الأحد، 20 نوفمبر 2016

التلصّص.. ومؤسسة المراقبة الشاملة
او (إمبراطورية النظرة المحدِّقة)
خالد خضير الصالحي

























(نص المحاضرة التي لقيتها (صباح يوم السبت الموافق 19 تشرين الثاني 2016)، عن التصوير الفوتوغرافي ضمن المنهاج الثقافي لاتحاد الادباء والكتاب في البصرة)
"في العُرْي كلُّ ما هو ليس جميلاً فاحشٌ"
(روبرت بريسون - مخرج سينمائي فرنسي)
التلصّص.. ومؤسسة المراقبة الشاملة او (إمبراطورية النظرة المحدِّقة):
الفوتوغراف العاري (nude photography) والفوتوغراف الجنسي (sexual photography) نموذجا..
الجذر الجيني في الفن التشكيلي
ان ما اعنيه بالجذر الجيني في الفن التشكيلي هو تتبع بنية شكلية متكررة في ثيمة محددة، فقد تتبع الناقد البريطاني هربرت ريد في كتابه (الفن والمجتمع)، الجذر الطبيعي (الحيواني او النباتي)، الذي تحول الى (اصل تجريدي)، للكثير من الزخارف التي كان اصلها سحليات وتحولت الى تشكيلة زخرفية فضاع اصلها الطبيعي بمرور الزمن.
وقد بحثنا في الجذر الجيني للوحات صلب المسيح عند جريكو وتحولها الى تجريد في اعمال هاشم حنون، كما ان لوحات التظاهرة او المسيرة في تجارب فيصل لعيبي ومحمود صبري وهاشم حنون ولوحة التظاهرة لفائق حسن اعدناها الى جدرها في ريليفات الموكب الرافدينية القديمة حيث موكب يقدم فروض الطاعة والولاء للاله.
جذر الفوتوغراف.. جهاز رسم المنظور
كان الرسم الكلاسيكي في عصر النهضة ناتج كاميرا وهمية هي جهاز رسم المنظور الذي يفترض اللوحة مقطعا من مخروط ينطلق من نقطة التلاشي البعيدة لتلتقي الخطوط في عين الرسام (=عين الكاميرا) اللوح الذي ترسم عليه خطوط المنظور، ولم يفعل التصوير الفوتوغرافي سوى بناء هذا المخروط من خلال صنع صندوق الكاميرا المكونة من: ثقب للتلصص، و(لوحة) تقطع مخروط النظر.. نسميها الغرفة المظلمة (كما اسماه ابن الهيثم camera obscura باللاتينية)، ثم اكتشفنا ان بارت اسماها (الغرفة المضيئة) وله كتاب عنوانه (الغرفة المضيئة.. تاملات في الفوتوغرافيا)، وهو ابسط تعريفات الكاميرا واثبتها باعتبارها ثقبا للتلصص واستراق النظر، بالمعنى الباربوسي (نسبة إلى هنري باربوس في روايته الجحيم)، وهو تعريف يفتح بابا لإعادة تعريف الفوتوغراف، وإعادة تقييم أهدافه، ويكون مبدأ (التلصص) فيه استراتيجا ثابتا من مبادئ (قوانين) التصوير الفوتوغرافي...
التلصص من ثقب (قانون هيدجر)
ان التلصص ليس الا حوارا (صراعا) متبادلا بين: ارادة متلصصة ونموذج (موديل) فتمارس هاتان الارادتان لعبة الكشف والإخفاء من خلال فرض درجة من استراق اللقطات عبر البحث عن طيات العري الأكثر أهمية، ارادة تلصص من جهة وموديلٍ عارٍ يتفنن في حجب وإظهار ما يرغب من جسده، وعبر هذا الصراع بين الرغبات المتباينة في ما يسميه هايدجر "النزاع القديم بين الفجوة المضاءة وحالة الإخفاء" (هايدجر، معنى الفن، ص76) أي (صراع الاخفاء والكشف)، فتتوتر خيوط الشد في اللقطة الفوتوغرافية، ويكشف (الجسد: الضوء – الظلام) عن نفسه شيئا فشيئا، ولكنْ خارج ما أمكن من سلطة الايدولوجيا لصالح أن تعيش اللقطة كينونتها كواقعة شيئية يلعب قانون (الكشف – الإخفاء)، (الضوء – الظل)، (السواد - البياض) الدور الأساس في بنائها الشيئي..
(إمبراطورية النظرة المحدِّقة)
نعتبر الصور جزءا جوهريا من نظام المراقبة الشامل الذي يسود العالم الان؛ فتتخلق من خلال ذلك، ما يسميها فوكو (إمبراطورية النظرة المحدِّقة) )التي يخلقها ما تبثه في مختلف الاشكال والاتجاهات، ملايين الكاميرات الخفية التي تراقب الواقع، وتراقب تحركات البشر، وتهدف إلى خلق نظرة مركزية؛ تستقبلها عين مركزية غير مرئية تهدف في النهاية إلى رؤية اللامرئي: كاميرات في مخازن البيع واخرى في الدوائر، والشوارع، والمطارات، والاجواء، وربما غرف الفنادق وربما حتى دورات المياه..
مرتكزات نظم المراقبة الشاملة
او (شبكة النظام المعقلن) او (المؤسسة العقابية)
كان فوكو يطرح في كتابه (المراقبة والمعاقبة) ان المجتمع الحديث ليس "اقل رقابية ووعقابية من مجتمع التنوير وما بعده لان السلطة اليوم تمتلك تكنولوجيا تيسر المراقبة"، وعنده ان (شبكة النظام المعقلن) او (المؤسسة العقابية) ترتكز على ركيزتين اساسيتين هما:
اولا، القانون الجنائي وهو (واقعة لغوية).
وثانيا، السجن "وتظل دلالته بصرية" (ص34)، اي انه (نظام بصري)، او (قابلية رؤية)..
بنتام ونموذجه الشهير للسجن 1791
ان دلالة السجن البصرية ناشئة عن ما يسميه فوكو panotisime وهي صفة لهندسة السجن الماخوذ من المرتسم الشهير الذي اقترحه المهندس (بانتام) في العام 1791 والذي أسس فيه منظومة مراقبة كان يسعى أن تكون (منظومة للنظرة المحدقة)، حيث يقوم برج في الوسط والزنزانات حوله حيث تكون مكشوفة ومرئية من قبل الحراس المراقبين. ٍاي انه تحقق اخر لواقعة التلصص وتأسيسا لاولى نظم التلصص على الواقع من زاوية خفية، فكان السجن بالتحليل الفوكوي النهائي نظاما بصَريا للنظرة المحدقة الكلية ذات المتجه الواحد من الحارس تجاه السجناء، بينما تخلق الكاميرا نظاما بصريا بمتجه متبادل يشكله طرفان هما: ثقب الكاميرا والموديل، ويكون فيها (الجسد) العاري مادة بصرية يقع الاشتغال عليها.. فكان السجن مغمورا بالضوء ولا مكان للظلال فيه؛ وهو ما ينطلق منه التصوير الجنسي حينما يغرق الجسد بالضوء، بينما يبدأ التصوير النودفوتو من الجسد الغارق بالظلمة..
تلصص السجن هو نظرةٌ محدقة
إن تلصص السجن هو نظرةٌ محدقة تراقب تحركات الجسد اجتماعيا باعتبار السجن جزءا من نظام اجتماعي شامل للمراقبة، بينما يختلس النودفوتوغرافي النظر إلى سحنة الواقع (الجلد) وثنياته، وطياته الخبيئة، وعبر ملايين الكاميرات المنتشرة الان حول العالم (أداة رؤية كلية)؛ فكان واحدا من أهم مهامها اتخاذها الجسد موضوعا للرؤية، فهي كذلك منظومة شاملة لمراقبة الجسد، وتسجيل حركاته وسكناته في مشروع لمراقبة جلد العالم وجلد الجسد بطريقة كلية..
الفوتوغراف الاسود والابيض طريقة تفكير
يؤكد هارولد دافيس(ص16) من كتابه:
Creative Black and White Digital Photography - Tips and Techniques (20
ان التصوير بالاسود والابيض هو (طريقة تفكير) مختلفة، حتى انه يعنون الفصل الذي يشرح فيه الفوتوغراف الاسود والابيض thinking in black and white .. ويعتقد ان الصورة الملونة لا يمكن ان تتحول الى صورة بالاسود والابيض بشكل حقيقي ان لم تنطو على الكونتراست (السواد الفاحم) مادة بنائية..
(الاسود– الابيض) (الظلمة – الضوء) (الكونتراست) هو تجسد بصري لصراع (الحجب – الكشف)
تنتصر إرادة الحجب على ارادة الكشف في النود فوتو nude photo بينما تنتصر إرادة الكشف (الثقب المتلصص للكاميرا وارادة الموديل العاري) في الفوتوغراف الجنسي sexual photo الذي يتوجه نحو دوافعه الجنسية؛ بينما لا يتوجه النود فوتو إلى كشف الطيات (المحرمة) كما يطمح الفن الجنسي الخليع؛ فتوجهاته ذات مرتكزات جمالية بهدف اكتشاف سحنة جسد الموديل : قشعريرة جلده، وطياته، وانحناءاته، أي الجسد بوصفه واقعة شيئية... مما يحصنه من الانزلاق إلى نفعية غير مستساغة، كما هو حاصل في الفوتوغراف الجنسي.. فحين يوضع الموديل العاري تحت سطوة الكشف (وهو نمط من التعرية البصرية) فان أهدافه تنحصر في التحسس البصري لسحنة الجسد أي بساطة تحسس (شيئيته) ..
ورغم ان النود فوتو (الفوتوغراف العاري) هو صور تتناول العري الا انها لا تضع ضمن اهدافها اهدافا جنسية مفضوحة لصالح تقديم رؤية جمالية للجسد الانساني مما يجعل نمط الصورة العارية الجمالية اكثر نجاحا باستخدام نمط التصوير الاسود والابيض لتيسير هيمنة الظلام عليها وتقنين عملية الانكشاف الى ادنى درجاته الممكنة..
اختراق الجسد بصريا
"إن كانت دراسات الممارسات التي تقع على هذا الجسد، والذي يوقعها كذلك على أجساد آخرين، هو موضوع الفلسفة في هذا العصر"، كما يقول مطاع صفدي؛ فان واحدا من أهم موضوعات الفوتوغراف الأسود والأبيض هو الجسد الإنساني بهدف اختراقه بصريا... إيذانا بـ"ولادة جسد مختلف" من لونين، يلفّه الظلام، ويلسعه الضوء بقوة في أجزاء نمطية منه .. جسد يختلف عن سحنة الأجساد التي أنتجها الرسامون قبل اختراع الفوتوغراف.
القوى الدينية والعولمية: تغطية الجسد مقابل تعريته
اننا نحاول تتبع خطى فوكو في مساهمته بإعادة كتابة تاريخ الجسد الذي تطور من مرحلة اعتباره قوة عمل (نتذكّر كتاب دور العمل في تحول القرد إلى إنسان لانجلز) إلى مرحلة الجسد المسيّس الذي ينبغي إخضاعه إلى مؤسسة الجسد المنضبط، فيما يبدو التشريح (اناتومي) منهمكا في ما تحت جلد الجسد، ثم إلى مرحلة الجسد السلعة، وكلها تسعى حثيثا لرؤية (اللامرئي) الذي يصفه فوكو بـ"ـما يجري إخفاؤه وطيّه" من قبل هذه الاستراتيجات؛ وما بين الجسد المنضبط والجسد السلعة، وهي كلها مؤسسات بصَرية مرئية، تتضافر قوى الإعلان العولمية إلى وضع الجسد بأكبر درجة ممكنة تحت التعرية من خلال الإعلانات، وبين القوى الدينية المتطرفة التي تحاول أن يصل الجسد تحت هيمنة نمطها للحجاب إلى اكبر درجة ممكنة من الحجب، بينما تنتفض من تحت الرماد مرحلةٌ أخرى لـ(ـلجسد – الواقعة شيئية) التي تماثل شيئية اللوحة.. وهي مرحلة يرفض فيها الجسد أن يخضع لإكراهات شركات الإعلان في التعرية واكراهات القوى المتطرفة في الحجب، وتقدّمُ نموذجََ الجسد – الجمالي (الواقعة الشيئية) كنمط يوتوبي للجسد رغم انه ما زال يخضع لقانون الإخفاء – الكشف ذاته ولكن بأهداف تتخلص باضطراد من نفعيتيها، إلا أن ذلك أمر نظري فبالتحليل النهائي تحاول كل مؤسسات المراقبة والهيمنة أن تحاول الوصول إلى تأهيل الجسد وتنميطه وولادة المجتمع الانضباطي الشامل، فحتى مؤسسة الانضباط الجمالي تهدف إلى تقنين مقاساته.
تصوير الجسد عمل غير حيادي
إن تصوير الجسد عمل غير حيادي .. يجب أن يكون متلصصا بشكل استثنائي، وان تشمل هذه السمة كل فن التصوير من اجل اكتشاف الزاوية، واللقطة الاستثنائية (التلصص والكشف)، فقد كان ميرلوبونتي يقارن في كتابه (العين والعقل) 1960، بين العلم وفن التصوير الزيتي بان العلم ينظر إلى الأشياء من أعلى في حين ينغمس فن التصوير في عالم الرؤية، ففتحة صندوق الكاميرا هي أكثر من فتحة لتقنين دخول كمية من الضوء، فقد كان يتحدث عن جسد العالم الحيّ ولحمه، الجسد الذي هو "تفاعل تبادلي بين الضوء والظل" (عصر الصورة ص 102).
الـتصوير العاري (nude photography)
.. محاولة اعادة الصورة الفوتوغرافية الى حقل التشكيل
لقد بقي الفوتوغراف يحمل صفة التعارض بين اليد والعقل فالرسام التشكيلي كان فنانا مبدعا اضافة لحرفيته التي يجب ان تكون عالية، اما الفوتوغرافي فكان حرفيا يمارس مهنة، و عكس الصور الجنسية sexual photography كانت الـصور العارية (nude photography) واحدة من محاولات اعادة الصورة الفوتوغرافية الى حقل التشكيل، اي الى التحول من نظامها الاشاري الى نظامها الايقوني من خلال تقنين عملية الانكشاف (=انحسار الضوء وهيمنة الظلام) وايضا انسنة عمليات الانطمة الالية للفوتوغراف: التبئير، واختيار اللحظة والتاطير..
النزوع الداخلي للصورة الفوتوغرافية لتاكيد طبيعتها المادية (الشيئية)
رغم اختلاف طبيعة فني الفوتوغراف واللوحة التشكيلية بسبب اختلاف نظاميهما، حيث "ينتمي التشكيل الى نظام الايقونة، وتنتمي الصورة الفوتوغرافية الى نظام الاشارة" (ريجيه دوبريه، حياة الصورة وموتها) الا اننا نعتقد ان الصورة الفوتوغرافية تنطوي على نزوع داخلي لتاكيد طبيعتها المادية (الشيئية)، من خلال التخلي عن جزء من نظامها والاتجاه صوب تحويل طبيعتها الاشارية الى ايقونية، متوسلة بالعديد من الوسائل التي تضمن تكريس الطبيعة الشيئية للصورة: كإنهاء الجزء الاعظم من المهمة الابلاغية للصورة الفوتوغرافية، وتفعيل اكبر درجة محسوسة من فاعلية الاخفاء في صراعها بمواجهة الانكشاف؛ فحيثما تضيق فاعلية الانكشاف: تهيمن الطبيعةُ الشيئية للصورة الفوتوغرافية، وتضمحل الطبيعة الابلاغية؛ لذا نجد انماطَ الصورة الفوتوغرافية الابلاغية الاخبارية في الصحافة تتوسّل على اتمام اهدافها الابلاغية (ايصال معلومة اخبارية سردية عبر الصورة) باستخدام نصوص اللغة التي تساهم في اتمام مهمتها السردية، وكذلك تتوسل بوسائل شكلية اخرى من خلال هيمنة الضوء في الصورة الصحفية..
، وقد حضرالجلسة جمع من مثقفي محافظة البصرة فاغتنت المحاضرة بوجودهم ومداخلاتهم المهمة.، وادارها الصديق الكاتب صباح سبهان باجادة وتمكن كان اثره واضحا في ادكاء روح الحوارات، حيث تداخل السادة: د. عباس الجميلي، القاص قصي الخفاجي، القاص باسم القطراني، الدكتورة خلود جبار، الشاعر علي الامارة، الشاعر محمد صالح عبد الرضا، الرسام شاكر حمد، الناشط يوسف عبد الجبار الدغمان، الاستاذ الدكتور سعيد الاسدي، الكاتب جاسم العايف، الرسام عبد العزيز الدهر.. فشكرا لكل هؤلاء .. واقدم هنا ملخصا للمحاضرة استكمالا للفائدة، ومواصلة للحوار بشانها مع بعض الصور التي لم نتمكن من تقديمها بسبب فني في جهاز العرض..