الأحد، 6 سبتمبر 2009

الرسام العراقي محمد مهر الدين ...





فوضى السطح..
وصرامة الهندسة الغائرة

خالد خضير ألصالحي

1
"إن أسلوب إعطاء الشكل ينوب نهائيا عن تقديم ما كان يسمى تقليديا بالمضمون، فهو يريد جعل العمق جزءا لا يتجزأ من السطح"
مطاع صفدي

2
"عدد ليس قليلا كتبوا عن تجربتي الفنية، خلال مسيرتي، إلا أن البعض أصاب في تقريب وتثمين تجربتي باعتباري (فنانا تجريبيا) ، فان أحالة الفنون البصرية إلى مفردات كتابية ... فيه الكثير من الصعوبات" محمد مهر الدين، رسالة عبر البريد الالكتروني (نيسان 2008)

3
الرسم التجريدي العراقي وعلاقته بالمشخص
حينما صنفنا الرسم التجريدي العراقي ذات مرة حسب علاقته بالمشخص باعتباره، برأينا، من أهم قوانين النسق التجريدي العراقي الذي حاولنا البحث فيه يوما ما وقسمنا فيه الرسم التجريدي العراقي إلى: رسم نبع من المشخص وظل وفيا له، ورسم نبع من اللامشخص، وظل كذلك وفيا لمصدره اللامشخص، فبينما يعتقد الكثير من النقاد العراقيين إن محمد مهر الدين قد انتقل من تقديس المشخص إلى ما يناقض ذلك، حيث قضى سنوات السبعينات وهو يرسم الإنسان في (مقتبس من كتاب محمد مهر الدين عظيم) فإذا به ينقلب على عقبيه، ورغم ذلك فان المظاهر خداعة غالبا، وان تجربة مهر الدين لم تنقطع عن المشخص، بل خضع لدرجات مضاعفة من والاسلبة التي أجهزت على (الوجود الشكلي) للمشخص، إلا أنها لم تقض على آثاره التي ظلت عالقة على سطح اللوحة، فمازالت موجودات ذلك الإنسان تتمظهر: أرقاما، وحروفا، وشخبطات تملا الجدران، وهندسة، وكتابات، وثقوبا مقصودة، فلم يكن مهر الدين رساما منقطعا عن تجربته الماضية، فمازالت (موضوعاته) هي ذاتها وان تلبست نمطا يبدو مناقضا لخطه السابق، وان كذلك تغيرت عناوين لوحاته لتنسجم وعناوين اللوحات التجريدية: موضوع، تجريد....، إلا أن الوجود الإنساني مازال فاعلا في سنواته الماضية وان اتخذ تمظهرات أخرى ذات طابع أكثر شيئية.

4
الهندسة السطحية
يؤسس مهر الدين هندسة لوحاته بمستويين: مستوى هندسة سطحية من خلال التقسيم التربيعي او الثنائي الأفقي او ألمعراجي لسطح اللوحة، ومستوى غائر يسميه طهمازي (البناء الكثيف)، فحينما أطلعني الرسام مهر الدين على آخر أعماله كان ضمنها مخططات أولية لبعض تلك اللوحات كان قد أنجزها بالحبر وهي مليئة بالملاحظات المكتوبة، والمخططات والبقع التي ستمتلئ باللون لاحقا، وكانت تلك المخططات تبدو على درجة من الصرامة بشكل يذكّر بالدوائر الالكترونية التي لا تقبل الخطأ، وكان اشد ما أثار استغرابي إن كما كبيرا من الشخبطات التي اعتقد الكثيرون انه كان يضعها ليكسر بها رتابة البناء المحكم، هي موجودة ضمن هذه المخططات، وبذلك يكون مهر الدين صارما حتى في عفويته.
يبني مهر الدين لوحته في مستواها السطحي من: أولا، مستوى سطحي تصويري لوني غائر مليء بالانقطاعات، تلك التي كان ينجزها آل سعيد في جسد اللوحة المليء بالخروم والثقوب والثلمات، وقد بدء مهر الدين بانجازه من خلال اللون انقطاعا بالمساحات اللونية؛ الأمر الذي خلق خروقا يستوجب ملؤها، وهنا لا يترك مهر الدين متلقيه حائرا في إمكانية ملء هذه الخروم بل يلقي لذلك المتلقي بمجموعة من المفاتيح يبثها في فراغ اللوحة وعلى المتلقي أن يلتقط دليله منها، وثانيا، من مستوى اشاري سطحي يشكله حشد من العلامات التي بعضها مقروء، وبعضها غير مقروء، وغير المقروء هنا (مضمر) الدلالة كاشارة الالغاء او الرفض (x) وهي اشارة كرسها مهر الدين منذ مرحلته المشخصة في السبعينات، أما الإشارات المقروءة فقد ظهرت من: عبارات مقروءة وذات معنى إلى حروف مقروءة عربية ولاتينية ولكنها لا تشكل نصا ذا دلالة لغوية، ومن إشارات كاليغرافية صورية مستلة من نمط من الكتابة البكتوغرافية، ولكن رغم أن اختيار مهر الدين لتلك العلامات كان اختيارا واعيا في أحيان كثيرة إلا انه يدخلها مختبره الشكلي لتتحول العلامة بعدها إلى اشارة شكلية تنتمي إلى شيئية اللوحة، وعناصرها الشكلية وليس إلى نص لغوي مدون فابل للقراءة كما هي حال أعمال الخط العربي المقروء، رغم انه يهدف من كلا نمطي العلامات نقل إحساسا بالرفض وفوضى الواقع للمتلقي بشتى هذه الوسائل (البصرية).

5
الهندسة العميقة (البناء الكثيف)
لقد انتبه الكاتب عبد الرحمن طهمازي إلى مستوى غائر يسميه (البناء الكثيف) في لوحات مهر الدين حينما يقول "مازال مهر الدين يبني العمل على مراحل لكي يصل إلى السطح" وهو ما يسميه (كثافة البناء الدفين)، كما يقيم هندسة لوحاته وفق مخططات أولية دقيقة تماثل وتوحي أيضا بخرائط الدوائر الكهربائية والالكترونية، فهو يقسم (جسد) اللوحة غالبا ، وخاصة لوحاته التي اتخذت شكلا دائريا، وكانت أعدادها كبيرة في معرضه الأخير، تقسيما تربيعيا يتطابق بطريقة شكلية مع العنزات الدائرة حول نبع في فخاريات سامراء، او ما يسميه شاكر حسن آل سعيد (النظام التربيعي) الذي ظهر في حدود الألف الخامس قبل الميلاد وشكّل "الأساس الذهني لنظام الوفق" ، والذي سبق ظهوره الكتابة المسمارية وشكل مقدمة لتلك الكتابة، وربما شكل كذلك جذرا لا واعيا لان يكون التقسيم التربيعي تبشيرا لشكل جديد من اللغة او من الكتابة التي تبشر بشكل الكتابة في العصر القادم لتتحول من رقائق (punch card) إلى اضوية وأرقام وحروف على شاشة أجهزة الحاسوب.

6
ازدحام النموذج
عند مقارنة إعمال مهر الدين التي كان يلصّق بها مختلف المواد ليجعل سطح اللوحة ناتئا بطريقة استثنائية ومبالغ بها، مع أعماله التي أنجزها لتعرض في معرضه الأخير هذا، سوف لن نجد إلا فروقات طفيفة في الدرجة أهمها: كبح المبالغة في الملصّقات، وهيمنة اللون حيث "لا يقوى مهر الدين على كبح جماح قدرته على التلوين" كما يقول طهمازي، رغم إن ذلك التلوين عاد أحاديا، كما كان أيام السبعينات، إلا انه ما زال عنصرا فاعلا في الواقعة الشيئية للوحة، وأخيرا انتفاء الرغبة بالتشخيص مع الشكل البشري رغم بقاء مشخصات أخرى تشكل أثرا له ومنها الحروف ومختلف العلامات الأخرى.
إن ما يسميه عبد الرحمن طهمازي (ازدحام النموذج) في لوحة مهر الدين الذي هو "كثرة النماذج التي تكتظ بها كل لوحة تقريبا مما يوحي بكثرة الرموز في لوحة واحدة، أي مما قد يوحي بان اللوحة الواحدة محملة بأكثر مما تحتمل وبأكثر مما يجب"، هو راجع إلى أن تكنيك الملصّقات والورقيات والمواد المختلفة يحتمل قدرا اكبر من التنوع والتعقيد في بناء اللوحة، وهو ما أشار إليه كذلك طهمازي، كما أن الدلالة الأهم في ذلك إن المواد المختلفة قد أتاحت لمهر الدين انجاز فهمه للفن الحديث باعتباره عملية تجريبية دائمة، وان موت التجربة الفنية بتوقفها عن هذه التجريبية، وهو من خلال هذه التجريبية كان ينقل قدرا من الإحساس بالتحولات المتلاحقة للواقع، وفوضى ذلك الواقع الذي يشكل ثيمته الأساس التي اشتغل عليها طوال منجزه الفني، وكان ينقله من خلال المزاوجة بين المشخصات والتجريد، بينما اتكأ الآن كلية على الأثر التجريدي للإنسان؛ وبذلك استوطنت الفوضى سطح اللوحة في بنيتها السطحية؛ بينما كانت مرتكزة في حقيقتها على بناء صارم في بنيها الغائرة وربما الخفية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق