يبدو فن الرسم الكاريكاتيري خرقا للنسق العام لفن الرسم حينما يهدر،بما يتوفر عليه من خصائص مميزة، أو يبدو وكأنه يهدر المشترك العام للحقل البَصَري، ونعني به (مادة التعبير) matie`eve de l`expression ، وهو الطابع الشيئي لمادة الرسم وللوحة، كما يبدو وكأنه يشكل خرقا لأهداف التحليل السيمولوجي للصورة في استنباط (التشكلات البنيوية) أي (أشكال المحتوى وأشكال التعبير)، من خلال (هيمنة) اللغوي على خطاب الرسم الكاريكاتيري، ذلك الرسم الذي يتصف بكونه حقلا جامعا لدرجة من الايقنة والتماثل البَصَريَين مع درجة من اللاتماثل والاسلبة، وهي من مواصفات النسق البَصَري؛ وبذلك ينتمي فن الرسم الكاريكاتيري إلى نمط الحقول المختلطة التي يمتزج فيها الخطاب اللغوي والخطاب البصري: كالإعلانات، والسينما، والتلفاز، وبرامج الكومبيوتر ومواقع الانترنت، وكل الصور المرفقة بالكتابة والكتابات المقترنة بالصور،فتكون أهم المظاهر المختلفة هي كون الصورة الكاريكاتيرية لا تستحيي من الوظيفة التواصلية الابلاغية للخطاب، حاله في ذلك حال أنماط عديدة من أنماط الصور، وهو (أي الكاريكاتير) يهدف في محصلته النهائية إلى إحداث مفارقة: مضحكة حينا ومحزنة حينا آخر، من خلال تشاكل الكلام (اللغة) وعناصر الرسم (البصري)، وبذلك فالصورة الكاريكاتيرية تتصف بكونها ذات طبيعة مكانية – زمنية (=تتابعية) في الوقت ذاته تمتزج فيها رسائل الخطاب في جانبها البصري، بينما تتلو الرسائل بعضها بعضا في الجانب اللغوي(التعليق)، وبذلك تعد الخاصية الخطية وغير الخطية توأمان هنا دونما زيادات وعلامات اعتباطية. وهي كلها تثير في النهاية خطابا لغويا كأحد أهم نواتج عملية التلقي التي لا يمكن أن تتم دون لغة واصفة تحقق الفهم ألتأويلي من خلال اللغة فتحيي إنتاج علامات الرسم.
لقد تفرد رسام الكاريكاتير الراحل مؤيد نعمة في كون الجوانب البصرية التقنية التي يبثها موزعة على صفحة الرسم الكاريكاتيري الذي ينجزه: كالخطوط، والحزوز، والنقاط التي يقطرها على صفحة الورقة مباشرة من الدواة، وإشارات الحركة، وبعض العلامات الدالة على الشعور كالتعجب والهلع المجسدة بعلامات بصرية، ووسائل التظليل والعتمة والضوء، كلها عناصر يعاملها باعتبارها تنتمي إلى (مادة التعبير)، أي إلى البعد الشيئي للوحة (=الحبر الأسود الفاحم غالبا) ، "فالخط عند مؤيد نعمة ليس حدودا ولا أطرا، بل صرخة قلم مستفز وهذا ما يميز رسومه وشخوصه .. انه أداة تثوير وتحد بكل محمولاته التكوينية والأدائية لأنه يترك حتى الفضاء سليما من خطوطه الخادشة .. لقد كان مؤيد نعمة أمام طريقين لتثوير وعي التلقي أمام اللوحة: من خلال الأداء اللوني والخط" كما يقول د. فائز يعقوب الحمداني ، بينما يتخلق في البعد الآخر اللاشيئي أو اللغوي هامش واسع من الموضوعات التي توزعت بين مشاكل المواطن اليومية أو مفارقاته كمنتم إلى واقع طبقي او فئوي له همومه وملابساته المختلفة عن هموم الآخرين، فكانت شخوصه أبطالا لنسق ذي انتماءات ومصالح متباينة: كالمتقاعدين، والعمال، والطلاب، والمثقفين، والنساء، والرجال. وموضوعات أخرى تخص الثقافة العراقية وهموم منتجيها وغربتهم الحياتية، وموضوعات السياسة في العراق والعالم، فعرّض الولايات المتحدة الأمريكية، وبعض أنظمة الحكم العربية السائرة بركابها، إلى نقد لاذع لم يعرّضها له رسام كاريكاتير آخر غيره إلا الفلسطيني ناجي ألعلي.
لقد تجسدت أهمية الرسام الراحل مؤيد نعمة في كونه شكّل البوابة الأهم لتحوّل الرسم الكاريكاتيري العراقي نحو الحداثة، فمن خلال توظيفه أساليب المدرسة السوفيتية والأوروبية الاشتراكية السابقة، في تناول الموضوعات، كما يقرر رسام الكاريكاتير ضياء الحجار،استطاع مؤيد نعمة الارتقاء بموضوعاته تلك لجعلها تلامس أدق الجوانب الإنسانية في حياة وبشكل مؤثر، بينما كان تمثله لمنجزات (المدرسة اللبادية المصرية) –نسبة إلى الرسام المصري محيي الدين اللباد- في أوائل مسيرة مؤيد نعمة، وهضمه تأثيراتها، شكلا جديدا آخر وحداثيا، حافظ فيه على درجة كبيرة من القطيعة عن كل تلك التأثيرات التي هضمها بعد ذلك بشكل صهرها في نسيج موحّد ومتكامل هو أسلوب مؤيد نعمة الذي تفرد فيه عن كل رسامي العالم الآخرين.
لقد حافظ مؤيد نعمة ،في كل ذلك، على درجة من المماثلة مع الشكل البشري والمشخصات عموما،مقارنة مع اللباديين ، ومع تجربة كاريكاتيرية عراقية أخرى هي تجربة خضير الحميري ذات الاختزال الشديد؛ فكانت تجربة توفرت على درجة من الاسلبة stylization الجوهرية لنسق الخطاب البَصَري، وكانت المرتكز المهم في تجربته، وفي تقبّلها من جانب قطاعات متنوعة من أنماط متباينة من المتلقين وعلى حد سواء، فكانت تجربة رسم سهلة ومترفعة في آن معا، احتلت حضورها وفرادتها بشكل قلما توفر سوى لقليل من تجارب الرسم الكاريكاتيري باتجاه تهذيب الفكرة الكاريكاتيرية وحداثتها.
لقد تنوعت تجربة مؤيد نعمة لتتعدى الرسوم الكاريكاتيرية التقليدية في الصحف والمجلات إلى رسوم الوجوه بالأسود والأبيض وبالألوان بإبداع اشترك معه فيه الرسام العراقي علي المندلاوي، وأيضا في عمل اغلفة مجلات الأطفال بأسلوب ينم عن أستاذية لا جدال فيها، كما كان إنجازه عددا من الرؤوس السيراميكية الكاريكاتيرية قد نقلت فن الكاريكاتير من عالم البعدين إلى عالم النحت المجسم.
لقد كان تميزت تجربة مؤيد نعمة بغزارة الموضوعات والأفكار التي تميزت بالجدة وعدم التكرار، وتنوع الأشكال على الدوام ، فهي حالة نادرة جنبته السقوط في القالبية الشكلية الجاهزة، فكان ينجز تلك الرسوم مثقلة بالتفاصيل الغزيرة أحيانا ليمنحها طاقة تعبيرية مما أثقل عليه كثيرا فشكّل - على ما اعتقد- عبئا ثقيلا عليه أدى في النهاية إلى توقف ذلك القلب الطيب الذي أضحكنا وآلمنا كثيرا حينما منحنا فرصة التماهي مع شخوصه الذين يسقطون في مفارقة استثنائية مضحكة ومبكية في آن معا !!.