الأحد، 22 نوفمبر 2009

هناء مال الله .. وتقنية الخراب


تقنية الخراب.. في الفن العراقي

خالد خضير الصالحي
تحاول الدكتورة هناء مال الله ردم الفراغ الذي نشا عن غياب آخر المنظرين العراقيين في الفن العراقي شاكر حسن آل سعيد الذي ربطته بالرسامة هناء مال أكثر من وشيجة، وقد جاءت رحلتها إلى الغربة بعد الظروف الاستثنائية التي عاشها العراق مؤثرة للغاية، فتعمق إحساسها بدرجة كبيرة بـ(ـالخراب) الذي يتعرض له العراق شعبا وبنية اجتماعية وخرابا اقتصاديا والاهم من كل ذلك إحساسها بالخراب الثقافي؛ فيأتي معرضها الأخير الذي ضم كتب فن وأعمالا فنية عرِضتها في لندن مؤسسةِ القطان في نيسان 2009 الماضي، وقدمت حوله محاضرة وأجرت ورشة أثناء المعرضِ برؤية فنية جديدة حملت عنوان (الخراب الشامل) وحلقة دراسية في جامعة (أس أو أي أس) في لندن. عنوانها (تقنية الخراب في الفنّ العراقي المعاصر) وألقت محاضرة أيضا في جامعة إكستر على نفس الموضوع..
ان ما يلفت الانتباه هذا الصمت إزاء تنظيرات الرسامة هناء مال الله الذي يبديه نقاد الفن العرب والعراقيون، وهو صمت قد تكون أهم أسبابه انقطاع الصلة بينهم وبين المبدعين الذين هاجروا من العراق، وهو انقطاع قد نتلمس لهم فيه عذرا أيام لم تكن شبكة الانترنت موجودة، أما اليوم فاعتقد انه ينطوي على درجة من التقصير اعترف بها واعتذر عنها وسأحاول تخصيص وقت اكبر لهذا الأمر.
لقد أوضحت الرسامة الدكتورة الرسامة هناء مال الله، في المحاضرات التي قدمتها، ملخصا لرؤيتها الأخيرة في تبني تقنيةً الخراب كتعبير محدد للفَنِّ العراقيِ بعد الحروبِ العديدة المدمرة والاحتلال الأمريكي الذي تعرض لها العراق، فقامت بإلقاء محاضرةً أيضاً في جامعةِ إكستر (خارج لندن) حول نفس الموضوعِ، وهي تحاول الآن تطوير الفكرة بالبَحْث الأعمقِ في الموضوعِ باعتبار تقنيةِ الخرابِ كآلية وهوية للفَنِّ العراقيِ الآن، ونحن هنا نقوم بتلخيص رؤيتها ونأمل أن لا يكون تلخيصا مخلا بالمعاني التي قصدتها الرسامة.
إن تقنية الخراب الشامل يمكن تتلخص في كونها آليات تقنية تشمل: الحِرق، القطع، الدمعة، الخدش، المسح، التقطير، الحك والثقب) في رسوم دفاتر الرسم واللوحات الفنية كهويةُ لها كتشكيلية عراقية.
لقد تغيرت الثقافة العراقية بشكل كبير، بعد ثلاثة حروب بدأت منذ عام 1979 حتى الآن، ثم أعقبتها عقوبات المقاطعة الدولية (1991-2003) فالاحتلال الأمريكي - البريطاني من 2003، فتحول العراق الى منظر طبيعي من الخراب، فمن المهم ملاحظة ان العراق الحديث قد أسّس على الخراب الواضح لبلاد ما بين النهرين (مهد الحضارة)، فكانت البقايا التأريخية القديمة مبعثرة بين البنايات العراقية الحديثة، لذا، كان العراقيون متعودين على رؤية يومية لهذا الخراب الذي طال وغزا وحرق العراق اثنتين وعشرين مرة في تأريخه، كما تؤكد هناء مال الله، وان علم آثار ميزوبوتاميا لا تشكل سوى طبقة واحدة من طبقات الذاكرة العراقية المعاصرة، لقد شكلت الطبقات الأخرى الهويةَ الفريدةَ من ذاكرة العراق: أدوات الحرب، الخسائر في الأرواح، الحطام في البنية التحتية، ان هذا الطرح يجادل بأن الرسامة تكرّر ما حدث في بلدها بعمل شيئي على سطح العمل الفني ، ويوجه رسالة فنية إلى الغرب من خلال رؤية فنية محددة من تقنية (الخراب الشامل).
إن تقنية الخراب هي أكثر من تقنية ميكانيكية تمارس داخل، أو بواسطة، العمل الفني، إنها تضمر ثلاثة أسباب كخلفية لرؤيتها الجديدة تلخصها بثلاثة أسباب:
السبب الأول، هو أن المتحف يشكل إشارة عظيمة قبل الحروب، بينما شكل نموذجا للخراب بعدها، فتبعثرت الذاكرة المبدعة والجمالية (بلاد ما بين النهرين) التي كانت الجذر الأعمق في الحضارة الإنسانية، تبعثرت البقايا الآثارية بشكل عشوائي إلى خارج البلاد مما جعل المتحف الوطني العراقي ضروريا في جمع وتقديم هذا التراث بشكل متماسك.
بعد حرب الخليج الأولى، وأثناء فترة العقوبات، كان الفنانون العراقيون، لجيل الثمانينات الذي تنتمي هناء مال الله اليه، كانوا مهتمين بتراثهم القديم، وذلك بسبّب الوعي الحادّ بالحاجة لإكتشاف هويتهم الفردية التي خلخلتها الحروب الطاحنة، والتي ادت الى ظروف عيش استثنائية كان اعسرها منع العراقيين من السفر لأيّ سبب؛ فكانت القضية المركزية في حيوية جيل الثمانينات هي المتحف العراقي للآثار. كان ذلك المتحف ينطوي على مصنوعات يدوية مهمة تعود لأكثر من 5,000 سنة من تأريخ ميزوبوتاميا تضمها 28 معرض ومدفن؛ فكان التشكيليون العراقيون يتعاملون مع تلك المصنوعات اليدوية باعتبارها أعمالا فنية حديثة؛ فتشكلت هذه التقنية المادية (الخراب) كجمالية في هم تقني، ومن المهم ملاحظة ان المتحف أسّس في موقعه الحالي عام 1958 اكثر المناطق نشاطا وشعبية بغداد.
لقد اغلق المتحف عام 1991 أثناء حرب الخليج خوفا من الضربات الجويّة الأمريكية واعيد فتحه في 28، أبريل/نيسان، 2000 ونهب وحطّم في 2003 أثناء الاحتلال الامريكي البريطاني، فتحول المتحف الى كمركّب أو تجمّع للخراب؛ من المصنوعات اليدوية التأريخية ودمار الحرب والنهب اللاحق، فبدا الخراب أمام ناظر العراقيين في المتحف أو خارجه.
هذا يؤدي بها إلى السبب الثاني الذي يبيح الأعتقاد بان تقنية الخراب هي في حقيقتها أكثر من الية ميكانيكية في عملي الفني، وهو (معقل الخراب والثقافة الغربية)؛ فبسبب حالة التساؤل والشكوك من جدوى الخراب الثقافي الواقع حول المتحف العراقي فقد كانت الرسامة تعتقد بأنّ تراثنا يمكن أن يوازن عقدة نقصنا نسبة إلى التفوق الثقافي المحسوس للغرب؛ لذا، بدت الخسارة في تحف وموجودات المتحف العرقي تشير بأصابع الاتهام نحو موقف الثقافة الغربية من حضارة الآخر، فبدت السياسة الغربية الرجعية لإحداث الخراب في جوهر هويتنا الوطنية؛ لذا تحتمَ علينا تفعيل مقاومتنا الثقافية؛ وهكذا تكرر الخراب كتقنية فنية تشكل جزءا مهما من هذه الحالة.
أنّ تكرار الخراب في التقنية الفنية لهناء مال الله هي الية للتعامل مع الاستمرار بالتخريب في العراق مما يقدم السبب الثالث الذي قاد الرسامة للتعامل مع القضية كموضوع ثقافي في عملها الفني، ففي عام 1991 ، في معرضها الشخصي الأول الذي اقيم في بغداد في المتحف الوطني للفنّ الحديث، والذي كان بعنوان (توثيق زيارات المتحف الوطني)، وفي معرضها الأخير الذي اقيم في لندن في مؤسسة القطان 2009 وكان عنوانه (الخراب الشامل)، فيمكن الاستدلال من اختلاف العنوانين، عن جوهر ما تتمنّى الرسامة الوصول اليه… فحال وصولها الأول الى لندن ( 27، يناير/كانون الثّاني، 2007)، كانت تسال، قبل تقديم اوراقها للبقاء هناك، تسأل عن موقع المتحف البريطاني لتزوره.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق