الرسام العراقي سيروان
باران..
اللونُ هدفاً
خالد خضير الصالحي
"
تتميز نتاجات الفنان سيروان باران بمستوى رفيع، وبالأخص من الناحية التقنية وآلية استخدام
المساحات السطحية في اللوحة، وكيفية توزيع اللوحة بين الشخوص والكتل المتنوعة" (شيركو احمد)
1
يعد الرسام العراقي المغترب سيروان باران واحداً
من ابرز تلاميذ الرسام العراقي الراحل فائق حسن، وبالتالي يمكن اعتباره واحدا من
ابرز حراس الرسم الاكاديمي العراقي بنسخته الانطباعية التي رسّخ وجودَها فائق حسن
باعتبارها تنطوي على (المعارف) الأساسية، والمهارات الفنية الضرورية لرسامي العراق
من خريجي اكاديمية الفنون الجميلة؛ فكانت قيم الرسم الاكاديمي، التي يحرص رسامو
هذا النمط من الرسم الى التمكن منها، هي: التشريح، والمنظور، والتكنيك العالي في
التعامل مع اللون الانطباعي؛ فإذا بسيروان باران يفاجئ الكثيرين اخيرا حينما بدأ ينضم
الى موجة التحول التجريدي التي ظهرت بوضوح مع الرسم الستيني في العراق، وكانت موجةً
متجهة صوب درجات متفاوتة من التجريدية بنسختها التعبيرية التي تحاول ان تعيد النظر
بجوهر (قوانين) الرسم الاكاديمي الانطباعي؛ فكان سيروان باران؛ نتيجة لامكاناته التقنية؛
ولمعرفته بأسرار الرسم الاكاديمي، قد نجح في تحوّله هذا بدرجات متفاوتة في كل
معالجة له لواحد من قوانين الرسم الاكاديمي التي ذكرناها، وكان يحقق في كلِّ واحد
منها درجات متفاوتة من الخصوصبة والتفرد الشخصي..
2
ان
انتقالة سيروان باران من مرحلته الاكاديمية الى التعبيرية التجريدية لم تمنحه
الفرصة بعد للخلاص من باليتة الوانه الانطباعية وطزاجتها، وثرائها، وهو لم يزل
كذلك يحمل معه: احترامه لقوانين التشريح في جزء كبير من فاعليتها، وهوسه الطاغي
بسرديات اللوحة والموضوع والاحداث، ومحافظته على تجسيم المكان الذي يلائم، بوضعيته
هذه، الرسمَ الاكاديمي اكثر مما ينسجم كفاية مع الرسم التجريدي الذي وجد مسطحا
بالضرورة نتيجة لتجريد بعده الثالث غالبا كاحد المنطلقات الاساسية التي تعامل مادة
اللوحة وبضمنها اللون باعتبارها اشتغالا على سطح مستو..
لقد
انتقلت وظيفة اللون من كونه وسيلةً في الفن الانطباعي الى كونه هدفا اي (واقعة
شيئية) مادية، تشكّل جوهرَ القدرة التعبيرية للرسم التجريدي.
اتخذ
اللون عند سيروان باران، في تجاربه الأخيرة، وبالوانه الاكريليك بشكل خاص، اتخذ
خصوصية اضافية حينما شكّل متجها فاعلا في بناء (موضوع) اللوحة من خلال تحديد مشخصاتها
النهائية التي يحرص سيروان باران على ابرازها، فقد كان إنجاز لوحته يمر بثلاث
مراحل، ففي مرحلتها الاولى، تنتهي بما كان ر. روجرز (في كتابه (الشعر والرسم))، يسميه
(حقل متعرجات)، ويقصد روجرز بحقل المتعرجات هذا ان يبنى سطحُ اللوحة بطريقة فوضوية
تنطوي على محفزات شكلية، او (مشاريع) اشكال تبنيها المخيلة من الآثار التي توجدها
طوبوغرافية (جغرافية) اللون (اي البقع الداكنة والفاتحة للالوان) وهي الالية نفسها
التي اتبعها رسام الكهوف الحجرية حين كان
يكمل نتوءات سطوح الكهف ليرسم اشكال الحيوانات التي تستوطن ذاكرة رجل الكهف،
والتي تخالف احيانا كثيرة؛ منطق الاشكال التي يرسمها، بسبب النتوءات التي يفرضها
الجدار، وهي نفس الالية التي يتبعها ايضا الناظرُ في: خلق اوهامه البصرية،
و(اكتشاف) الاشكال المشخّصة في السطوح والجدران الرثة، وفي اكتشاف اشكال الحيوانات
التي تسبح داخل الغيوم التي تسوقها الرياح؛ فكانت الاشكال تنبثق من الطبقة الاولى
(الغائرة) للالوان وهي تشكّل (العماء اللوني) او (الفوضى اللونية) او (الكاسحات
اللونية) (color storm) التي يضعها باران لتحثه على انجاز المرحلة
الثانية التي تتمثل برسم خارطة تماثل مساحات المحيطات في خارطة الارض حينما تقوم
بـ(تحديد) اشكال اليابسة: القارات والجزر، وتكون تلك الخارطة باهتة اللون حيث يدخل
اللون الابيض بفاعلية في تركيبها مقارنة بطبقة (الفوضى اللونية)، وهذه الخارطة
الباهتة احادية اللون تشكّل المحيط الكفافي للاشكال، وترسم حدودَ اشكال المشخصات
وتبرز اشباح: الاشكال البشرية، والحيوانية، والمناضد، والكراسي، وهي التي تهيئ
للانتقال الى المرحلة الثالثة (الكاليغرافية الخطوطية) التي تتكون من خطوط سوداء
تبرز التفاصيل التي تشكل بقايا (البعد الثالث) المتخلف عن المرحلة الاكاديمية حيث
تبرز تلك الخطوط تفاصيل الايدي، والاصابع، والاحذية السوداء التي يرتديها الشخوص،
واشكال العيون، وتفاصيل الوجه الاخرى، وذيول الحيوانات، وارجل الكراسي، والمناضد..
وغيرها من التفاصيل التي لم تنجح الطبقةُ الثانية احادية اللون من تحديدها بشكل كاف.
3
لقد
كانت (قوانين) الرسم الاكاديمي الانطباعي كالتشريح والمنظور هي التي تحرك وتقود
توازن الاشكال في لوحات سيروان باران وكانت تقودها كذلك (منطقية) الالوان استنادا
الى وجودها في الطبيعة، بينما لا تحددها الان سوى الذائقة الشخصية للرسام فيكون
توازن الاشكال توازنا قلقا ومقلقا وغير تقليدي مطلقا..
4
يبدو
سيروان باران مغرقا بإنتاج الدلالات الايروتيكية ذات السمات الحيوانية الشاذة حيث
ينطلق حيوان الرغبة في لوحته مثل فورانات البراكين مخترقا فضاء اللوحة باحثا عن
اهداف خبيئة حتى دون وجود فاعل (آخر)، وهي فورانات غير مستعدة، بل وغير قابلة
للتدجين فلا خيار لها سوى البحث عن ذلك الاخر لالتهامه واختراقه، انها اجواء مسكونة
بالصرخات المفجوعة، ومشابهة لاجواء الرعب التي كانت تحيط بمشخصات الرسامَين الراحلَين:
ارداش كاكافيان وليزا فتاح الترك..
5
ما جلب
اهتمامي في تجارب سيروان باران في السنوات الأخيرة، بقاءُ واحدةٍ من اشارات الوفاء
للرسم الاكاديمي الانطباعي، وهي الثقة العالية بالقدرة التعبيرية للون وبالتالي الاقتصار
على امكاناته وحدها في بناء لوحته الجديدة، كذلك كانت اهم الاشارات السرية في
الوفاء للرسام فائق حسن بقاء اثار ضربة اللون الحمراء التي اشتهر بإضافتها الرسام
فائق حسن في مركز لوحته..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق