السبت، 28 مارس 2009

رسامو البصرة ... انطولوجيا القرن العشرين





يفتقر التاريخ التشكيلي العراقي إلى تدوين هوامشه في المحافظات العراقية خارج العاصمة بغداد ، وعلى الأخص مدينة البصرة , سوى ما قدمه الناقد شاكر حسن آل سعيد في كتابه الضخم (فصول من تاريخ الحركة التشكيلية في العراق) الذي أصدره بجزأين عام 1988 , وفيه توثيق وتوصيف مهم عن الحركة التشكيلية في البصرة و بعض فنانيها ومعارضهم ومساهمات البعض منهم في تأسيس الجماعات الفنية في بغداد والجماعات الفنية في البصرة , وسوف نعتمد في هذا الاستعراض التاريخي على طروحات أستاذنا آل سعيد , في كتابه ذاك , فهو يصف الحركة التشكيلية في البصرة , بقوله : ((يبدو أن احتدام الفكر السبعيني يبدأ في البصرة من مواقع اكثر انهماكا بالوعي العالمي منه في بغداد . ذلك البحث الإنساني الصميمي لدى سلمان البصري إلى جانب جماليات علي طالب الزخرفية والإشارية معا , ثم بحث عجيل مزهر المحيطي وإنسانيات فاروق حسن الملمسية , كل هذه التجليات أخذت تشكل الآن نوعا من الطرح الفني الذي لا يقل عما كانت تحتدم فيه أفكار فناني بغداد. الملمسية بدأت في البصرة بشكل اكثر استغراقا منه في بقية أنحاء العالم من خلال بحوث محمد مهر الدين و عجيل مزهر وفاروق حسن)) . بينما كانت مساهمة فناني البصرة كبيرة من خلال عدد من الفنانين الذين ساهموا في تأسيس الجماعات الفنية التي ساهمت بفاعلية ((من اجل البحث عن رؤية جديدة)) للفن العراقي , فقد ساهم علي طالب في جماعة المجددين innovators (65-1968) وهي أهم الجماعات الستينية التي غيرت بفاعلية رؤية الفنانين والجمهور تجاه الفن الحديث باتجاه البحث التقني الماتيريالي ، وممارسة أقصى مديات الحرية والاستغراق في المعاني والبنى الكامنة في العمل الفني , وكونه ممارسة تمتلك واقعها الخاص وليست ارتدادا عن مؤثرات تفرضها فعاليات خارجية , والانقطاع إلى العمل الفني باعتباره حوارا تقنيا بين الرسام والمادة المستخدمة في إنجاز العمل . وظهرت جماعة الزاوية بجهود إسماعيل فتاح الترك الذي خطط لهذه الجماعة بقصد تأسيس جماعة جديدة تمثل الجماعات الفنية المختلفة وكانت تهدف حسب ما يذكر آل سعيد لاستنهاض همم الشباب للعودة إلى الخط العام للتطور فكانت دعوتها غير المباشرة في وضوح المضمون وعمقه. وساهم الرسامان فيصل لعيبي وصلاح جياد من البصرة بتأسيس جماعة الأكاديميين, وهي جماعة تنتمي إلى تيار لا ينتمي إلى الشكل الفني الحديث ولا لاستلهام التراث بل للمضمون وما يتمخض عنه من معان إنسانية , فارتبط ذلك المضمون بالبعد السياسي والاجتماعي والواقعي في آن واحد فكانت احد التأثيرات الأيديولوجية للخامس من حزيران 1967.
تأسست في البصرة عدة جماعات فنية مهمة أسهمت في رفد الوعي الفني التقني وهي:
(جماعة البصرة) : وتتمثل أهميتها ، ككل ، ونشدد على كلمة ككل ، الجماعات الفنية في العراق في كونها تحقق تجمعا للفنانين يساهم في تطوير رؤاهم حول العمل الفني والاتفاق على بعض الرؤى المشتركة , وكانت تلك الجماعة قد اسسها: سلمان البصري ،شاكر حمــد ،محمد راضـي عبدالله، عـلاء بشــير ،عبداللـه شـــاكـر، وضمت في صفوفها : ادهم إبراهيم وجبار داود ومحمد راضي عبد الله ومحمد الزبيدي وموريس حداد ونجاة حداد و عجيل مزهر وعادلة فاضل وفاروق حسن وسلمان البصري . و أقامت معرضا للمدة 6 - 12/7/1968 في قاعة المتحف الوطني للفن الحديث .
جماعة الظل : و أسسها كل من سلمان البصري وشاكر حمد وعبد الله شاكر وعلي طالب حمدي ومحمد الزبيدي ومؤيد عبد الصمد عام 1970 , و أقامت معرضها الأول في مدينة البصرة , ثم انتقل إلى قاعة المتحف الوطني للفن الحديث في بغداد للمدة من 25/2 - 1/3/1970 , وشارك فيه سلمان البصري وشاكر حمد وعبد الله شاكر وعلي طالب ومحمد الزبيدي ومؤيد عبد الصمد ونشرت بيانا في مقدمة دليل المعرض هو دليل على تبلور الفكر الفني في مطلع سبعينات القرن الماضي في العراق في مدينة أخرى غير بغداد كما يؤِكد شاكر حسن . وجاء في بيانهم (لا يطمح الفن أن يكون اكثر من موقف إنساني إزاء الواقع , وهو من خلال ذلك يطرح أسئلة , ولا ينتظر أن يعطي أجوبة ...)) فهم لم يعترفوا بأي طرح أسلوبي مهما كان , انهم يعتبرون بنية العمل الفني ((تنمو في مناخ المحسوسات وعلى جانبي الشعور واللاشعور معا , إذ ليس المطلوب تفسير العالم وانما المطلوب تغييره)) على حد تعبير البيان.
جماعة المثلث : تأسست أواخر عام 1969 و أصدرت بيانا يوضح سياستها وفكرها ومسؤولياتها تجاه الفن العراقي والعالمي وعرض باسمها محمد راضي و عجيل مزهر وفاروق حسن واقامت معرضها الأول في قاعة المتحف الوطني للفن الحديث من 7 - 13/6/1970 وشارك فيه محمد راضي عبد الله و عجيل مزهر وفاروق حسن ,ويبدو أنها كانت تهتم , من الناحية الأسلوبية , بمبدأ استلهام العالم الخارجي والتأثر ببعض المؤثرات العالمية الأخرى , إن ظهور الجماعات الفنية في البصرة يؤرخ لفترة من الوعي الفني وتواصل البحث التقني للستينيين بما يؤدي إلى إنهاء الهيمنة الأيديولوجية لحقبة الخمسينات. محمد راضي عبد الله ... العتمة الثقيلة

محمد راضي عبد الله
شيخ الفنانين التشكيليين البصريين , وأحد مؤسسي معهد الفنون الجميلة في البصرة 000 كان اسلوبه في الستينات متفردا بجملة خصائص اهمها صفتي الاقتصاد الشكلي الشديد وهيمنة الفراغ على مساحة اللوحة ، فكانت اللوحة تبنى من شكل figure(هلامي) غير واضح المعالم ، يقرب من شكل حصان مجنح آو كائن متحفز للحركة يتخذ إحدى الزوايا القصية للوحة , تلفه العتمة من كل جانب , آو قل تجثم عليه العتمة المطبقة والمتلفعة بالسواد وقد كان الرسام الدكتور علاء حسين بشير يرسم بذات الطريقة حين كان في البصرة حين كان عميدا لكلية الطب في جامعتها في الفترة ذاتها.

إسماعيل فتاح الترك ... اكتمال الصناعتين
بدأ الترك يطل على الواقع التشكيلي العراقي ، منذ عدة سنوات بمعارض خصصها للرسم ، لكنه يتجه ببحثه صوب أشكال منحوتاته هو بالذات , باعتبارها مرجعيته الشكلية ، أي ان تكون (نصا أول) يستل منه ماشاء من اشكال وبنى لوحاته ، فكان يصنعها من الطين او من البرونز او اية مادة اخرى ، فأذا به الآن يستبدل الألوان بتلك المواد ، فتحل الألوان والخطوط محلها ، لكن بنيتها الشكلية تبقى هي ذاتها ، بينما تتلبسها بعض من ملامح الوجه الأنساني التي نفتقرها في منحوتاته ، والتي هي لا نفع منها هنا ، فلاقدرة لعيونها على الرؤية ، انها فتحات سوداء غائرة ، في وجوه مجدورة تملؤها الندب والبثور!! ، بينما يستعير الوانه من الوان البرونز ذاته وكأنه يرسم لوحاته به!

علي طالب ... دراما الرأس المقطوع
انفق علي طالب اكثر من ربع قرن يستقرئ الوجه الإنساني ويوظفه ، بل ويختزل الواقع بكل تعقيده الى علامة واحدة هي الوجه الإنساني ، ساحة لتجاربه التقنية اللونية (ونحن نعني تحديدا سلسلة من الوجوه التي رسمها لرؤوس آدمية عام 1999) ، فحين يعكف على سطح اللوحة ينقطع إليه تماما كما ينقطع النساك، أو ربما كما ينقطع الوراقون على صفحاتهم يزوقونها، فيضع خطوطه، وعلاماته ومستحثاته الشبيهة بالكلف والندب التي غزت وجه مجدوراً، وقد يتخلى حينا عن ذلك متجها بألوانه صوب أحاديّة اللّون، لكنها تظل أحادية موّارة بغموض واضطراب لوني هائل.
ورغم حرص علي طالب على ان تمثل اللوحة (شيئا) أي شبها بأشكال الواقع ، إلا أنه يبقى وفيا ، ومخلصا لاعتبار سطح اللوحة نسيجا من قماشة ، أو أي مادة أخرى ، وضع الفنان الصبغ عليه ، وسيخوض فيه تجربة تقنية مع المواد المستخدمة ، نسيج ثر سواء بسحنته اللونية أو ملمسه، وهو لا يشابه إلا نفسه ، مهما أوحى لنا بشبه لأشكال أخرى في الواقع ، ومهما بحث المتلقي عن معان خارجية فلن يجدها ، وعليه ان يبحث عن معانيه داخل اللوحة ، لا خارجها!

سلمان البصري ... اختزال الملامح
رسام كان شديد الأهتمام بالملمس texture شديد اللولع بالتقنية كما اهتم بتأسيس اتجاه إنساني خاص في الرسم بمحاولة اتخاذه الشكل الإنساني مرتكزا شكليا و بنائيا للوحته ، يواجه المتلقي عاريا الا من كينونته الإنسانية ، يرسم بأسلوب اختزالي لا يهتم بالتفاصيل حيث تنتهي ملامح شخوصه ليقترب شكلها من أشكال منحوتات جايكوميتي وإسماعيل فتاح الترك , كان يبني لوحته بأسلوب مخطــــط له بهندسة معمارية واضحة , رغم ما كان يوحي به من عفوية الإنجاز. يقول الفنان سلمان البصري :((هنالك عنصر أساس هو الإنسان , انه يشغل انه يشغل اغلب المساحة في أعمالي . وهذا ما أتصوره أحاول أنا في الأقل ... الإنسان بكل دواخله ... التكوين الخارجي ليس الأساس , انه منفذ تعبيري فقط , لكن مكنوناته السرية هي عالم دافق لا يحد.
كان الفنان سلمان البصري مربيا في مدارس البصرة حيث تتلمذنا على يديه , فأورثنا حبه للرسم ، وهو أهم ما كان يهدف إليه في تعليم الطلاب .

فاروق حسن ... ملمس السطح
كان فاروق حسن مهتما بإبراز ملمس اللوحة , وهو أسلوب كان يرسم به محمد مهر الدين وشوكت الربيعي وحميد العطار , حيث يتم (بناء) سطح اللوحة من مواد نافرة كالأسمنت والخشب وما إلى ذلك , والتي تجعل اللوحة بناء نحتيا ناتئا يعطيها قسوة تمنح الموضوع قوة تعبيرية وبعدا إنسانيا ، ولكنه تحول الآن إلى اتجاه مضاد تماما , فقد شاهدت له في عمان مؤخرا , أعمالا شاعرية برهافة لونية واختزال شكلي شديد لأشكاله البشرية النسائية غالبا .

عجيل مزهر ... البوب والمحيط
يذكر الناقد شاكر حسن آل سعيد انه منذ نهاية الستينات كان عجيل مزهر احد الممهدين للفن المحيطي دون أن يعلم , رغم انه كان فنانا بصريا optical أو شيئا من هذا القبيل , وساهم في تقديم الفن الشعبي (أو فن البوب) في الفن العراقي .

محمد مهر الدين ... من الملمس إلى الإشارية
بدأ محمد مهر الدين إنسانيا وتعبيريا في أعماله الستينية والسبعينية , فبعد إن كان مهتما برسم الإنسان في ثورته من خلال المادة الاستثنائية (الخشب والأسمنت ونحو ذلك) تحول إلى التكنيك اللوني المستمد من مدرسة روشمبرغ الأمريكي وفن البوب , حيث تمتلئ اللوحة بصور الإنسان النكتف , الا أن الرسام تحول عن ذلك إلى رسم آثار الإنسان في المحيط من الكتابات والإشارات كالأسهم والدوائر ورسوم الأطفال وما إلى ذلك من مفردات أو (لقى) , ولكنه في كل مراحله , عدى الأخيرة ربما , كان مسكونا بالبعد الأيديولوجي في اللوحة.

عيسى عبد الله ... اللون الفائض
إن المهيمنة الأعظم في منجز عيسى عبد الله هي الاختزال اللوني الشديد , الذي يؤطر اختزال الأشكال , فكان الإنسان (المرأة على وجه الخصوص) هي الشكل المهيمن في لوحته , بجديلتها التي تجيد , هي أو الرسام ذاته , ترتيبها بشكل خاص !! , وبذلك فهو وهاشم تايه يقتربان من الناحية الأسلوبية في كون لوحتهما تبدو ذات بنية شكلية وخطية مكتملة فتمت إضافة اللون إليها في مرحلة تالية , وبشكل لم يؤثر على بنيتها المعمارية الشكلية.

جبار عبد الرضا ... هيمنة البياض
رسام متفوق من الناحية التقنية اللونية , و نشط و يتميز بشدة تحولاته بين الأساليب , بوعي مجرب ، ينتمي لتيارات الحداثة بقوة , وتقترب أجواءه من فن البوب , كانت آخر توجهاته في رسم غرف الاستقبال , التي يؤثثها بعناية ويطعمها بمساحات فارغة , بينما اتجه مؤخرا في معرضه المزمع إقامته خلال بضعة اشهر نحو استخدام مواد بلاستيكية تعطي اللوحة بعدا ثالثا ناتئا تدعو المتلقي أن يتفاعل مع هذا البناء النصبي اكثر مما يعتبر لوحة مسطحة أو ببعد ثالث وهمي , وبذلك فهو يلغي المساحة الفاصلة بين الرسم والنحت.

حامد مهدي ... عوالم الفنطازية
فنان متفوق من ناحية التقنية اللونية , ولكنه لم يتفرغ بما فيه الكفاية للرسم , لذا فقد خسره الفن , فقد كان مشروع فنان طموح , كان يبني عوالم فنطازية لا هيمنة فيها لقوانين زمكانية تقليدية ومنطقية ، حيث تتناثر أشكاله طائرة في فضاء اللوحة , تماما كما كان شاغال ينثر أشكاله ببذخ على سطح اللوحة دونما اكتراث بقوانين الجاذبية.

فيصل لعيبي وعفيفة لعيبي ... الأنسان تحت أجواء شتى
يشترك الرسام فيصل لعيبي مع أخته الرسامة عفيفة لعيبي بتأسيس تجربتهما على الشكل figure الإنساني كوحدة بنائية في منجزهما , الا أن ما يفرق بينهما هو الأجواء والإكسسوارات الديكورية التي تؤسس المشهد والتي تختلف عند كليهما كما تختلف نيتهما بشان هدف اللوحة , ففي حين يهتم فيصل لعيبي بوضع شخوصه , وهم رجال غالبا , ضمن أجواء ومناخات عراقية , حيث يكون فضاء المقاهي هو المسرح المفضل لديه , وحيث تتكئ شخوصه بسكون وئيد , وهي تستعيد ذكرياتها على انفراد أو تدخن النرجيلة , بينما يقوم صغار بمهمة صبغ أحذيتها , ويسكب نادل المقهى الشاي في القدح توا , إن أبطاله بشر من أولئك الذين يمكن أن نلتقي بهم كل لحظة في الشارع والمقهى وفي كل مكان . بينما تضع عفيفة لعيبي شخوصها (وهن نساء غالبا) في أجواء حلمية رومانسية , وهي تكتفي من الحشد الذي يكدسه فيصل لعيبي بشخصية منفردة , امرأة تحتضن أسرارها وهواجسها , وغالبا ما تعمد الرسامة إلى وضعها في جو شاعري مدروس بشكل مقنن , أو وضعها مع رجل وهما في جو من المودة التي تلفهما معا بألوان بهيجة تجعل المشهد اكثر دفئا !.

هاشم حنون ... البنى الأيقونية
يؤكد اتكاء منجز هاشم حنون على أيقونات فن ما بين النهرين كبنية هيكلية ، تشبـّع الرسام (بجينات) الفن العراقي الرافديني القديم مما يبقي النسغ الرابط بذلك الفن قويا في كل انتقالاته بين التشخيص والتجريد وتطابق رؤيته و الرؤية السائدة للفن العراقي الرافديني القديم في كونه امتزاجا لرؤيتين قد يبدو من الغرابة والصعوبة تحقيق امتزاجهما معا : حيث لا تقيم أولاهما الاعتبار لما هو خارجي ، قدر انصرافها إلى الجواني ، فتجد في التجريدي ضالتها. بينما ينصب الاعتبار الرئيسي عند الأخرى ، على الموضوع الخارجي المرئي ، لذا نحن لا نعتقد أن التحولات الأسلوبية التي توضحت مؤخرا عند هاشم حنون كانت دون مقدمات (وهذه عندنا تقوم مقام المسببات الجوهرية) ، بل حدثت بفعل تغييرين جذريين في فهمه لما هو الهي و سام و رفيع و روحي و مقدس أولا ، ولدور السطح التصويري ثانيا ، ليس باتجاه التجريد فقط ، كما ذكر الناقد فاروق يوسف ، بل باتجاه محاولة تحقيق اكبر اقتراب من المادة التي يشتغل عليها ، وعبر معالجة تقنية لأحافير اقتطعها من نسيج حائط ، من قطعة جنفاص عتيقة متهرئة (كان يلصق خرقا من الجنفاص المتهرئ على سطح اللوحة) ، وربما من أي سطح صدأ ترك الزمن بصمة مكوثه الطويل عليه ، أو مقطع عرضي اخضع لمعاينة مجهرية ، والأهم من كل ذلك ، حدوث تحول مهم في فهمه للوحة ، منذ سنوات قليلة ، باعتبارها حقلا (سطحا) مسكونا بالأصباغ والخطوط والأشكال ، يخضع لضروب شتى من تجارب الفنان الشكلية والتقنية ، اكثر من كونها تكوينا ، أي بمعنى آخر أن تمثل اللوحة شيئا اكثر من أن تكون تشبيها لشيء.
ورغم حرصه الواعي على إخفاء (مصادره الواقعية) ، إلا أن مصدر الشيء (فكرة الشيء) أو بكلمة أدق (بصمة الواقع التي لا تمحي) تكون قد تركت (علامة لا يمكن إزالتها) ، لأنها (الجرثومة الطوبولوجية) التي هيكلَ الفنان بناءَ لوحته عليها بطريقة لا واعية منذ وضع أولى لمساته على سطح اللوحة . فرغم الحرص الواعي للفنان على إخفاء مصادره الواقعية ، فهو لم يتمكن إلا من قمع بعض العناصر الأولى حيث تظهر بضعة اختيارات من جزئيات الشكل ، بينما قمعت تفاصيل محددة من اجل إفساح المجال للذاكرة أن تضيف عناصرها المكملة ، إنها ذاكرة تمتد إلى الفن العراقي الرافديني القديم الذي تمثله ثقافيا و جينيا.
يبقى إذن اثر علامات الواقع (عناصر المدينة) جاثما ، فاللوحة تملؤها: حشود من شخوص وأجزاء شخوص ، وجوه ، أطراف ، بيوت ، أجزاء بيوت ، شبابيك ، منائر و قباب جوامع مزججة وأئمة ، أسواق، بضائع، جسور، إشارات، جدران، أرصفة، ذهب ونفايات، حيوانات سائبة، شواهد قبور ، نخيل، طرق، تمائم، دوائر وأشكالا هندسية، عربات باعة، بقع، ضوء واقواس قزح، وسيل عارم من الرموز والأشياء والشفرات والمتاهات ،فاللوحة تبنى بشكل مسرب لوني يشقها طوليا يملؤه مثار من ألوان واشارات وشخوص ،وما عنّ للذاكرة أن تلقي بمحتوياتها ، حشد مكتظ تكتسحه قوة إعصارية ترفعه من قاع اللوحة إلى الأعالي .

عبد الملك عاشور ... مفروكات لا تنتهي بأشكال الواقع
إن عملية إنجاز اللوحة عند هذا الرسام ومن ينحو منحاه ، وكما هي عند فناني (رسم الحدث Tachisme) يشكل جزءا جوهريا من متحققها النهائيّ ، ومفتاحا مهما لبلورة مقترب دقيق منها ، فهو يبدأ عمله أولا ، بأن ينقل سطح اللوحة الذي يشتغل عليه ، من وضعه الأملس إلى كيفية يتخذ فيها ذلك السطح شكلا خشنا مملوءا : بمتعرجات Meanders وآثار وما شاءت الصدف من مواد تلقى عليه ، لتشكل لعين الرسام (ملمسا) من (مستحـثات) يمكن أن توفر طاقات محفزة لظهور الشرارة التي توقد الرؤيا فتمنح تلك الآثار طاقة تجعلها قادرة على تلبّس (تحولات شكلية) باتجاه (أشكال مطلقة) ، بالمعنى الفلسفي ، وليس الهندسي و الطوبولوجي ، مما يبعدها عن أية مقارنات أو إحالات إلى أشياء الواقع التي تتخندق ضمن أحد الأشكال ذات المحيط الكفافيّ المماثل في نهاية المطاف .
يسلك عبد الملك عاشور طريقا يماثل ذاك الذي يسلكه رسامو (المفروكات Frottage)، ولكن ، ورغم أن الجميع تقريبا يتّبع تقريبا نفس تكنيك إنجاز أشكالهم ، ينتهي كل منهم إلى شق مختلف ، حيث يعود رسامو المفروكات مرتدين من أشكال سطح اللوحة إلى ما يماثلها من أشكال الواقع ،بينما يتجه عبد الملك ببحثه صوب ما يماثل مستحثاته من أشكال سادت الرسم الحداثيّ العراقيّ بموجب (الاشتراطات) السائدة اليوم ، فيلقي بمهمة البحث عما يماثلها ، من أشكال الواقع ، وهي ليست هدفاً عنده ، على عاتق الملتقّي إذا شاء الأخير ذلك وليته لم يشأ !...

هاشم تايه ... عالم الرغبات السرية
يتمتع أبطال الرسام هاشم تايه ، وهن إناث دائما ، (شخصيات مؤسلبة على نحو تعبيري) ، تتوفر على سطوة وهيمنة وقدرة انشطارية ، كما هم الأبطال دائما في الأساطير - وهو ما سبق وأكده كارل كوستاف يونغ في دراساته عن الأحلام - وغالبا ما تحتل ، هذه الشخصيات ، الجزء الأعظم من مساحة اللوحة : أنثى ، تهيمن على المشهد ، ينبثق منها او على وشك ذلك ، او يلتصق بها ، او يتسلقها ، كائن بهلولي يتقافز حولها قرد صغيراو كائن شبيه به ، وقد يلتصق بها كالقرادة أو يخرج من مكان منها كالثألول ، كائنا صغيرا ، طفيليا ، قد يبدو مزعجا ، ولكنه يبدو ضروريا لاكتمال وجودها ! ، رغم ان صديقنا الكاتب فائز ناصر الكنعاني يصفه بأنه شخصية ثانوية... وعبئ على الشخصية التي يصفها بأنها(الشخصية الأساس) ، (امرأة تشكل عالما مستديرا مغلقا ومعتما ، ومنكفئا الى مركزه ، تهم بواحدة من يديها بإدخال رجل ، بحجم دمية ، من فتحة تفضي الى الخارج) ويصف العملية كلها بأنها (ضرب من الاستبطان النفسي، ينم عن الرغبات السرية) ، و هي تجارب ذات طابع سادي يمارسها الفنان على شخوصه الخرافية حينما يضعهم في غيابة اللوحة ، وقد حجزت حيزا من فراغها ، واقتعدت موقعها من أرضيتها وتحولت الى أرضية تنبثق من فجواتها ونتوءاتها حيوانات وأشكال آدمية أخرى كما لو كانت أعضاء جديدة ، بهيأة الكائن الآخر العبء على (الشخصية الأساس).
بينما يقيم المخطِّـط هاشم تايه أعماله على تنافذ استعاري بين مستويي العمل لديه : البساطة و القوة ، والبساطة تعني ببساطة التخلص من الشوائب الزائدة في الشكل ، وهو توجه تقليلي يحاول الاكتفاء بأقل قدر من الخطوط الضرورية لبناء الشكل ، فكما يصنع الصغار الوجه الإنساني من كلمة (ملح) التي يمطون نهاية الحاء لتشكل دائرة تلتف حول الميم لتلتقي مع رأس اللام ، فقد كان يطلق حركة نقطة (من مكان مجهول من الشكل) خط يصنع أشكالا طوبولوجيا مغلقة، ينتهي من حيث يبتدئ ، يحيط الشكل ، فيصنع بذلك شكلا مغلقا معزولا ، بالخط الخارجي عن بياض الورقة المحيط به ، تماما كما كان يصنع العراقيون القدامى جدارا محيطا لمعابدهم بهدف المحافظة على قداستها بعزلها عن المحيط الخارجي ، وكانوا يسمون ذلك الجدار كيسو ، خط لا بداية له هنا ولا نهاية ، يبتدئ من أية نقطة وفيها ينتهي لصنع أشكاله المغلقة ، خط لا انقطاع فيه ، ولا وجود لتعاقب ارسطوطاليسي من البداية مرورا بالوسط وانتهاء بالنهاية ، هو زمن متعاقب مستمر ابدي لا ينتهي ، فلا وجود إذن لزمان يمكن ان نؤرخ له بتحرك النقطة ، وكأنما انهت الحركة الدائرية للنقطة البعد الزماني الذي يستوجب تسجيلا للتطور الخطي.
يتجسد البعد الآخر للتكوين (= القوة) في جرأة الخط ، أو جرأة النقطة التي يبدو أنها تعرف مسبقا خط سيرها ، لذا تترك أثرا لها خطا قويا محفورا على بياض الورقة ، يمتلك حدة واضحة ، خط يمتلك ثقة ومقدرة على فصل مساحتين من نفس اللون (=الأبيض) ، لذا فهو خط حقيقي يختلف عن المحيطات الكفافية الوهمية التي تفصل مساحتين لونيتين مختلفتين عن بعضهما ، وذلك راجع الى ان التكوين الخطي تصنعه خطوط حقيقية (محفورة) على بياض الورقة يصنعها المداد الأسود الفاحم.

جنان محمد ... هيمنة المشهد اليومي
لقد رسمت جنان في بداياتها الفنية أزقة المدينة البصرة القديمة، وبيوتها وشناشيلها و باصاتها الخشبية وهي تتكئ على جدران البيوت وكأ،ها كائن متعب يغفو عند أحد الأبواب رسمت الترع والقناطر وانعكاس الأشجار والنخيل على صفحة الماء والأزقة والأسواق المكشوفة و الأسواق المسقوفة بلقطات مفتوحة لشناشيل أنجزتها الفنانة برؤية شبه زخرفية، تتنوع فيها المواد المستخدمة إلا أنها كلها تتوفر على شاعرية مكانية فالألوان المائية بلطخاتها الشاعرية الشفافة وألوان الباستيل التي يهيمن فيها اللون الحليبي والأصفر ألفانكوخي على مركز اللوحة اليابسة بينما تنعكس صورة ذلك في الماء الذي يحتل الجزء الأسفل من اللوحة وقد تحتل الجزئيين السفليين أحيانا دروب إفعوانية تخترق الحشائش والأعشاب لتنتهي دائما بأشجار نخيل باسقات ترتفع إلى قمة المشهد أحيانا تكون اللوحة واقعة تاريخية تسجل حدثا ومعلما ساعة سورين ، قنطرة نظران ، العشر، ولكن أبدا تبقى اللقطة فرصة لاختبار القدرة التقنية في خلق الأشكال والتداخلات اللونية والخطوط بعد سنوات من الحوار مع الطبيعة ، انتقلت الفنانة جنان محمد من هيمنة المشهد الطبيعي إلى هيمنة الأيديولوجي وفيها برز التشخيص باعتباره محيط التلامس الكفافي الأوسع ، بين الواقع والفكرة فجرى تحريف النسب والألوان وكل القوانين المتعارف عليها فاكتسى المشهد برمزية سحرية حيث الوجود الملغز للشبابيك والأبواب الموصدة والعوالم (المنغلقة) للنساء العمياوات المنكفئات والمنطويات على أنفسهن وأسرارهن نساء غارقات في لجة تفكير وحزن حينا ونساء متمردات يتجهن بأنظارهن وأفكارهن صوب السماء يرفعن أيديهن ضراعة أوي رفعن الشهداء سماء تملؤها شرفات (مغلقة) ، أو فضاءات متسعة مشعة فارغة تارة وتارة مملوءة بصحف منشورة أو غيوم تمنّ على من يستصرخها بقطرة ماء يتيمة في عوالم عطشى .
إن إحساس الفنانة جنان محمد بوجوب التحول نحو هيمنة عنصر البصري في منجزها التشكيلي بدأ يقودها على استحياء تجاه إعادة ترتيب حساباتها وتغير فهمها للرسم بكونه أولا بحثا في اللامرئي وثانيا بكونه قضية تقنية تنحصر في كيفية تعامل الرسام مع مادته أي قضية (ميتريالية) رغم كل ما قد يحاك حولها من حكايات و(أساطير).
وثالثا كون الرسامة تهيئ نفسها للدخول في المرحلة الأخيرة من أطوار استحالة الفنان وهو استلهام الفن السائد باعتباره النص الأول الذي تتفرع منه هوامش الفنانين التالية كذلك تدخل جنان محمد عالما لتجريد ولكن عبر عملية تسلل بطيئة من الباب الخلفي بخطوات وجلة وهي مثقلة بهمّ (تشخيصي) باتجاه (التجريدي) الذي هو ليس تجريدا تماما فهي تنتقي مفردات محددة من منجزها السابق وعلامات سبق إن وجدناها في المرحلتين السابقتين : شرفات وشبابيك وأبواب مغلقة، وعلامات من واجهات بيوت وأزقة رسمتها سابقا، ثم رصفتها هنا متقاربة في لوحاتها الأخيرة، دون اعتبارات لقوانين المكان وكأنها رقعة شطرنج يحتوي كل مربع فيها على علامة محددة تحيل إلى جزء من الواقع .
إنها إذن علامات من الواقع بقيت راسخة منذ رسوم الطبيعة ومرورا بكل مراحل تطورها السابقة، حيث يتم تكريسها الآن باعتبارها مفردات للوحتها التجريدية التي تحاول جنان محمد تقديمها في الفترة القادمة.

فؤاد هويرف ... الشاخص الهلامي
تحتل كتلة الشاخص عند فؤاد هويرف مهيمنة بارزة ضرورية لبناء اللوحة , بموجب الاشتراطات التي يحاول ترسيخها باعتبارها إحدى أهم المرتكزات الشكلية في بناء اللوحة , مانحا شخوصه الهلامية ملمسا ناتئا ، وهو ما بدأ يظهر في تجربته بعد أن أنجز مجموعة من كالمنحوتات الصغيرة التي صنعها من الطين المفخور الملون لرؤوس بشرية صغيرة مؤسلبة ومحززة ومشغولة بطريقة قاسية مؤثرة تعطي إحساسا بالقدم وبمؤثرات الزمن وبالألم .

عدنان عبد سلمان ... العماء اللوني
عدنان عبد سلمان واحد من الفنانين المتمكنين من الصنعة الأكاديمية والتي غالبا ما تضيع أصحابها حينما يكتفون بمهاراتهم تلك فيتخذون أشكال الواقع مرجعية شكلية لهم لا يحيدون عنها , وكنت خائفا على عدنان عبد سلمان من هذا المصير , الا أنى فوجئت بمنجزه الأخير الذي اطلعت عليه ، فهو ينم عن بحث حداثي يتجه فيه الرسام عدنان إلى الطرف القصي من التجريد , حيث ما اسميه (العماء اللوني) , الذي تظهر فيه المادة عارية من إمكانية تشكلها أو قبل تحقق إمكانية تشكلها , وحيث تبنى اللوحة من مسطحات لونية تمتلك هارمونية لونية و ملمسا لطيفا يعطيها طاقة لوني تعبيرية لذيذة .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق