الاثنين، 11 أغسطس 2008

(هفوات الدهشة) هفوات بصَرية ودهشة مبعثرة







(هفوات الدهشة)
هفوات بَصَريّة... ودهشة مبعثرة
-1-
أثار ديوان (هفوات الدهشة) للشاعر سلام الناصر عندنا درجة مماثلة من (الدهشة) من خلال أولاً اختيار (المفتتح البَصَري) كما يسميه الناقد عباس عبد جاسم، وهي لوحة رسمها الرسام العراقي المقيم في لندن يوسف الناصر، وهو رسام تعبيري وملوّن من طراز خاص، وثانياً من خلال اختيار العنوان، فلم نقتنع ان اختيارهما كان عشوائياً، ربما كان اختياراً (لا واعياً) ولكنه ليس عشوائياً فبورتريت الغلاف هو مناسبة لاكتشاف (الهفوات) التشريحية التي قد يعتقدها رسامون أكاديميون في تشريح الوجه، ربما رسامون من أولئك الذين طوقت رؤيتهم القوانين الأكاديمية حيث يثير تكنيك إنجازه أكثر من علاقة للدهشة، ذلك من الوجهة البصرية، أما من الناحية اللغوية، فان عتبة العنوان مستلة (كلها) من المتن، وليس كما يبدو من نتائج البحث غير المتقصي الذي ربما ينجزه أحد القراء الباحثين، (فهفوات) هو عنوان للقصيدة (18) وفي صفحة (58) من الديوان بينما ينبث النصف الثاني من العنوان، أي (الدهشة) في ثنايا متن الديوان بثلاث كيفيات هي: مباشرة ومقلوبة، ومبعثرة فقد وردت كلمة الدهشة في ثنايا الديوان عدة مرات منها:
(طوبى لتأويلك.../ لفزعك.../ للشرايين التي ضاقت مكبوتةً/ بالحلم المتسرّب بين الأصابع، للرُقي الفتي منذ عقود الانتشاء/ للتأقلم الفطري بحضارات الدهشة) (تباعاً) ص4
(على بساط الغيمات أحل/ مستنداً برخاوةٍ القطن / وفراغات الدهشة... كورت ظلاً للبهتة والخذلان)
(الشاهد رقم صفر) ص23.
(حين عدنا، تتقاذفنا انحدارات الرصيف/ أمسك عصباً تائهاً بمخمور ارتيابك/ وتفيق من دهشة الانحدار والابتكار)
(رفقة) ص32
كما وردت كلمة (دهشة) مقلوبة في عدة مواضع من الديوان: أولها عنوان قصيدة (مشهد) ص37، وهو نص يرتقي باليومي من الاهتمامات إلى مستوى الشعر.
كما وردت مقلوبة في قصيدة (ايفتسا) ص49.
(الضوء الدوار، بأطراف المطار، شاهد/ في كل لصفة حب، كنت عذرياً)
(من لي ببغداد غير الآه والطرق/ فخلتها صورةً من مشهدٍ قلق)
(بغداد)ص63.
وقد وردت محرفة قليلاً مرة:
(شدهنا مثلهم)
(أنامل) ص106.
وأحياناً وردت مبعثرة ومقلوبة داخل كلمة على طريقة الكلمات المتقاطعة:
(اصح على فجر صادق/ سترى حلم (سليمان)/ بمقهى الشاهبندر)
(براويز) ص45.
وربما مبعثرة في جملة:
(وهناك أشجار الخلود)
(مشهد) ص38
حيث جاء كل حرف في كلمة (هـ، ش، د) لتؤلف الفعل (دهش) مبعثراً وبذلك يكون غلاف المجموعة مدخلاً لغوياً -بصرياً يضم بين جنباته هفوات الشاعر التي يشعر بها جاثمة عليه، ودهشته البكر التي جلبت عليه مصيبة الشعر كلها.
-2-
ان واحدة من اكبر سمات نص سلام الناصر هو محاولته الارتقاء باليومي إلى الشعر ففي قصيدة (هفوات) يقول:
(سألتني الزوجة: ماذا انتخبت؟/ سألتها: ماذا انتخبتِ؟ فتوردت وجنات طفلتنا/ بأطياف العراق!)
(انتخابات)ص60
وكانت أهم سمة لهذا النمط من النصوص هي تركيزها (لخلاصة الحكمة):
(شجرة الرمان مزهرة/ هيفاء.../ بطول أمي)
(أمومة) ص61
(على وجه البحر يمشي/ المخلِّص.. وكنت غريقاً)
(يسوع) ص61
وكانت إحدى أهم سمات النصوص القصيرة، إضافة إلى صفتها المركزة وانتهائها بخلاصة كلمة في النهاية، هو بنيتها وفق شكل الهرم المعتدل حيث تكون الحكمة خلاصتها ونهايتها، بينما لا بنية واضحة للقصائد الطوال على الأغلب، ان واحدة من التقنيات التي يحاول سلام الناصر استخدامها هي إيراده جمع المؤنث السالم ساكن النهاية كقافية، وأحياناً ما يشابهه صوتاً:
(مالها تختفي بما تسمع في الباصات)
(طائعة تأتي فأتبعها السبات)
(ونصيد أجواء لها متباعدات/ قد لا يراها
غيرنا وسط الزعيق/ وبقايا الأغنيات/
سنحيلها زرقاً وخضراً حالمات)
(كلمات) ص77
(هذا/ الجسد المنخول... بالكلمات)
(ولهذا/ الجسد حاول... من أجل الثبات)
(بتكرار الذات)
(أرهق الجسدُ الذات)
(تداخل) ص12
(قمم كنوق راحلات/ إلى الأقاصي موحلات)
(رُشدت نحو الفرات)
(كنا ومازلنا عُراة)
(فيأرب أنت عاكفٌ ولانت أدرى/ بالحفاة)
(قمم كنوق متعبات)
(أيقظن مكنون السبات)
(واختناقات خفايا، مؤلمات)
(في متاهات المنافي، غاص أوداج الطغاة)
(نوق) ص16
(لا يطيقون الثناء، يختفون كالغيمات/
عاطلون... بعثهم الرحمن... يموتون وقوفاً/
على أبواب المجد الموروث، شموخ البواسل، آتْ)
(البواسل) ص83
وهناك عشرات الأمثلة الأخرى، وهي، وفق ذائقتنا التي لا نرغب بتعميمها تحول النص إلى لغة مسجوعة تجاوزها التكنيك الحديث لقصيدة النثر:
وتبلغ الرغبة في السجع أقصى مدياتها في نص (باب توما...)
(يتقاطرون لمى... عند الحديث... ينابيع ثمار/
قاطفات مرهفات (يا جماعة الخير) مرهفات...
عاشقات/ يشبهن النساء (عندنا) محض
افتراء/ أراني رضيعاً على صدر أم بثناء)
ص95
وفي نص (خطوط) ص11.
(ننسحب ... باتجاه القرفصاء/ زادنا...
خبز وماء/ نغمض اليمنى احتجاجاً/ وادخاراً
لحياة المومياء)
مما يجعل النص يبدو (ملفقاً) ليتلاءم وتلك الكلمات المسجوعة، تلك ذائقتنا نحن، ولا نحاول تعميم نتائجها فكهذا بدا لنا ديوان (هفوات الدهشة) لسلام الناصر، الذي صدر في تشرين الأول 2006 على نفقة صاحبه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق