاب الرسمي الى تطويعها وتذويبها باعتبارها جزءا من آليته ، فكان الشعر العربي مطواعا ، اكثر من غيره بسبب بنيته الأيديولوجية اللغوية أساسا ، ولكنه مع ذلك تقبّل بعض التغييرات الأوروبية، بتحوله نحو توليفة تجمع الشعر الحر الأوربي وجزء من العروض الخليلي أي نظام التفعيلة ولكن دون الشطرين والقافية ، وهو الشكل المعروف في نماذج السياب ونازك الملائكة وغيرهما . وكما خضع الشكل لمبدا الموازنة بين التراث والمعاصرة خضعت اغراضه الحديثة كذلك. وتم تغيير بنية الحكاية التقليدية الى قصة قصيرة و رواية ولو بشكلها الاجتماعي الفج.



الفن التشكيلي و الأدلجة
لقد كانت الفنون التشكيلية ومنها فن الرسم ، مجالا عصيا على الانضواء تحت خيمة الأيديولوجي وذلك بسبب بنيته غير اللغوية وبالتالي العصية على الأدلجة أولا ، وثانيا بسبب التغيرات الجوهرية والدرامية المتسارعة التي إصابته في أوربا خلال فترة وجيزة عادلت قرونا من التحولات ، وهو ما جعله عسيرا على الهضم من قبل الكثيرين وقتذاك. يشرح شاكر حسن آل سعيد الظروف الأيديولوجمالية التي كانت تستند عليها جماعة بغداد للفن الحديث ، ويستند عليها الفنانون العائدون لتوّهم من أوربا ، بعد ان كانوا قد درسوا الفن هناك ، فيقول "تبلورت الأجواء ، ونضجت ... مسؤولية التعبير بالرسم على غرار ما كان يحدث بالشعر العربي الحديث ، ما حدث للشعر سيحدث للفن مع (جماعة بغداد للفن الحديث) بعد ان نضجت فكرة تأسيسها بين عامي 1950 و 1951… كنا نريد ان نوضح للفنان العراقي عامة ، ولأنفسنا كجماعة فنية خاصة ، بأن استلهامنا للتراث في الفن هو المنطلق الأساسي للوصول بأساليب حديثة إلى الرؤية الحضارية" ويواصل تحديد الهدف بدقة بأنه (التعبير المحلي بتقنية حديثة) وشاكر حسن هو الصوت الأهم في كتابة البيان التاسيسي للجماعة.
لقد بنت الإشكالية الحضارية لعصر النهضة خطابها في حقل الإبداع التشكيلي على نفس الموضوعة أي المحافظة على الموازنة المقدسة بين التراث والمعاصرة ، فتم قبول الجانب التكنولوجي ، حيث شروط اللوحة المسندية ، والألوان الزيتية التي تصنع ، حتى وقتنا الحاضر، في أوربا، فكان ذلك سببا لحل الارتباط بين صفات الرسام ـ المزوق ـ الخطاط ، في نفس الوقت ، لصالح الرسام المتخصص في تكنيك الرسم بالألوان الزيتية بصفة أساس ، بينما تم رفض كم كبير من معطيات الحداثة في الفن التشكيلي والتي قد تشكل خطرا على التراث تطبيقا وتنظيرا.



التوازن المقدس
ان أهم معضلة واجهت الرعيل الأول من دارسي الفن في أوربا هو : كيف نجد سبيلنا الذي يضمن إمكانية المحافظة على التوازن بين التراث والمعاصرة ؟ ، وهما قيمتان غير جماليتين، و بعد ان حققت المعاصرة أولى خطواتها بقبول شروط (تكنولوجيا) اللوحة المسندية والألوان الزيتية وبعض من الرؤى التعبيرية التجريدية فلم تكن خطيرة ، حيث لم تكن تتعدى حدودها لتصل الى حد المساس بالشكل التشخيصي العربي الإسلامي في نماذجه النمطية كالواسطي مثلا .



جواد سليم راس الحربة
لقد واجه جواد سليم هذه المعضلة في الميدان التطبيقي ( بينما تولى غيره مشاكلها التنظيرية) فوجد نفسه أمام مشكلتين : كونه (رساما ـ نحاتا) في الوقت ذاته ، الأمر الذي ألقى عليه أعباء إضافية لم يتعرض لها الآخرون الذين تخصصوا في أحد الفنين دون الآخر ، ففي فن الرسم تم الحل بالعودة إلى الواسطي مخلوطا بتأثيرات من بيكاسو و ماتيس (لوحات : لورنا ، طفلان يأكلان الرقي ، حكاية تتضمن مكر النساء وان كيدهن عظيم … بينما استعصم عليه الأمر في النحت ، أولا بسبب الافتقار إلى نموذج عربي إسلامي للنحت ، مما جعل نحاتا مهما مثل محمود مختار ، في مصر ، يتخلى عن إيجاد حل لهذه المعضلة والاتجاه إلى مزاوجة أساليب النحت لعصر النهضة الأوربية وعصوره القديمة مع بعض سمات النحت الفرعونية ، بينما كانت المعضلة عند جواد سليم اشد تعقيدا ، فقد كان فهمه للتراث لا يتعدى تحقيق السمات المحلية بمعانيها الضيقة التي تعني الأجواء البغدادية‍‍‍‍‍‍‍ ‍‍‍‍! ، وهو أمر عسير بما فيه الكفاية. لقد كانت سطوة النحات الإنجليزي هنري مور عليه طاغية حينما لم يكن يرغب في نسخ الواقع في النحت المجسم (منحوتات الأمومة مثلا) ، لذا توجب عليه (إدخال) الواسطي إلى النحت ‍‍! لكن الحل كان بمنتهى السذاجة أحيانا ولم يكن يتعدى اكثر من الاكتفاء بإدخال شكل شبيه بالهلال ! للموازنة بين المعاصرة والتراث !! . لقد وجد جواد نفسه ، ربما أمام اصعب مهمة واجهته في حياته ، وهو يهم بإنجاز نصب الحرية ، وقد تم حلها بالتخلي عن النحت المجسم الى استخدام النحت الناتئ (الريليف) ، الذي هو برأيي مرحلة وسطى بين الرسم والنحت ، وربما بمعنى أدق (رسم بالحجر) ، أي تم حل معضلة تخص النحت بالعودة الى الرسم ، بالعودة الى الواسطي ، لقد كان اكتشاف الواسطي إذن مفتاحا سحريا لكل الحلول !!.



النصوص الأولى والهوامش
"ان آلية إنتاج الخطاب التشكيلي قد لا تختلف عن آلية إنتاج النصوص ومن ثم إنتاج المعرفة على أساس تلك النصوص ، فحينما تنبع سلطة إنتاج الخطاب التشكيلي من الواقع أي حين نعتبر الرسم تشبيها ونقلا لموجودات الواقع التي تكون بمثابة (النصوص الأولى التي تنتج على أساسها الهوامش)، عندها يبدأ الرسم بإنتاج أعمال تشبيهية فتـتسلل البنى الحكائية - وهي اعتبارات خارج جمالية وذات طبيعة أيديولوجية - وتبدأ بإزاحة البنى الجمالية" ، وقد أدى التطور الخديج وضيق الأفق و ضآلة موهبة بعض الرسامين أمام الآخر(=جواد سليم) إلى جعل خطابات الرسامين السابقين لهم إبداعيا (= جواد سليم) هي (النصوص الأولى) التي يستمدون (نصوصهم) منها ، بل أصبحت أحيانا الإطار المرجعي الوحيد مما أدى إلى إصابة المنجز التشكيلي بحالة من التناسخ الداخلي ومن ثم التماثل المدرسي العقيم للتجارب ، فقد تلقف الفنانون المعاصرون لجواد سليم حلوله جاهزة فوُلِد بذلك جيش من المقلدين الذين اتخذوا منجز جواد سليم (نصوصا أولى) ونهائية.
لقد حرص الفنانون في ذلك الوقت على إجراء تحويرات ضرورية طفيفة للمحافظة على هامش (الأسلوب الشخصي) ، فلقد طور حافظ الدروبي لنفسه توليفة من الأجواء والأزقة البغدادية مخلوطة بالتكعيبية التحليلية بأشكالها البدائية ، وكذلك فعل إسماعيل الشيخلي حين كرس نفسه لتصوير المزارات والنسوة اللواتي يفترشن الأرض مرتدين عباءاتهن ، فكان يراوح في ذلك ، مقتربا تارة من حلول جواد سليم (أشكاله) وتارة باتجاه التجريد حيث تتحول الأشكال الى ضربات لونية تحتفظ قدر الامكان بروحية المكان العراقي ، وطور كاظم حيدر حلولا كانت تعد ثورية في ذلك الوقت وشكلت نموذجا لجيل الستينيات ولكنه ، مع ذلك ، ظل أسير موضوعات التراث والبطولة التي كانت تستمد معينها من أجواء تأثيرات الخامس من حزيران وتداعياتها على الوضع العربي ، بينما ظل كثير من الرسامين يرزحون تحت وطأة منجز جواد سليم ، منهم ليس على سبيل الحصر: نزيهة سليم ، خالد الرحال، محمد غني حكمت ، وحتى نهاية حياتهم .


الارتداد الواسع
لقد عمد الرسامون ، الذين كانوا يطمحون الى امتلاك أسلوب شخصي ولم يتقبلوا فكرة اللجوء الى توليفات تتقبل جزء كبيرا من حلول (=أشكال) جواد سليم ، عمدوا الى الارتداد عن الفكرة برمتها : فقد تحول نقدا ورسما شاكر حسن آل سعيد (في نهاية الخمسينات لينحاز بصورة حازمة الى النزعة التجريدية ، لكي تتمثل خصوصا في التجريدية اللاشكلية) أو البعد الواحد ، بعد ان (… توقف قليلا في تلك السنوات أمام الفنين السومري والبابلي في لوحتي (شخصان) و (الفلاحون والقمر) أطال التوقف أمام الروح الشعبية كم تتمثل في (ألف ليلة وليلة) ليرسخ محاولاته الأسلوبية التي تجمع بين المؤثرات الحديثة في الفن الأوربي … والمؤثرات العراقية والعربية) كما يذكر شربل داغر ، وارتد فائق حسن سريعا عن محاولاته رسم الأجواء البغدادية باسلوب قريب من اجواء مدرسة بغداد، وطور لنفسه أسلوبا انطباعيا تماما وذا سمات شخصية متفردة ، من بين كل الرسامين العراقيين في رسم الطبيعة والبادية والفرسان والخيول ، ساعده في ذلك توفره على تقنية لونية عالية لم تتوفر لغيره ، بينما اتجه جميل حمودي ومديحة عمر الى ابتكار توليفة حروفية زخرفية باعتبارها (النسخة العربية) من التجريد ، وتخلى كاظم حيدر عن موضوعاته السابقة ، فشكل بذلك رأس الحربة في التحول اللاحق ، فلم يدم الأمر طويلا، فقد رفض جيل الستينات من الرسامين الطليعيين (علي طالب وصالح الجميعي و فايق حسين وغيرهم) هذه الفكرة الاتباعية ، وتبعهم ضياء العزاوي اخيرا، كما رفضوا ، وهذا هو الأمر الحاسم ، فكرة هيمنة الأيديولوجي على الرسم ، فكانوا أجرأ بما لا يقاس من نقاد الفن التشكيلي الذين ظلوا خاضعين لهيمنة الفهم الرسمي لمهمة الرسم والفن والإبداع عموما ، وشكلوا جزء من خطابه فشكلوا عقبة ابستمولوجية كبلت الرسم العراقي ردحا طويلا من الزمن .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق