الثلاثاء، 12 أغسطس 2008

الرسام هاني مظهر

الرسام
هاني مظهر













الصور الأولى


في مقال سابق لي عن الرسام العراقي المغترب في لندن هاني مظهر ، وكان بعنوان (تجربة الرسام العراقي هاني مظهر .. يتجاذبها مستقطبان رئيسيان من الفن الرافديني) افترضت بداية وجود مايشبه النظام الجيني الذي ينقل مورثاته من العام الى الخاص في التجارب الفنية، اي من الحركة العامة في الفن لتنتهي مستوطنة التجارب الفردية، فافترضت انتقال جينات الفن الرافديني القديم إلى جيل الفنانين المعاصرين وتحديداً الرسام هاني مظهر، وأهم هذه الصفات الثقافية الموروثة هي توحّد السماويّ والأرضي في ذات التجربة ، فلقد استند الفنّ العراقّي السومري إلى نظرة دينية شاملة للكون ... وكما يقول أنطوان مورتكات ، ويؤكد بأن(روح ذلك العصر امتزجت فيه المادة والروح أحدهما بالأخرى) ... بل أنهما راحا منذ البداية يوطّدان طابع الفن السومري في الصورة المنفردة وفي تركيب الأشكال أيضاً، فلقد استمرت الصفتان الأساسيتان تتصارعان في الفن العراقي الرافديني القديم وعلى مر العصور.
فجاءت تجربة هاني مظهر متجاذبة من ذات المستقطبين الرئيسين للفن الرافديني، وهما يشكلان عنده معاً البؤرة المولدّة لكل إبداعاته، فقد شكَّل المقدس( الإلهي، السامي، الشعريّ، الخيال المطلق) والأرضيّ ( الحّسي، عالم المشخّصات بما فيها من أشكال وعلامات ) عناصر (ميزانسين) لوحة هاني مظهر، وذلك تبعاً إلى درجة الشدّ التي يمارسها أحد هذين المستقطبين، حيث يفرض كل منهما طبيعة عناصر اللوحة عنده، فيقترن المقدس بالتجريد في درجاته المتطرفة (العماء اللوني)، بينما يجرّ الأرضيّ اللوحات إلى الموجودات الأرضية المشخصة ، وتدخل ضمنها العلامات ومنها الهندسية.
فكان يستعين بتقنية الإشارات العشوائية في إعادة ترتيب وموازنة عناصر اللوحة وبالتالي نقلها من مستوى لأخر، من الشعريّ( التجريد) نحو الأرضي (التشخيص) ، أي من الباطن (العماء) إلى الظاهر من خلال إجراء عملية الانقطاع التي وصفناها في مقال سابق عنه ، والتي يخلقها البياض المضاف إلى اللوحة ، وهو ما يوفر فرصة لاستثمار تقنية حقل الإشارات العشوائية مترامي الأطراف من المتعرجات ، وإن لم تكنْ تلك التقنية كافية، فستكون نتيجتها توفر الشروط اللازمة من أجل تحقّق فعاليّة العلامات باتجاه تشكل تكوينات خطية، قد تحدث بصفة عرضية، ولكنها في النهاية توصي وتؤدي إلى ظهور أشكال لا تحتاج سوى إلى إضافة لمسات طفيفة من الخطوط لتتحول إلى مشخصات ( أشكال أرضية) من خلال تحقق الاندماج الشكليّ كنتيجة أخيرة، فيبدأ هاني مظهر بإضافة إشارات ( علامات) هي مرحلة وسط بين العماء وبين التشخيص، ونقصد بتلك العلامات بعض الأشكال الهندسية، والإشارات الكتابية، كالمثلثات والدوائر والحروف والإشارات المرافقة لها، والأرقام والخطوط والنقاط ومجزءات كل تلك العلامات، وبذلك يحتكم هاني مظهر في النهاية إلى الجانب العقليّ من الرسم، والذي يعود باللوحة إلى سماتها الأرضية ( الحياتية) المفقودة فتغزو العلامات المشخصة أخيراً سطح اللوحة وعمائها اللوني .
الا انني الان بدأت ااقرأ هذه القضية بشكل اخر ، وهي انها قوة وحركة بندولية تتأرجح بين جاذبين رئيسين هما: مشخصات الواقع من طرف ، والمعطيات المجردة (=السحنة اللونية والشكل الهندسي واللامشخص) في طرف مناقض، فكان بندول تجربته يتأرجح تارة صوب المماثلة (الحرفية) مع مشخصات الواقع وتارة صوب لوحة تتسيدها الدلالات التعبيرية للون دونما وجودٍ محسوس لأية علاقة مشخصة، سوى تلميحات هندسية، ذلك راجع برأينا الى تشبّع الرسام هاني مظهر بأشكال المشخصات وتوفره على مقدرة لونية عالية تجعل تجربته في حنين دائم لتلك العناصر، فرغم محاولاته المستمرة لابقاء خيط رفيع يربط اشكاله بمشخصات الواقع الا انه يبقى رساما تجريديا متمكنا ، تهيمن على لوحته اشارات ليست مشخصة ولكنها ذات طبيعة هندسية يحاول ان يجعلها مهيمنة شكلية في بناء لوحته، وكأنما كان يحاول التخلص من انطباعاته الذاتية وشحنها بعناصر معرفة (موضوعية) تكبح جماحها، وبذلك فهو، حتى وان اتخذ (اشكال) الواقع، وغالبا ما تكون هندسية، فانما يقدمها عبر مسبقات يقينية، كما يسميها باشلار او من خلال (هندسة ملموسة) على حد تعبير meny ،وبهذا يعكس هاني مظهر رغبة متطرفة وخفية في (تهندس الرؤية) وهو ما دفعه الى البناء على (بلورة هندسية)، تماما مثلما يبني هاشم حنون وفاخر محمد تجربتهما في الطرف الاخر من التجريد على ( بلورة مشخّصة)، وغالبا ما تكون تلك البلورة الهندسية، عند هاني مظهر، مثلثا مقلوبا (قد يمكن الانتباه الى دلالاته الانثوية والجنسية في لوحة هاني مظهر ، كما قد يمكن التذكير بدلالاته الخصوبية كما هو عند هناء مال الله)، هذه البلورة الهندسية تهيمن لونيا وتكوينيا على طوبولوجيا اللوحة غالبا، وبذلك يؤنسن هاني مظهر اشكاله المجرّدة والايحاء بشخصنتها من خلال استلالها من الشكل المشخص، بذلك فقد ترك الباب مواربا للعودة ثانية الى (الصورة المادية) التي تحقق ارضاء سريعا للنفوس التي تبحث عن ضالة مشخصة، فكان هاني مظهر يتعامل مع تلك (البلورات الهندسية) باعتبارها (الصور الاولى) حيث الرياضيات الغامضة التي تتسم بالافتقار الى الوضوح الشكلي الكافي ، انه اذن يلجأ الى نمط من هندسة مبسطة و(مشاعة)، تبحث عن (بساطة جوهرية) هي ما يبحث عنها الرسام ذاته، فتنتهي اليها تجربته حيث تستعاد اشكال الواقع من خلال اصغر عناصره الهندسية التي تشكل حدا كامنا في النفس الانسانية في مراحلها (القبعلمية) حيث الصور الهندسية شديدة الاغواء للحواس، وحيث يتم النظر لأية اشكال مغلقة باعتبارها اشكالا طوبولوجية مغلقة كما يقرر ر. روجرز، لتشكل (بقعة) لونية تشكل بدورها (كميات ممثولة) هي في منزلة ما بين الملموس والمجرد يشتغل العقل فيها للوصول الى درجة من التوفيق بين (الرياضيات) والهندسة، بين القوانين والوقائع، فينجذب الفكر نحو( بناءات) اكثر تجريدا مما هي واقعة، نحو (حقول تصورية) تتقبل التمثل الهندسي، الذي لم يصل الى حدود التجريد الرياضي، وبذلك تثبت العقول البشرية ، مهما توغلت في الاستنارة، ان ظلالا من اثار الانسان القديم ما زالت تسكننا، بل وتسكن حتى ارقى العقول تجريدا.
يتأرجح بندول تجربة هاني مظهر، وهو في بحثه التجريدي في ثلاثة اقانيم مختلطة ومتواشجة تماثل المراحل الكبرى في تحول العقل البشري نحو التجريد وهو ما فصله باشلار بعمق حينما شخصها بأنها: الحالة الملموسة ، حيث يتلهى العقل بالصورة الاولى للظاهرة، ثم الحالة الملموسة المجردة حيث يضيف العقل من عندياته الرسوم الهندسية مستندا في ذلك الى (البساطة)، واخيرا (الحالة المجردة) حيث يباشر العقل بمعالجة المعلومات المأخوذة طوعا من حدس الميدان الواقعي والمنفصلة طوعا عن التجربة المباشرة، فكان هاني مظهر يتنقل بيسر خلال هذه الاقانيم منذعقود.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق