الأربعاء، 12 ديسمبر 2012

الناقد التشكيلي خالد خضير الصالحي وجلسة نقدية عن معرض منحوتات هاشم تايه



اتحاد الادباء يقيم نشاطه الثقافي في جمعية التشكيليين
الناقد التشكيلي خالد خضير الصالحي
وجلسة نقدية عن معرض منحوتات هاشم تايه


      المادة المرذولة..
                      تعبير عن وجع وسخرية



لمناسبة معرض (حياة هشة) للنحاة-الرسام هاشم تايه اقام اتحاد الادباء في البصرة وبالتعاون مع جمعية التشكيليين العراقيين في البصرة وفي مقرها جلسة نقدية للناقد خالد خضير الصالحي الذي ادار الجلسة وبمشاركة عدد من الكتاب الذين قدموا اوراقا عن تجربة ومعرض هاشم تايه؛ فابتدأ الصالحي الجلسة مرحبا بالحاضرين ومعبرا عن احتفائه بالتشكيلي هاشم تايه قائلا:  نحتفي اليومَ بواحدٍ من المبدعين متعددي الاهتمام الذين نسميهم في علمِ الشطرنج (يونفيرسل ستايل)، وهو ما يوصفُ به اللاعبونَ متعددو الامكانيات الذين يجيدونَ كلَّ اساليبِ اللعبِ على الرقعة، ونرحّلُ هذا المصطلحَ الى الحقلِ الثقافيّ لنصفَ به المبدعينَ الذين يشتغلونَ في مناطقِ (المابين) او (التخوم)، وسنسميهم (العابرين للتخصص)، ومنهم هاشم تايه (التشكيليُّ الكاتبُ الشاعرُ)، ان هذه الجلسةَ ثمرةُ تعاونٍ مثمرٍ بين اتحادِ الادباءِ في البصرةِ وجمعيةِ التشكيليين في البصرةِ في أولى الجلساتِ الثقافيةِ التي تُعقدُ في مبنى الجمعيةِ ونتمنى ان تكونَ فاتحةَ خيرٍ لها، وهو تعاونٌ مثمرٌ قد يعوّضُ جزءا من الاهمالِ والمجافاةِ المتعمَّدَةِ التي تبديها حكومتُنا تجاهَ كلِّ ما هو ثقافي، فلا تبدو مصممةً لتخدمَ أيا من الأهداف الثقافيةِ..


وقدم الصالحي عددا من ضيوف الجلسة الكتاب الذين رغبوا بالحديث عن هاشم تايه مرجئا حديثه وحديث تايه بعدهم فقدم صباح سبهان ورقة بعنوان (منفيات تفضي الى اشياء هشة) مؤكدا فيها: ان هاشم تايه يكشف عن المخبوء من تحت اقنعة الجمالي باشنفاله على انساق ومهيمنات متحررة من الاستهلاك، وبمقصدية باحثا عن المسكوت عنه عبر لغة ثرة قادر على الادهاش وقادرة على نزع الاقنعة عن الايديولوجيا واكد ان تجربة تايه تقبلتها النخبة من المتلقين وعزف عنها الجمهور العريض رغم انها تجربة خصوصية من ناحية الخامات الموظفة التي قد لا تقاوم الزمن ولكنها قادرة على اثارة شعور بالاسى فقد اضفت المادة شعورا محسوسا وقيما مضافة..
واستعرض الكاتب سردا تاريخيا للمعارض السابقة (لوحات مشوية) 1992 في قاعة المتحف الوطني في بغداد، و(منفيات هاشم تايه) في المركز الثقافي قي البصرة 2007، واخيرا هذا المعرض (حياة هشة) ولكنه اغفل عن معرض مهم للتخطيطات افامه تايه في اتحاد الادباء غي تسعينيات القرن الماضي، واسمى الالية التي استخدمها تايه في توظيف المواد المرذولة والمستخدمة بـ(ــالتغريب)
وقال بانه استخدم كثيرا من قبل الر سام ماكس ارنست.. بينما قال الشاعر حسين عبد اللطيف انه مصطلح استعير من المسرح البريختي كما قال الشاعر حسين عبد اللطيف، واقترح خالد الصالحي بان مصطلح (التشاكل الصوري) الذي اشاعه (ر. روجرز) في كتابه المهم (الشعر والرسم) اكثر ملائمة كونه من الحقل التشكيلي وغير مرحل من المسرح.


ثم قدم الكاتب احمد صحن ورقة بعنوان (دادائية بصرية برؤية جديدة) اوضح فيها ان اعمال هاشم تايه تحمل دادائية بصرية يتعذر على المتلقي فك شغراتها ورموزها الا بعد الغور في المعاني الصورية ليجد الروح التي تتحرك مستمدة طاقتها من ربط الاشياء المستخدمة واخضاعها لقواعد التشكيل خالقا بذلك تاثيرا تفاعليا ناتجا من الاشارات الصورية المنبعثة من عالم اللوحة الدادائية التي جاءت محصلة حكمة ان اللاشيء هو كل شيء، وان معرض (حياة هشة)يثير جملة استفهامات ومعان لا متناهية تدعونا لان نتلقى طيات الورق المقوى المعمولة باليد حينما قام الفنان بالجمع بينها وبين المتناقظات متحولة الى قوالب لفظية تتفاعل مع النفس وتحرك بوصلتها ضمن سياق الفن المضاد الذي يتماهى مع نسق الدادائية الاوربية، وقد شكل هاشم تايه سيميائية تحاكي الفوضى وتحاكي المهمل، ليضع فيها روحا بعد ان سلبت من قبل مستخدميها من خلال لمسات فنية بارعة، واستطاع ان يترجم روح المثقف العراقي وترسباتها، انه التمرد بعينه، فلوحاته تصرخ بصمت يخرج من جوف قنانيه الفارغة.. كما تنم المنحوتات عن هيمنة على مادتة المرذولة التي يشتغل عليها، ليحولها الى لغة كونية لتدب فيها الروح على سطح الكارتون، عاكسة حياتنا الرخوة بمادتها الهشة التي يمكن ان تطيح بها في اية لحظة.
وعقب رئيس الجلسة الصالحي على الكاتب احمد صحن ان جمع الاشياء التي يتم قسرها على الجمع لخلقة الانزياح الضروري للفن، نقلها الكاتب صحن الى مستوى جمع المواد بين حقلين (متناقضين) بعد ان فهمها الاخرون بانها تناقض جزئي بين اشياء جمعت قسرا..
ثم قدم التشكيلي عبد الرزاق الحلفي ورقة عنوانها (منحوتات هاشم تايه.. اعمال نابضة بالاسى) قال فيها: قدم هاشم تايه جهدا استثنائيا في خلق اعمال فنية من جمع النفايات واعقاب السجائر والاسلاك والخيوط والعلب الفارغة وقناني الماء المهملة، مستخدما الكولاج وعلب الكارتون، وتخلى عن ادوات الرسم التقليدية ومواده التقليدية، ففقدت الاعمالُ بريقها اللوني وكانت امتدادا للدادائية بعد الحرب العالمية الاولى كرد فعل للشعور بالفراغ ولا جدوى الحياة التي كانوا يعيشونها فكانت محاولة للخلاص من قيود المنطق الذي فقد فاعليته، فاعاد هاشم تايه واستعاد منطلقاتهم والياته للتعبير عن قسوة الحروب وجشع الانسان والافكار السلفية التي اصبحت عائقا بوجه الحياة..


ثم قدم رئيس الجلسة دراسته المعنونة (هاشم تايه.. التخومُ.. والمحرّكاتُ السرّيّةُ.. والخيالُ الماديّ) قال فيها:
كنت دائما أرى في الرسامِ والمخطّطِ والنحاتِ، والكاتبِ والصحافيِّ واللغويِّ هاشم تايه صدىً لرؤيتي لنفسي من ناحيةِ قدرتِهِ على الكمونِ في المناطقِ التي يسميها سلفرمان وبرتراند رسل (المابين) أو (التخوم)، ومع انه يتنقلُ في مناطقَ التخومِ هذه إلا أننا نجدُه، أينما حلَّ، يمتلكُ ناصيةَ مادتِهِ التي يشتغلُ عليها: ناصيةَ اللغةِ حينما يأخذُ بأعنّتِها نحو الشعرِ، ونحو الكتابةِ: النقديةِ، والصحافيةِ في ارقى مستوياتِها، وناصيةَ اللونِ وهو يطوّعُهُ على ديناميةِ الرسمِ؛ فكان ليس فقط يعيدُ اختبارَ قدرةِ الألوانِ التقليديةِ، بل ويكتشفُ من الموادِّ الجديدةِ ما لم يكنْ يتخيّلُها الآخرون قبله صالحةً للرسمِ؛ هولاء الذين تطبعتْ عقولُهم وتقولبتْ على ما هو سائدٍ من موادِّالرسم.
يقدم هاشم تايه تجربةَ نحتٍ، في معرضِهِ الأخيرِ، ولكنّه يعيدُ علينا فيه الغرائبيةَ الماديةَ ذاتَها، ويؤسسُ لقوانينَ استثنائيةٍ كان يقدّمُها الرسامون حينما يمارسونَ النحتَ نمطا إبداعيا (آخرَ)؛ ففتحوا فيهِ أبوابا لم يعد غلقُها ممكنا بعدهم..
***

يرسمُ الرسامون، وينحتُ النحاتون، ثم ينامون ملءَ جفونَهم عما يبدعون، ويحارُ النقادُ في اكتشافِ أسرارِ تجاربِ هؤلاء المبدعين وما اخفوهُ من مرجعياتِهم، ونحن نومئ هنا طبعا إلى تجربةِ هاشم تايه التي لا جدالِ في أنها تحتلُّ مكانا ضمن المشهد التشكيلي البصري، وهنا مكمنُ المفارقةِ والمحنة النقدية، كيف احتلتْ تجربةٌ مفارقة لـ(ـلانساق) المألوفةِ من الفنون التشكيلية بأنماطِها السائدةِ، تجربةٌ مفارقة بالمادةِ، والتقنياتِ، و(المابين)؛ كيف احتلتْ موقعَها ضمن الفن وهي تحمل هذا القدرَ من المفارقة؟!، وهنا تكمنُ محنتُنا، نحن المشتغلين بالنقد التشكيلي، وهنا يكمن امتحانُ (قواعِدنا) التي ربما هي ليست قواعدَ، ولكننا أوهمنا انفسنا بها، وربما أوهمنا الآخرين كذلك!.
***

كتبت عن تجربة هاشم تايه مرات عديدة فكنت أتابع متحفه (السردي_البصري) الذي يبنيه بناءً قصديا حسب (قانون) التشاكل الصوري، بجمع عناصر من الصعب جمعُها، فكان ذلك الجمعُ (القسري) يخلق الانزياحَ الاستعاري الذي هو جوهر للجمالي كما هو جوهر للشعرية، وهي الية استخدمها السورياليون: سلفادور دالي، وماكس ارنست، فيتحقق في تجربة هاشم تايه من خلال ثلاثة (قوى محركة) في تجربته هي: أولا، تواشج (القوة والبساطة) في التكوين الخطي، وثانيا، فاعلية المادة المستخدمة في كل مرحلة من مراحل تجربته، وثالثا، فاعلية المحرك السيكولوجي الذي هو محرك دلالي وان تنافذ بشكل أو باخر مع المحركات المادية، وقد وجدت ان معرضه هذا جاء تكريسا ليس فقط لمادة مضى عليه معها سنوات طويلة فكان يطورها في كل معرض جديد يقيمه، وإنما كانت أيضا تكريسا لذات المحركات السابقة.. فما زالت البنية الكاليغرافية مهيمنة على أعماله الآن كما كانت في أعمال الألوان الزيتية التي كان يرسمها سابقا، وفي التخطيطات التي مثلت السلف الأقدم لإبداعاته اللاحقة، وكانت بنيتها الشكلية (تتخندق) مع تلك الأعمال التخطيطية، بينما تتخندق الآن دلاليا بشكل خطّيّ في تشكيل سردية الموضوع، حيث يجد المتلقي نفسه مضطرا إلى تتبع (خط) سرديّ يبنيه الفنان بناء (محكما)، فيدخل السرد واضحا في بنية العمل، ويتحول الخط من طبيعته المادية إلى طبيعة سردية، فكان، فيما سبق، يغلق الأشكال، ويردم الفراغات، وهو الآن وهو يفعل ذلك يقوم بها سرديا.. 
ان المحركات السابقة لتجاربه (النحتية) مازالت فاعلة حيث: أولا، مازالت البساطة والقوة التي كان يجلها الرسام الشاعر (وليم بليك) فاعلةً هنا، فكان هاشم تايه يتبع البساطة حينما يتخلص من الشوائب الزائدة في بناء لوحته عبر (خط) سردي لا انقطاع فيه، خط ارسطوطاليسي: من البداية مرورا بالوسط وانتهاء بالنهاية، هو زمن متعاقب، مستمر.
ثانيا، مازالت المقاربة السيكولوجية صالحة كمقاربة حيث تؤكد شخصياته بانها ترميزات لمظاهر داخلية من شخصية الرسام مشفّرة عبر كائنات متعددة، ومتناقضة في مواقفها، يبثها بشكل يغطي مساحة العمل.. يستلها من مستوى غائر، مطمور في أعماق النفس الإنسانية، ما يجعل كل ما يقال عنها محض افتراضات قد تكون أوهمتنا، أو أوهمنا أنفسنا بها، لكن لا ضير، ما دامت تفتح لنا مسرباً مضيئاً لهذه التجربة.
ثالثا، ظلت (سلطة المادة) الجوهر الأكثر فاعلية في  تجربة هاشم تايه؛ فقد كان هذا الرسام قد تخلى عن مواده التقليدية: الحبر الصيني ،والألوان، وتخلى عن الأدوات التقليدية: ريشة الحبر الصيني، وفرشاة الرسم، وأقلام الحبر الجاف الملون، ولكنه واصل الاشتغال على الخامات اللونية الاستثنائية التي تذكرنا بتجربة الألوان العطارية (=النباتية) التي كان يجمّعها من مصادر نباتية متنوعة، ليعود إلى تجربة الورق المقوى في معرضه هذا عائدا إلى العلب الورقية (الكارتون)، والأسلاك، والخيوط، والقناني البلاستيكية، وعجائن يصنعها من الورق المقوى أو من مواد أخرى، كلها تشكل عنده مادة استثنائية يحاول بها تطوير تقنياته في: الخرق، والحرق، والقص، واللصق، والتمزيق، والتراكم، والحك، والشطب، وسوى ذلك من التجارب التقنية، وكنا صنفنا تلك المحاولات بانها تقع ضمن ما يمكن ان نسميه (بالتشكيل الفقير)، مستثمرا كل مادة في اقصى ما تقدمه من قدرة تعبيرية؛ فكانت طبيعة المادة المستخدمة تلقي بثقلها على العمل، فكان العمل يأخذ استراتيجا مختلفا في كل مادة مستخدمة في إنجاز العمل؛ وبما يلائم الحدود التعبيرية لكل مادة.
***

لقد كان هاشم تايه ، في تخطيطاته السابقة، يستثمر نتائج بحثه النهائية في أعمال الألوان النباتية (العطارية) السابقة أيضا، فيختار كائناته التي خلقتها الصدفة، لكنه يتبع إستراتيجا مختلفا هذه المرة بما يلائم مادة الحبر، فلا يتبقى من تلك الكائنات سوى خطوطها الخارجية، وبعض اللمسات الظلـّية التي يعتقدها الفنان مهمة لاكتمال خلق أشكاله، أي ان التخطيطات فقدت صفة الصدفة حيث صار لها نموذج سابق كان يتبعه الرسام فيما مضى، وهو الأمر ذاته الذي يحدث عندما انجز أشكاله بالورق الذي فقد صفة الصدفة وصار له مثال سابق، فكانت أعمال الورق المقوى تبنى بوعي وقصدية وتنجز ببطئ وتخطيط  مسبق..
***

يصف هربرت ريد الريليفات والبنائيات النحتية التجميعية بأنها "تتأرجح بغموض بين حرفتي الرسم والنحت" (هربرت ريد، النحت الحديث .. تاريخ موجز، بغداد 1994، ط؟، ص 5)، فهو يحتار في تجنيسها ان كانت تنتمي إلى الرسم أو النحت، إلا أنها براينا تشتغل في مناطق  (تخوم الرسم-النحت)؛ وهو امر يذكرنا بتعريف للفلسفة اطلقه برتراند رسل في كتابه (حكمة الغرب) باعتبارها الحقل الذي يبحث في مناطق التخوم ما بين العلوم المختلفة؛ وان افتراض وجود تخوم للفنون المختلفة، ولفن الرسم تحديدا باتجاه مختلف أنماط الفنون الأخرى يفترض وجود تخوم بينه وبين الفنون المحايثة القريبة كالخط والتصميم مثلا؛ وهي مماثلة لتلك التي بينه وبين النحت، بما يخلق من (حركة) ناشئة، ومن تواشج فضائيّ (داخل-خارج) المنحوتة، فضاء مفتوح خارج المنحوتة، وفضاء مغلق (داخل) المنحوتة، فيتم إعادة تأسيس علاقات الفضاء نتيجة الافتقار للمادة الصلدة التي كانت في ما مضى جوهر النحت، ويبدو ان الحاجة إلى تغيير علاقات الفضاء كمعادل لردم الفضاء هو نزوع أصيل في هذا النمط من المنحوتات، نتيجة البناء النصبي لهذه المنحوتات فهي في غالبيتها توحي بانها مشاريع نصب ضخمة مقدر لها ان تحتل مساحات عامة يتعايش الناس معها بشكل تلقائي ويومي، وتنتظر كذلك إعادة إنتاجها بمادة مقاومة للزمن هي البرونز، فلنتخيل أعمال هاشم تايه الكارتونية وقد خلعت معطفها الكارتوني وتدثرت بالبرونز الصلب، فأية صلابة مادية تلك؟، واي خيال مادي سيتحقق، وربما سيريح ذلك غاستون باشلار اكثر من غيره؛ وهو مصدوم، من افتقار الجمال لما يسميه (العلة المادية)؛ كما جاء في كتابه (الماء والاحلام). 
**
ثم قدم الصالحي زميله المحتفىبه (هاشم تايه) بقوله: "الان يقدم الكاتب هاشم تايه عن تجربته، ونحن نتعمد هنا تسميته (الكاتب) لاننا لا نعارض حديث التشكيلي عن فنه ولكننا نعتبره حينما يتحدث شفاها او يمارس الكتابة فانه يكون قد غير جلده واتخذ دورا اخر هو دور الكاتب اي المتلقي المنتج الفعال وبذلك سوف لن يكون لرايه عندنا افضلية ولو قليلة جدا على اراء الكتاب الاخرين، فان الاعتقاد السائد بان منتج العمل هو الاكثر دراية والاكثر قدرة على شرح اسرار عمله لا صحة له، لاننا نعتقد ان مفاتيح التجربة الابداعية تكون مخفية او محتجبة حتى على منتج العمل وان قدرا كبيرا من محركاتها تكون لاواعية وبالتالي سرية عليه ايضا، وهو ما يبرر لنا بخلنا عليه بالوقت الذي سيتحدث فيها عما يعتقده اهم ملامح تجربته ومقترحات التلقي الاهم التي يقترحها كمدخل لتجربته، ان هذا ينسجم مع فهمنا الشخصي وموقفنا بان منتج العمل انتهت مهمته بانتاج العمل وانه صار متلقيا كغيره، وهو ما يشرحه سلفرمان بتفريقه بين (العمل الفني) الذي يمتلكه صانعه ماديا وبين النص او المنحوتة التي يمتلك المتلقون مهمة تاويلها.. وتساءل رئيس الجلسة: هل تعيدنا (حياة هشة) بشكل ما إلى (اسم الوردة) لـ(امبرتو إيكو)، الذي يقول في كتابهِ (حاشية اسم الوردة) ان "الأمر يتعلق ببيت شعري مأخوذ من كتاب لبرنار دو موراليكس (حول أشياء الحياة الهشة)".. ام تعيدنا لما قاله هاشم تايه بأنها هامش، أو اشتقاق أو ربما انشقاق لا اتذكر عن مصطلح لوحات (الحياة الجامدة)..
***
فكان عنوان ورقة الكاتب هاشم تايه (إضاءة) وجاء فيها:
كم تبدو مهمة شاقة لا تخلو من مجازفة حين يٌورَّ ط فنان في الكلام على عملٍ فنيّ أنجزه، وستكون المهمّة فادحة لو أن هذا الفنان تكبّد عناء الدفاع عن عمله وتبريره، فالمفترض أن هذا العمل، وحده، هو من يعرض حقائقه الجمالية، ويدافع عنها ويبرّرها بمنطقه الخاص.
اللافت، أيضاً، أن ثقافتنا تطالب صانعي النصوص البَصَريّة بالنيابة عنها، وتتساهل في هذا الأمر مع نظرائهم صانعي النصوص اللغوية.                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                       
لماذا حياة هشّة؟
     هذا العنوان مستقى بتحريف من موضوع أثير لدى الرسّامين دأبوا على عنونته بـ (حياة ساكنة) أو (حياة جامدة) وهو ما جرى التعبير عنه في الإنجليزية بـ (still life).
    الصفة (هشة) في عنواني تعيّن طبيعة المواد والخامات والسطوح التي أنجزت بها أعمالي، وهي مواد تمت صناعتها لتستخدم كحافظات لمادة حياة يوميّة حالما تستفرَغ منها يكون مصيرها النفاية أو الأرصفة، أو جادات الطرق في بيئة عارية تجعلها عرضة لآثار متعددة فتتقادم وتتلف وتتغيّر أشكالها، وتنتهي إلى طبيعة هشة.
لماذا استخدام هذه المواد في عمل فني؟
    تبدو أعمالي مخيبة لكثيرين ربما بسبب توحّشها، ونشازها، وغرابتها، ولوثتها، وتلوّثها، وعدم ألهيتها، لهذه الأسباب، لأن تعلَّق على جدار نظيف في بيت، أو في متحف، لأنها لا تطاق حتى أن أحد مسؤولي ثقافتنا الرسميين عبّر عن اشمئزازه منها، وهو يطالع أحد هذه الأعمال، وقال لي إنه يخشى أن يلمس بأصابعه قنينة بلاستيكيّة تالفة ملصقة على سطح ذلك العمل متوقعاً أن تكون ملوّثة بالمكروبات...
هذه الأعمال تنطلق من افتراض وجود فنان في وضعٍ أقرب إلى عدمٍ، عدم توفر ما يُفترض أنه أساسيّ من الأدوات والوسائل المعروفة لصناعة أثر فنيّ، وعدم وجود تقاليد فنيّة راسخة يستند إليها الفنان صانعاً أثره بالانطلاق منها، وأخيراً افتراض عدم وجود ذاكرة في ذاكرة رأس هذا الفنان الذي سيجد وسائله وأدواته في أي شيء يقع تحت يديْه، وسيعمل بلا تقاليد فنية، وبلا ذاكرة.. خلاصة الأمر أعمالي هي حصيلة افتراض أنني أعمل في عدم..
    ليست هذه المرّة الأولى التي أنجز فيها أعمالي الفنيّة بمواد غير تقليديّة وأكرّس لها معرضاً شخصيّاً، فلقد سبق أن أقمت معرضاً العام 2007 بالبيت الثقافي بعنوان (منفيات) ضمّ أعمالاً نفذت جميعها بمواد مبتذلة، وسبق هذين المعرضيْن معرضٌ أقيم العام 1992 في بغداد استخدمت فيه تقنية الحرق على ورق المقوى الذي تصنع منه صناديق التعبئة.
   عموماً يمكن القول إنّ هناك أكثر من دافع وراء استثماري مواد غير تقليدية في انجاز أعمالي أستطيع إيجازها بالآتي:
1-       نزوع شخصي تأصّل مع الزمن الى التجريب لإفراد التجربة عن تجارب الفنانين الأقران بتحقيقها بخامات غير تقليدية تسمح بإعطاء نتائج تختلف عن تلك التي يحصل عليها فنان استخدم مادة تقليديّة.
2-       التحوّل الذي يطرأ على المواد الجاهزة المستهلكة التي يتمّ نفيها في البيئة جراء آثار متباينة يجعلها تكتسب مظاهر وأشكالاً مثيرة، فتبدو، وقد تعرّضت للتلف، كما لو أنها تختزن تعبيراً ما، بل تغدو ملهمة بتقديمها مقترحاً لصورة فنيّة أوليّة تعرض نفسها على الخيال مستفزة الرؤية ومحفزة على استثمار أشكالها المتحولة في إنجاز عمل فني.
ويمكن القول إن استخدامي الخامات والمواد المرذولة في إنتاج أعمالي كان حصيلة بداهة الرؤية البَصَريّة لأشياء العالم توافقت مع حقيقة أن العالم معروض علينا للاستثمار في ضروب شتى من الاستثمار بما فيها الاستثمار الجمالي.
3-       وعيٌ بأهميّة صناعة أثر فني مفارق ببدائل عن المواد التقليدية مع مفهوم عن فن شامل ترسّخ لاحقاً.. فن يعمل خارج منطقتي الرسم والنحت المعهودتيْن، وخارج الأعراف الفنيّة بمحظوراتها تعزّزه رؤية تسعى الى إدخال مادة الحياة في العمل الفني ومنح هذه المادة فرصتها للمشاركة في إنتاج هذا العمل وتقويّة التأثير الجماليّ فيه. وذلك يعني تغيير آلية التصرّف بالفعل الذي ينتج عملاً فنيّاً اعتدنا على أن يتحكّم به الفنان.
غير هذا تقترح أعمالي تحويل النصّ البصريّ إلى مجال استضافة/ استقبال/ استدعاء لأية مادة في الحياة مادام ممكناً تقديمها مقترحاً جمالياً.
4-       الوعي بأن استخدام مواد وخامات مألوفة وشائعة في الاستعمال الحياتي اليوميّ لإنتاج أثر فنيّ من شأنه أن يجعل هذا الأثر أليفاً لمتلقيه، وبما يسمح لتخفيف حالة اغتراب جمالي يعانيها عادة من يواجه عملاً فنيّاً حديثاً.
5-       إذا صحّ أن الآلية التي أنتجت بها أعمالي بخامات تالفة تعيد الممارسةَ الفنيّة إلى بدائيّتها كفعل حرّ يُنجز أثره بتطويع أية مادة قريبة مهما تكن بساطتها، إذا صحّ ذلك فإنّ هذه الآلية قد تفتح المجال أمام الممارسة الفنية غير المحترفة لتعمل بطاقة أكبر مدعومة بمبادرات وبداهات متحررة من أية سلطة، ولا بأس أن تكون بعد ذلك إلى جوار الممارسة الفنية المحترفة، أو على هامشها. المهم أن تكون مستفزة، مشاكسة، وحتى ساخرة.
6-       هناك تعاطف يسكنني تجاه ما رثّ وأبلاه الزمن من الأشياء المنفيّة في عالمنا.. تعاطف يدفعني إلى محاولة إعادة هذه الأشياء إلى الحياة، وتجديد لقائها بنا في كيان فني يمنحها جدارة بالبقاء. هناك أيضاً نزوع قبْليّ بإضفاء الحياة على كلّ شيء بما في ذلك الجمادات، ويدفع الفنان إلى استنطاق هذه الحياة في أعماله.
خارج ما سبق يتعيّن عليّ القول إنني فنان غير محترف اعتدتُ العمل بأهواء خاصّة في مكان عزلتْهُ فظاظتُه عن العالم، وإذا حدث أن توافقت تجربتي مع تيار فني عالمي فقد وقع ذلك مصادفة، إذ أن نزوعي إلى العمل بأية مواد رافقني منذ فترة مبكرة من عمر تجربتي التي بوسعي الآن أن أراها كيف انطلقت بمجرّد قطعة فحم تحرّكت بأصابع طفل على جدار إسمنتي خشن في بيت قديم ثم مضت تعبر عن نفسها بأية مادة وعلى أي سطح.
ليس هذا دفاعاً عن تجربتي، فحياة هشة هي إلى حدّ ما حياتي أوهنُ من أن تقدّم دفاعاً عن نفسها.
***
اثنى الصالحي على ورقة الكاتب هاشم تايه فقال بانه قد نزع جلده تماما وتحول الى ناقد مبدع لم يبقِ لنا نحن مدعي النقد شيئا نقوله فقد طرح افكارا استثنائية وغير تقليدية؛ فكان مصداقا للقول بان بندول النقد التشكيلي قد تحرك الى البصرة التي تقدم طروحات متميزة في النقد التشكيلي..
ثم فتح رئيس الجلسة خالد خضير الصالحي باب المداخلات الشفاهية فقال الكاتب صبا  ح سبهان بان المادة وسيط اضفي رونقا على اعمال هاشم تايه، بينما قال رئيس الجلسة ان المادة جوهر العمل الفني وليس وسيطا خارجيا وقد طرح ذلك هيدجر منذ عام 1935 في كتابه (اصل العمل الفني).. وتساءل الشاعر حسين عبد اللطيف هل يمكن اعتبار استخدامك للمواد التالفة امتدادا لتوجه بيكاسو وصالح الجميعي؟.. فأجابه هاشم تايه بل من طفولتنا حينما كانت جدتي تمد يدها في ساقية الماء لتخرج طينا حرا تصنع منها تماثيل فنية، فكنت اجمع الورد وادعكه على سطح الورقة لانتاج عمل فني، فكنت ارى في تلك المادة قدرة استثنائية على خلق الفن..
واثنى التشكيلي عبد العزيز الدهر على رئيس الجلسة بان الفنان حين يتحدث عن تجربته لانه حين يعبر عنها فإنه سيصير كاتبا؛ الفن الان تتمازج فيه فعاليات فنية متعددة كالعمارة والنحت والرسم والتصميم وحتى الشعر، وان اعمال هاشم تايه ارواح تتكلم ولا اعتقد انه في الفن الحديث ولا اهمية لتقليدية او عدم تقليدية المادة.. كما لا يوجد تحجر مدرسي كالذي نتحدث عنه فيمكن للفنان ان يستقي مواده وموضوعاته من كل المصادر والاتجاهات..
تساءل عبد الرزاق الحلفي ان كان تايه قد تاثر بالدادائية وهل هو غير معني بخلود اعماله ليختار هذه المواد سريعة التلف؟..
واضاف المترجم نجاح رحيم ان هاشم تايه يوجه لنا درسا اخلاقيا انسانيا بان لا ننتقد اخطاء البعض فقد تمكن من تحويل النفايات الى اعمال فنية فاعطانا درسا في الاخلاق..
وتساءل جاسم العايف عن الريط بين الوجود والعدم وهما مفهومان فلسفيان لا يمكن ان يلتقيا، فاوضح هاشم تايه الامر بكونه لا يتعدى العدم الفني الذي يدفع الى تصويره بهذه الطريقة..
واكد جعفر كمال وجود روح حداثية في اعمال هاشم تايهتستفز فضول الناقد لكن الا يؤدي استخدام المواد سريعة التلف الى وقتية العمل الفني؟ فاجابه تايه ان الثيمة الجوهرية للمعرض هي التلف..
واكد يوسف الناصر ان الاستمرار في الانتاج هو تحد للخراب وهو ما يفعله هاشم تايه بصلابة، وان استخدام المواد اخذ الجزء الرئيسي من الجلسة، وان البحث عن شيء جميل في النفايات يحمل من الطرافة الكثير.. وان هذا المعرض هو صرخة بوجه الجحيم المغلق وبالتالي فهو محاولة قيمة تستحق الثناء، واضاف ان الفنانين في الغرب يستخدمون المواد المرذولة في البصرة يختلف عن استخدامها في الغرب، انها هنا تعبير عن الجع الكبير، والسخرية المخيفة..
واضاف باسم القطراني ان اعمال هاشم تايه موجهة الى قاع المجتمع الذي يعيش واقع مر فهي مواساة له ولكن الغرابة ان متلقيه كانوا من النخبة.. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق