الجمعة، 4 سبتمبر 2009

تخطيطات هاشم حنون




هيمنة الانقطاعات..
والفجوات اللونية

خالد خضير الصالحي
Khkh1956@yahoo.com

حينما أطلعني هاشم حنون على تخطيطاته التي أنجزها مؤخرا دُهشتُ ليس فقط من طريقة انجازها، بل ومن انجازها أساسا، فقد كنت اعتقد جازما ان الرسام هاشم حنون ليس رساما مخططا، بل كنت اعتقد انه رسام لا يخطط بل ولا يمكن ان يخطط، لأنه وأمثاله يفكرون بطريقة ملونة فإذا به يفاجئني ويخطط، رغم انه لم يخطط بطريقة تقليدية مثل المخططين الآخرين، فقد كان فعل تفكيره (بطريقة ملونة) جاثما على تخطيطاته، فكل تلك التخطيطات التي اطلعت عليها سابقا كانت ليست سوى مخططات أولية للوحات غير منجزة او تنتظر الانجاز، بينما جاءت تخطيطاته التي أطلعني عليها مؤخرا مليئة بالخروم اللونية التي تتخللها، هنا او هناك، فهو يرسمها كما لو كانت مشروعا للوحة او ربما مخططا أوليا (سكيجا) لوضع اللون عليه لاحقا.
يضع هاشم حنون صفحة تخطيطاته ميدانا لاشتغال الفجوة، التي تسمى أيضا (مواقع اللاتحديد)، ويصفها محمد خرماش بأنها "البياضات والفراغات والانقطاعات الموجودة عنوة في النص، والتي تسمح للقارئ بالتدخل كي يملأها، ولذلك يسميها إيزر (الفراغ الباني) وهي ما تشمل: الانفكاكات التي تدعو القارئ إلى وصلها، وإمكانية الانتفاء التي تدعو إلى التعصب ضد بعض ما يقدمه النص كحقائق أو مسلمات، وتحفز القارئ على التفكير والبحث عن التلاؤم وإيجاد الوضعية المشتركة... فالمعنى ينبني وفق قوانين تؤسس في غمار القراءة... التي تثير الانتباه إلى الأصل المخفي أو العناصر الغائبة... وأن القارئ ... يجد فرصته في البياضات أو مواقع اللا تحديد التي يهيئها النص ويتدخل كشريك للمؤلف في تشكيل المعنى. وهذا التدخل يكون بالعمل على سد الثغرات وتكوين الحقل المرجعي وتحويل مواقع اللا تحديد" ، وتتحقق جغرافية هذه البياضات في تخطيطات هاشم حنون في الفراغ الناشئ من غياب اللون مما يعني إنها مفهوم (بصَََري) وان ملء هذه الفجوات البصَرية (اللونية) هي الفاعلية الأهم التي يهيئها الرسام هاشم حنون في تخطيطاته، والتي هي أهم فعالية مطلوبة من القارئ في تلقّي هذه التخطيطات؛ وبذلك تكون هذه الفجوة خرقا، او إحداثا لخلخلة في الوئام الطبيعي الذي يلف لوحات هاشم حنون الملونة؛ وبذلك فهو يخلق ذات الفجوة التي يصنعها مجايلاه الرسامان هاشم تايه وعيسى عبد الله من البصرة ولكن بطريقة معاكسة حيث يرسم هذان الرسامان لوحاتهما الزيتية بروح تخطيطية يشكل اللون فيها عنصرا مضافا؛ بينما يعكس هاشم حنون المسألة فيرسم تخطيطاته بروح اللوحة الزيتية ويكون الخط هو ذلك العنصر المضاف.
تتناص أعمال هاشم حنون مع العديد من المرجعيات، خارج وداخل فن الرسم، فهو لا يتحرج من تفعيل كل الجينات الممكنة في الفن او خارجه من تلك التي يمكنها ان تنتقل إليه بشكل عفويٍٍٍٍّ ويسيرٍ لتندمج في لحمة منجزه تماما، إلا انه أيضا لا يتحرج من التناص الإبداعي مع منجزه السابق كذلك، فيستل منه أيقونات أثيرة لديه، وأشكالا سبق ان احتلت مكانا أثيرا في منجزه، فتتوالد مراحل تجربته بيسر؛ مرحلة عن أخرى، مما جعل تحولاته قادرة على ان تحفظ أسلوبه الخاص وشخصيته المتميزة ولا تحدث اختلالات كارثية في طريقته بالرسم؛ رغم انها تضيف لمنجزه في كل مرة لمسة جديدة مؤثرة، فقد كانت أشكال شخوصه في تجربة تخطيطاته هذه تبدو وكأنها مستعارة من عمق تجارب الر سم الخمسيني العراقي من خلال أشكاله التي تبدو اقرب ما تكون إلى أشكال فائق حسن في لوحاته القليلة التي تأثر بها بدعوة (التعبير عن الطابع المحلي) والتي كان فيها يختزل أشكاله إلى مساحات لونية مسطحة نقية تقريبا، لقد استعار هاشم حنون تلك الأشكال وأدخلها مختبره الشخصي في لوحاته الملونة، وها هو الآن يزيح عنها دثارها الملوّن، ويحتفظ بمحيطاتها الكفافية التي كانت تصنعها الألوان المتجاورة، لتتحول عنده، في التخطيطات، إلى خطوط حقيقية وعلى القارئ ان يعيدها سيرتها الأولى باعتبارها خطوطا كفافية وهمية تفصل بين مساحات لونية بعد ان يكون قد ملأها ثانية بألوان خياله الشخصي.
ان الفجوة التي يتخذها هاشم حنون استراتيجا ثابتا في بناء تخطيطاته، مفهوم شيئي (متيريالي او ملموس)، وان ملء هذه الفجوات هو فاعلية يقوم بها المتلقي، لذا فهي فاعلية تشمل اللوحة والمتلقي معا، وعلى الأخير ان يستند في ذلك على مخزوناته من الخبرة السابقة.
ان حقائق الأدب (السرد على وجه الخصوص)، رغم كل ما قد تمنحنا إياه من معرفة أحيانا، فهي لا يمكن الاستناد إليها باعتبارها جزءا من حقائق التاريخ، ولا يمكن الاستناد إليها باعتبارها تاريخ وقائع او قوانين، فالشخوص الطائرة عند ماركيز، و(المسخ) الذي كتب عنه كافكا، والشخوص الطائرة في لوحات شاغال، ليست تحديا لقوانين الجاذبية او لقوانين الواقع بل إعادة تأسيس (لقوانين) الرسم التي هي ليست بالضرورة ذات صلة بقوانين الواقع، فتوزيع الشخوص على مساحة اللوحة، تفرضه قوانين اللوحة وحاجتها إلى ردم الفراغات فيها، ولا تفرضه بالضرورة، قوانين الواقع، وهو ما فعله هاشم حنون حينما وزع أشكاله على اللوحة، بحيث ظهر قسم منها طائرا في الأعالي، وقسم منها منطرحا في الأرضية والقسم الآخر أجزاءً مبعثرةً وموزعة في أنحاء اللوحة.
يظلل هاشم حنون أجزاءً من تخطيطاته ويترك أجزاء أخرى خطوطا خارجية فقط، وفي ذهنه ان تتخذ الأشكال الداكنة في التخطيط وجودا لونيا ثقيلا ورئيسا في اللوحة، بينما لا تتخذ الأشكال التي حددت بالخطوط الخارجية فقط سوى وجودا شبحيا متناغما ومندمجا بقوة، بل ومندغما في سطح اللوحة ودرجاتها اللونية.
يعود هاشم حنون، في تخطيطاته، إلى قداسة الشكل الواضح، محدد المعالم الذي نستبين ملامحه، ذلك الشكل الذي هجر ملامحه الواضحة والمستقلة بعد معرضه الذي أقامه عن الشهيد في قاعة الرواق عام 1990، وكانت أعماله فيه تعبيرية اشِتغلها الرسام بعناية فكانت معالمها واضحة، ومدروسة، تماما كأشكاله في تخطيطاته التي أنجزها مؤخرا، وفيها يؤكد هاشم حنون تقديسه للشكل وحدوده الواضحة والقاسية، ويعيد فيها تقديسه للخط ودوره في بناء تلك الأشكال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق