النحات محمد ناصر الزبيدي في معرضه الشخصي..
(الفضاءات والجسد الحر)
جسد في الفضاء..
مـادة في الفراغ..
"صدِّق الرسام فيما يعمل، ولا تصدق أقواله التي يطلقها حول أعماله"
دافيد هوكني
خالد خضير ألصالحي
البصــــــــــــــــــــــرة
khkhiraq@gmail.com
1
من البصري إلى اللغوي
.. تجربة شخصية
كتبت مرة في معرض دراستي لقصيدة (عيد البوقات) للشاعر حسين عبد اللطيف "إن الاشتغال من خلال اللغة هو إحدى نعم الكتابة النقدية التشكيلية وإشكالاتها في الوقت ذاته، وهو أمر يتلمسه النقاد المهتمون بالفن التشكيلي وبالشعر معا، فقد أكد الناقد التشكيلي سهيل سامي نادر مرة "أن لا وجود للنقد الفني بوصفه حركة مستقلة، انه نص يختلط بنصوص أخرى .. انه لا ينفصل عن التقاليد الأدبية، فخطته أدبية، أوصافه وتعابيره، و لاسيما لغته كلها، وطريقته في الحكم". ولأننا كنا قد بدأنا علاقتنا بالثقافة قد بدأت لغوية، من خلال الأدب، ، والشعر خاصة، جعلتنا نبحث ، معظم الوقت ، في تخوم العلاقة بين هذين النمطين الإبداعيين، رغم أنهما من طبيعتين مختلفتين: طبيعة لغوية، وأخرى بصرية، إلا أننا نشعر بوشائجهما قوية بشكل محسوس في ميدان الصورة الشعرية والبصرية معا، إلا أننا رغم وجهة النظر هذه التي نزعم أنها خبرت كلا الفنين بدرجة لا بأس بها، وهو ما يجعلنا نتعامل مع الجوانب البصرية للغة، أو ما تسميه هناء مال الله (العناصر التكوينية للوحة) بشكل يجعلها أمامنا وكأنها لوحة، باحثين فيها عن الجوانب البصرية، وعن ما يربطها بالرسم من الناحية البنائية، إلا أننا بقينا غير ميالين بدرجة كبيرة إلى الاعتماد على النص اللغوي الذي يكتبه المبدع او مرسل الخطاب اعتمادا في ذلك على ما نشعره من اختلاف في طبيعة الخطابين: البصري واللغوي، وبذلك فنحن كنا نقصر اهتمامنا وثقتنا بما يبثه النص البصري باعتباره الوثيقة الوحيدة المطروحة للقراءة ومن ثم التأويل هنا، أي كمون مركزية القراءة في النصوص البصرية، إلا أننا خرقنا هذه القاعدة حينما درسنا نص (عيد البوقات) للشاعر حسين عبد اللطيف الذي نشره في نص (كتاب) ديوان نار القطرب ، وقد قلنا نص كتاب للتدليل على الجانب (المادي) للكتاب، وهو ما قادنا إلى ان ذلك (الكتاب الذي بين الدفتين) لا يقتصر على (المدونة) اللغوية بل يتشكل ، برأينا من مجموعة من الإكسسوارات، او ما اقترح القاص محمود عبد الوهاب في محاورة شفوية لي معه تسميته (هوامش العنوان) على ما اذكر، وهي: صورة الغلاف ولونه، و العنوان ونوع خطه، وشكل الحرف، وعناوين القصائد ونصوصها، ثم التصديرات والإهداءات والهوامش والمقتبسات، ثم ما فعلته أنا بعدد من النسخ حينما قمت بالرسم في الفراغات التي بين نصوصها.
وحينما درج نقاد الأدب يبتدئون بالعنوان، باعتباره بوابة النص، وهو هنا يتوفر على بنية صورية ورمزية دالة بعمق، فنحن نبتدئ مما يهمله أولئك النقاد، وهو الغلاف، باعتباره بوابة الديوان القرائية الأهم، ونحن نزعم إننا أكثر معرفة بأهمية هذا الغلاف باعتباره دالة قرائية مهمة وبؤرة لامة؛ بسبب كوننا من قام بتصميم ورسم الغلاف، وهو تخطيط بالحبر الصيني، مصورا بطريقة الصورة السلبية (النيجاتيف)، ويمثل واحدا من مجموعة من أقدم الدمى والتماثيل الحجرية المجسمة العراقية القديمة التي ارتفعت فوق مستوى الحرفة الصرف الى مرتبة الفن الحقيقي، وهي مجموعة من التماثيل الكلسية بحالة غير جيدة، وقد وصلت إلينا من الوركاء، ولم تلاق في حينه أي اهتمام لكونها مهشمة، فاعتبرت فرثية خطأ بسبب الموقع الذي وجدت فيه؛ لذا فقد استبعدت من تاريخ الفن التشكيلي السومري، وان واحدا منها يمكن تمييزه - على الرغم من حالته المحطمة - كرجل ذي لحية كثة غريبة على شكل قرص تغطي ذقنه وخديه، وهو يعود إلى عصر فجر التاريخ في بلاد سومر، وان حال شعر الرأس واللحية يوحي بأنه شعر أمير، لأن الإكليل السميك هو لباس الرأس لدى الأمراء في عصري الطبقة الرابعة في الوركاء وجمدة نصر. وقد اعتبره الدكتور فوزي رشيد تمثالا للإله تموز في مقال له في مجلة (الرواق) التي كانت مهتمة بالفن والنقد التشكيليين، وهو النموذج الذي كان شكل مرجعيتنا البصرية والدلالية، عند إنجازنا الغلاف.
ونحن نعتقد ان الغلاف هو جزء من هوامش العنوان؛ فرغم ان الغلاف لم يرسمه الشاعر، إلا انه وافق عليه، وتبناه فكان بالنسبة إليه مادة نصية جاهزة، يماثل ما يعرف بالمواد الجاهزة (ready made) التي يستخدمها في بناء (كتابه).
2
مطويات المعارض
لقد عرف كاسيرر الفن بأنه لغة رمزية، وهيمن ذلك التعريف على الدراسات الفنية في القرن العشرين، فكان اخطر نتائج تلك الدعوة، حسبما يؤكد جورج كوبلر، ان استأثرت دراسات المعنى بكل الاهتمام ، فكان "الحكم على العمل الفني في ضوء مضمونه, سبيل يؤدي الى تدخل كل أنواع الأهواء والتحيزات التي لا صلة لها بالأمر" كما يقرر (هربرت ريد)؛ فتراجع تعريف الفن بكونه نظاما من العلاقات الشكلية، وهو التعريف الأهم برأينا، رغم انه مازال بعيدا عما ألفه الناس، فقلما يعتقد سوى القلة من المختصين في الفن التشكيلي بآفاقه الحداثية ان اللوحة ليست في النهاية إلا سطحا مطليا بالمادة، أي الإقرار (بشيئية اللوحة) ومادية التعبير، وان جل ما يكتبه الرسامون في مطويات معارضهم في العراق ينصب في جانب المعنى بمختلف اتجاهاته، وهذه ، برأينا الخطورة الأولى في تلك الكتابات، كونها تكرس تناول المعنى على حساب متيريالية اللوحة.
وتتمثل الخطورة الثانية في اتجاه تحول كتابات التشكيليين في مطويات معارضهم إلى ما يؤدي إلى بث موجهات قرائية متعمدة كما كانت تنتهي إليه كتابات شاكر حسن آل سعيد، وقد تتحول تلك إلى موجهات قرائية دون قصد من الرسامين أنفسهم حيث يقوم الكتاب بتناقلها كمسلمات مفروغ منها، كما يحدث في تناقل هؤلاء النقاد الفهم السائد بأن تجربة الرسام فيصل لعيبي لا تعدو ان تكون رسوما ذات طابع محلي لا يشكل سوى امتداد متأخر لجماعة بغداد وطروحاتها غافلين عن الأبعاد البلاستيكية في هذه التجربة، وهو ما أخر اكتشاف كوامن تجربة فيصل لعيبي واكتفاء معظم الكتاب عن القشرة الفولكلورية لهذه التجربة وهو الأمر الذي أثبتنا تقصيره في إحدى محاضراتنا عن هذا الرسام.
ثالثا، لقد سرت قضية اختراع حوامل خادعة supports سرعان ما يقع فيها الرسام نفسه بطريقة الخداع الذاتي بعد ان يبدأ الكتاب بتناقلها العمياني، فيبدأ الرسام بتكرار ترديدها مما يعرض التجربة إلى خطر التناسخ الداخلي الذي يجعلها تدور في فلك حلقة مفرغة تؤدي إلى توقف إيقاع التحولات الأسلوبية فيها.
رابعا ، لا يمكن نكران وجود رؤية فنية تنظيرية متكاملة لدى بعض الرسامين ممن يحاولون تطويرها من خلال معارضهم التي يقيمونها وينظرون لها في مطويات معارضهم، والأمر هنا دقيق ، فيما إذا كانت التنظيرات والتجربة البصرية متساوقة حقا، ام ان ذلك ادعاء ليس إلا أننا نستثني أحيانا الرؤية النظرية المعروفة في مطوية المعرض ونعتبرها مدخلا قرائيا يقترحه الفنان بصفته قارئا للمنجز وليس بصفته منتجا له، وهذا هو السبب الوحيد الذي لأجله كنت (أؤسس) بعض وجهات نظري على الرؤية التنظيرية في مدونة المطوية.
3
لم يعد همُّ الدراسات النقدية "البحث عن المعنى وتحديده ومحاولة إرجاعه إلى نية الكاتب ومقاصده، لان النقد في الأساس لا يتعامل مع النوايا والمقاصد، بل يتعامل مع كينونة النصوص أي من حيث هو موجود. اما النوايا فمجالها الأخلاق والايدولوجيا والفلسفة" (د.حسين خمري، نظرية النص، الدار العربية للعلوم ناشرون، ط1، 2007، ص13)، فهل يمكن اعتبارالنصوص التي ترافق التجربة البصرية في باب المقاصد المسبقة والنيات القبلية؟.
4
نتساءل مرة أخرى: مثلما اعتمدنا الهامش البصري جزءا من النص اللغوي في الكتابة عن نص (عيد البوقات) للشاعر حسين عبد اللطيف الذي نشره في (كتاب) ديوان نار القطرب ، هل يمكن ان نخوض معكوس لآلية السابقة فنسمح باعتبار النص اللغوي (المطوية) هامشا للتجربة البصَرية مثلما اعتبرنا الغلاف هامشا للنص اللغوي؟.
5
لقد أقام النحات محمد ناصر الزبيدي معرضه الشخصي (الفضاءات والجسد الحر) ضمن فعاليات (أسبوع المدى الثقافي في البصرة)، وقدم فيه تجربته الأخيرة في النحت بالخشب، وهو في مدونته القصيرة التي كتبها في مطوية المعرض يقترح بعضا من المفاتيح الخارجية للقراءة؛ فيبثها تفاريق تشغل سطح المطوية. فأضاف عنوان (الفضاءات.. والجسد الحرّ) ليعلن منذ البدء ان أعماله النحتية ليست إلا عنصرين ضديين هما المادة (=الجسد) والفضاءات (الفراغ)، وربما يعترض احدهم ويعتبر استخدامه تعبير (الفضاءات) استخداما مجازيا ليس إلا وهو قد يعني آفاقا او موضوعات او أي معنى آخر، وهو اعتراض قد يبدو مقبولا إلا ان تقدمنا خطوة أخرى سيكون مفيدا في تحديد عنصري هذه الثنائية الضدية فهو يصف هذين العنصرين بـ"ـالجسد المكشوف في الفضاء الخالي" وبذلك يقرن الفضاء بالخلاء، إلا انه يعود ليبلبلنا بلغته الاستعمارية حينما يذكر ان "الجسد يبحث عن حيز في فضاء الروح" حيث يجعل الجسد باحثا عن حيز لكن في فضاء الروح وليس في فضاء النحت، إلا ان ذلك، برأيي ،لن يخيفنا فسيتراجع عن عناده أخيرا ليحدد بدقة ان هذه الثنائية باعتبارها "المكان الخالي والأشياء الشاخصة"، وليصف تلك "الاشياء الشاخصة" بانها "أشكال مجردة بعيدة عن القيود والتفاصيل"؛ وبذلك فقد كانت هذه باعتقادنا، ووفق قراءتنا هنا، موجهات قرائية هي في حقيقتها عناوين تحيل إلى عناصر النحت المادية وإنها ليست مقيدة إلى المشخصات وتستمد منها شرعية وجودها؛ كما هو الفهم الذي لمسناه مهيمنا على متلقِّيْ المعرض، فقد كان الكثيرون يبحثون عن علاقة ما مع مشخصات الواقع لتكتمل عملية التلقي، بينما كان حضور مادة الخشب كافيا لنا نحن الباحثين عن الجمالية الخالصة: بلونه، وملمسه، وتفاصيل سطحه التي تبقي روح الشجرة كامنة في جسد المنحوتة، رغم تلبسها روحا أخرى هي روح الجسد البشري.
كانت منحوتات محمد ناصر الزبيدي تلمّح، ربما عن قرب وربما عن بعد، بأجزاء الجسد الإنساني، ورغم ان منحوتاته مازالت (أشكالا مجردة) بعيدة عن قيود المشخصات وتفاصيلها، إلا أنها تلمِّـح إلى الأشكال البشرية وأجزائها، هذه حقيقة ولكن ذلك لم يكن من باب محاكاة المشخّصات، بل من باب التلامس الحيّ مع الموضوعات الأساسية للحياة.
ان تلميحات محمد ناصر الزبيدي لأجزاء الجسد الإنساني كانت تدفع المتلقين إلى إحالة المنحوتة إلى اقرب المشخّصات لها فكان التشاكل الصوري بين الشجرة والجسد البشري، بين مادة الخشب وبين الشكل البشري؛ قد بلغ في معرضه هذا حدا جعل المتلقين يمررون عملية التلقي عبر البحث عما يماثل الكتلة النحتية من المشخّصات في الواقع،فكانت تلك الآلية تخدم حينا ولا تخدم حينا، تخدم حينما يجد المتلقي (موضوعا) يربطه بتلك المنحوتات، بينما كانت تعرقل عملية التلقي لأنها تبعد المتلقي مرحلة عن مادية النحت، ومادته التي تشكل جوهر عملية النحت.
يعتمد محمد ناصر الزبيدي على صلادة المادة التي تشكل جسد المنحوتة فيمنح ذلك منحوتاته وجودا أكثر محسوسية، ويعطي للمادة هيمنة كبرى في تشكيل (فضاء) المنحوتة ومن ثم وجودها. وهو يحاول ان يطوع أحيانا مادته، او يقسرها مما يؤدي إلى تغيير أفق التوقع التعبيري للمادة، تغييرا قد يعتبره البعض تفجيرا او تقييدا، إلا انه نقل آليات التعبير من نمط تعبيري ينتمي الى مادة ما، إلى نمط تعبيري ينتمي إلى مادة أخرى، فهو يمارس نحت الخشب مثلما يمارس النحات العمل بمادة الطين المشغول بعد ذلك بالبرونز وذلك يدل على براينا على الحرفية العالية محمد ناصر الزبيدي في تطويع المادة لموضوعات معقدة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق