الأحد، 20 يناير 2013




الرسامة والأكاديمية المصرية أمل نصر

                     تحوّلات المادة..
                                   وتشكّلات الصور


  
خالد خضير الصالحي
البصـــــــــــــــــــــــــرة
  
"تنمو في عمق المادة نبتةٌ قاتمة، كما تزهر في ظلمة المادة أزهار سوداء، سبق واكتسبت نعومتها، ونموذج عطرها" (غاستون باشلار، الماء والأحلام، المنظمة العربية للترجمة، ت: د. علي نجيب إبراهيم، ط1، بيروت، 2007، ص15)
***


تتعاملُ امل نصر مع سطح اللوحة، ومع الأشكال المجردة بإداء حر يستجيب لتقنية عفوية،  بأنسنةٍ قد يفتقرها الكثيرون؛ فتبدو أعمالُها وكأنها ناتج حنوّ مبالغ به تعامِل به الرسامةُ سطحَ لوحتها؛ فهي تعتكف الى سطح لوحتها، مثلما ينقطع النسّاخون والورّاقون إلى صحائفهم، يسوّدون اسطرها، فتندمج الرسامة بحروفها، كما يندمج هؤلاء، لترتحل إشاراتُهم التي يبثونها عبر الزمن القادم حينما تتنقّل من قارئ لآخر، وكلّ من هؤلاء، يضيف هوامشه على هوامش سابقيه، كما أضاف السابق هوامشه على هوامش سابقيه، حتى تتضخم تلك المخطوطات إلى ما شاء لها النص ان تتضخم، وهو ما يحدث لأعمال امل نصر؛ فبدت لوحاتها متشابهة بشكل مختلف ومختلفة بشكل متشابه، فهي تبدو متشابهة وكأنها لوحة واحدة قـُطـّعت إلى نتف متشابهة؛ وتبدو مختلفة لأنها لا يمكن ان  تكون متماثلة تماما كطبعات الأصابع التي لا يمكن ان تتطابق تماما...
***


حينما عنون الكاتب المصري (ياسر منجي) مقالا له عن الرسامة بعنوان: (أمل نصر.. بين سطوة (البكتوغرافيا) وعنفوان الهيولى القديم) فانه قصد بمقالته ان قوتين متعارضتين تتجاذبان تجربة امل نصر هما: قوة الفوضى، وهو ما يسميه جاستون باشلار، (العصيان الأبدي للمادة على التشكّل)، وسلطة النظام، "فالمادة في منظور عمقها تنقاد باتجاهين: اتجاه التعميّق واتجاه الانطلاق، ففي اتجاه التعميق تبدو غير قابلة للسبر، كمثل لغز، وتبدو باتجاه الانطلاق كقوة لا تستنفد، باعتبارها معجزة. وبالاتجاهين كليهما ينمـّي التأملُ خيالا مفتوحا " (غ. باشلار، السابق، ص15) وهو الصراع الذي نشب ذات مرة بين انغريس وديلاكروا، فوصفه (ريجيه دوبريه) بأنه صراع بين الحرية والسلطة ولكنه اعتبره كذلك، وفي الوقت ذاته، صراعا بين الخط واللون باعتبارهما ميدان الصراع وأداته وميدان تحققه الشيئي الذي نكون معنيين به باعتبار الرسم في النهاية واقعة مادية،   حينما مثل الأول الانضباط السلطوي،    بينما مثل الثاني الحرية ورفض القيود، الا ان كل تلك الصراعات كانت تتفجّر على سطح اللوحة من خلال الصراع بين فوضى العناصر وانضباطها، فكانت امل نصر تعامل اللوحة باعتبارها (صورة مادية) ان هي أخضعت لدرجة اكبر من الانضباط فستتجه إلى نظام لغوي بكتوغرافي صوري يفتقر إلى الاعتباطية (=الحرية) التي تتصف بها الكتابة الأبجدية لان الكتابة الصورية مرحلة تمثل اكثر مراحل التاريخ ترابطا بين الصورة والشكل المشخص، حينما اندمج الشكل بالمعنى لدرجة مازلنا نعيش بقاياها المتحجرة في لا وعينا الفني، واذا أفلتت السيطرة عن تلك (الصورة المادية) فإنها ستكون صدى للعصيان الأزلي للمادة ضد التشكـّل؛ وبذلك ستكون تجربة امل نصر بالرسم تجربة خاضعة لنوازع ورغبات متناقضة، وصراعات مستحكمة لا يمكن حسمها؛ فالعالم الذي نعيشه مهدد، كما يقول (بول فاليري)، بقوتين خطرتين تتنازعانه، وتهددانه هما: الفوضى والنظام، انهما قوتان يجب ان يخضعا معا لقدر مناسب ومتوازن من الكبح؛ وهو ما نجحت في تحقيقه امل نصر..
***

لا اعتقد ان امل نصر تضع في حساباتِها ان يجد المتلقي في أعمالها مشخـّصاتٍ أو أشباحَ مشخّصاتٍ؛ فقد يكفيها ان تكون مستمتعة بالخامة، والمفردات البصرية، دون ان تكترث لارتباط تلك الاشكال بالواقع؛ فهي تكتفي بمهمة تنتهي حالما تشعر أنها أودعت في تلك الأشكالَ روحَ المشخّص كامنةً في خطوطِها، وبقعِها، دونما حاجة للبحث عن مرجعيات شكلية لأي تفصيل كبر أو صغر في اللوحة، فقد ذاب المشخّصُ في السائل الذي تسبح فيه كلُّ الأشكال، والبقعُ اللونية، والعناصرُ الأخرى في لوحة امل نصر التي تحلم بتجليات صور المادة الصلدة، على نحو حميم نابذةً إغواءَ الأشكال الهشّة غير المجدية..  فما يشغل لوحةُ امل نصر ان تتحوّلَ ماديةُ (متيرياليةُ أو شيئيةُ) اللوحة، إلى صورة لا تشترطُ الواقعَ ومشخصاتِه مرجعيةً لها، أي ان يتحول الخيال المادي إلى خيال صوري وكفى.. فالمشخصات تفتقرُ، وتعيقُ الخيالَ الصوري وجمال الحلم اليقظ الذي يرافق انعتاق الصور من ربقة تلك المشخصات لأنها تحدد ذلك الخيال باطر شكلية واقعية (مادية المشخص) بينما يفترض بالخيال الحق ان لا تحده محددات مهما كان نوعها..
                                                                                    ***   
ان قيام امل نصر بانجاز لوحتها بتكنيك سريع يتيح فرصة لتدفق انفعالي تلقائي، لا يسمح للعقل الواعي الاشتغال بفاعلية للهيمنة على اللوحة، ويتيح للقوى اللا واعية، وللمصادفة ان تشكل احدى اهم القوى الفاعلة، فيبدو العمل وكأنه يمتلك دينامية تجعل منه اشبه ببناء من الأشكال المجردة التي تنطوي على قوى وتوترات داخلية تتوحد فى شكلٍّ مستقلٍ بذاته لا يشير إلى حياة خارجية..  

                                                   ***

تقول الكاتبة امل نصر عن تجربتها الفنية "تسعى أعمالي إلى اكتشاف الشكل من خلال اللون فأبدأ بطرح مساحات اللون بلمسات عريضة حرة، ثم أبدأ في اكتشاف الأشكال خطياَ فوقها، حتى لا أحاصر بالخطوط بل أستسلم لسطوة اللون وحضوره أولاَ، وفى بعض الأعمال نجد الأشكال تظهر وتختفى، تكبر وتتضاءل تنكشف وتطمر بقوة دافعة وفقاً لقانون عاطفي خاص باللوحة فلا نعرف أين تبدأ وأين تنتهى، حيث يُتاح للخواطر البصرية أن تسترسل وأن تتوارد، إنها فكرة التداعي الحر التي تطرح وفقها الأشكال والعناصر، ويحكم هذا البناء رغم حريته نوعاً من النظام الفطري الغريزي . وتظهر الصور بين الحين والآخر فى تدفقات غير متماثلة وفقاَ لآلية الطرح الخاصة بالذاكرة فتعطى حيوية للخيال في محاولة لتلمس تلك الطاقة التنظيمية الروحية التي تجعل حياتنا محتملة ومستمرة".
                                         ***

لم تكن امل ناصر رسامة فقط، إنما هي أكاديمية مرموقة، وناقدة تشكيلية.. كتبتُ مرة تعليقا على مقال نُشر لها في الفيس بوك: "تطرح الكاتبة والرسامة المبدعة امل نصر قضية غاية في الأهمية وهي إمكانية وجود: تجريد يتكئ على الواقع، وتمتص حواسُّه تفاصيلَ ذلك الواقع .. ويستند إلى الخبرات المباشرة .. تجريد لا يتناقض مع الحياة ولا ينسحب منها.. أي أنها تقدم إمكانية وجود تجريد مؤنسن، فيه روح المشخص رغم غياب جسد ذلك المشخص.. إنها تطرح أفكارها بلغة مفاهيمية خالية من ترهل اللغة البلاغية التي يقع في براثنها بعض الكتاب..." 









الجمعة، 18 يناير 2013

الرسام هاني مظهر في معرض (تحية إلى ناجي العلي)..


الرسام هاني مظهر في معرض (تحية إلى ناجي العلي)..


 احتفاء بالرؤية الكامنة

  
خالد خضير الصالحي

بدت لنا تجربةُ هاني مظهر (في تحيته لناجي العلي) استبطانا جديدا، متصلا ومنفصلا في آن معا مع تجربة ناجي العلي باعتبار الأخيرة تحديا لثوابت تحجرت عندنا نحن متلقي الرسم الكاريكاتيري الذي استقر في أذهان الكثيرين منا أنه، على عكس أنماط الفن التشكيلي الأخرى، يضع، وبشكل معلنٍ، قَدَميه في طرفي البقعة الحرجة للرسم: يضع قدما حيث يعتبر الرسم الكاريكاتيري واقعة بصرية مادية (متيريالية)، وينقل الأخرى إلى حقل متاخم قريب يعتبر ذلك الرسم، مطالبا منه ان يكون جزءا من واقعة لغوية سردية تجسّدها التعليقات والشروحات اللغوية التي ترافق الرسوم الكاريكاتيرية لناجي العلي وتؤلف جزءا جوهريا منها حتى في رسومه التي (بدون تعليق) حيث يتوارى التعليق خلف العلامات المبثوثة في الرسم فيحل محله وجود مستتر ومسكوت عنه؛ حيث ان الكاريكاتير عند العلي، وفي ان واحد، يتناوب الاشتغال بين طبيعيته: المادية البصرية، والسردية، بحركة بندولية دائمة؛ مما يجعله خرقا لنسق الرسم حينما يهدر، او يحاول ان يهدر المشتركَ العامَ للحقل البَصَري، ونعني به (مادية التعبير) او الطبيعة الشيئية (المتيريالية) لمادة الرسم وللوحة، فالرسم الكاريكاتيري بما يتوفر عليه من (هيمنة) للغوي على خطابه يتصف بأنه حقل جامع لدرجة من الايقنة والتماثل البَصَريَّين مع درجة من اللاتماثل والاسلبة، وهي من مواصفات النسق البَصَري؛ وبذلك ينتمي فن الرسم الكاريكاتيري إلى نمط الحقول المختلطة التي يمتزج فيها الخطاب اللغوي والخطاب البصري: كالإعلانات، والسينما، والتلفاز، وبرامج الكومبيوتر ومواقع الانترنت، وكل الصور المرفقة بالكتابة والكتابات المقترنة بالصور، فتكون أهم المظاهر المختلفة هي كون الصورة الكاريكاتيرية لا تستحيي من الوظيفة التواصلية الابلاغية للخطاب، حاله في ذلك حال أنماط عديدة من أنماط الصور..
لقد كان ناجي العلي يتوسل إلى إحداث الانزياح الضروري اللازم في انتقال اليومي إلى شعرية الفن عبر الطبيعة الاستعارية لانتهاك حرمة الثوابت والقناعات (الراسخة) ومفارقة الدارج: مفارقة مضحكة حينا ومحزنة أحيانا أخرى، عبر وسيلتين متناقضتين ومتتامتين في آن معا من خلال تشاكل الكلام (اللغة) وعناصر الرسم (البصري)؛ فتمتزج عنده رسائل الخطاب في جانبها البصري، بالرسائل في جانبها اللغوي(التعليق)، فلا تهمل الرسالة عنده أيّا من الوسائل المتاحة في الكاريكاتير: العناصر الخطية وغير الخطية معا حينما تتعاضد مشكّلة خطابا: علاماتيا بما يشبه الكتابات الأولى التي تتمازج فيها الدلالات اللغوية والبصرية في وحدة لا انفصام لها، ولا يبين فيها العنصر الاشد هيمنة؛ فكان ناجي العلي يغترف بسهولة كبيرة من محتويات (متحفه البصري) الذي جمّع عناصره ومفرداته الأولى البصرية- النصية (الهيروغليفية)  من مناهل واسعة، فكانت تظهر بشكل أيقونات: أهمها الطفل الشاهد (حنظلة) من عين الحلوة، وحشد آخر من المفردات البصرية والتقنية التي تظهر هنا أو هناك في رسومه بشكل متواصل: كالأسلاك الشائكة، وبرميل النفط، وشواهد القبور، والهلال، والكوفية، واللاجئ الفلسطيني، وحقائب السفر، والحمامة، ونجمة داود، والملابس المرقّعة، والمرأة الفلسطينية (فاطمة) بدموعها التي تنسكب على خديها.. وأحيانا تظهر عناصر غير مشخصة: كالخطوط، والحزوز، والنقاط التي يقطّرها على صفحة الورقة مباشرة من الدواة، وإشارات الحركة، وبعض العلامات الدالة على الشعور كالتعجب والهلع المجسدة بعلامات بصرية، ووسائل التظليل والعتمة والضوء، كلها عناصر يعاملها باعتبارها تنتمي إلى (مادة التعبير)، أي إلى البعد المادي للوحة (=الحبر الأسود الفاحم غالبا)، فلم يكن الخط حدا فاصلا ولا أطارا، بل صرخة قلم مستفز وأداة تثوير وتحد بكل محمولاته التكوينية والأدائية؛ فخلاصة القول ان ناجي العلي لم يكن ينظر للكاريكاتير باعتباره فكرة سردية تقودها او تخطط لها اللغويات التي تتناثر في الرسم كتعليق او كأية نصوص لغوية او علاماتية أخرى فكان يولي اهتماما رئيسيا على ان يكون الكاريكاتير واقعة بصرية لها مقوماتها وعناصرها الشيئية كأي عمل تشكيلي..
ان المماثلة (التشابه) مع الشكل البشري وأشكال المشخصات عموما، التي يحرص ناجي العلي على الإخلاص لها، مقارنة مع تجارب أخرى، تجعلنا نعتبر منجزه تجربة رسم كاريكاتيري (واقعي) خضعت الى مشرط تجريد لا يرحم أوصلها أحيانا درجة شديدة من الاختزال المضطرد والاسلبة لنسق الخطاب البَصَري وملأها بكمِّ من الفراغات التي هي واحدة من أهم الإزاحات التي ترتقي باليومي إلى مرتبة الفن؛ فكان، إضافة إلى حسه الفني العالي، يمتلك عينا (باربوسية) متلصصة، واعية لمهمتها، رغم أنها تحاول أن تتشبه بعين الكاميرا المحايدة في السرديات، تاركة أمر اتخاذ أي موقف على عاتق المتلقي، فكان ناجي العلي يحاول أن ينأى بنفسه عن الانغماس في السرديات التي هي اضعف مقاومة أمام التلوث الايديولوجي ليتخذ لنفسه مكانا في الطرف القصيّ البصريّ تاركا متلقيه منغمسا في محنة التلقي التي لا تقل شدة عن اشد المحن تعقيدا ...
                                                  ***



يبني ناجي العلي متحفه البصري من أيقونات بصرية أهمها: حنظلة الطفل الفلسطيني من مخيم عين الحلوة الذي يدير ظهره للمتلقي وللعالم؛ والذي صار جزءا مكملا لرسومات ناجي العلي، ونال حب الناس فصار احذ الرموز المهمة في الثقافة الفاسطينية؛ لأنه صار رمزا للفلسطيني المعذب، والقوي رغم كل الصعاب، انه شاهد صادق وبالتاي لا يخشى أحدا، فاتخذه ايقونة يوقع بها ناجي العلي رسوماته..
تتكرر الأيقونة المهمة الأخرى، المرأة الفلسطينية (فاطمة)، وهي شخصية مثل الشخصيات الأخرى لناجي العلي، غير مهادنة، وذات رؤية شديدة الوضوح فيما يتعلق بالقضية، فعادة ما تكون مواقفها قاطعة ومخضبة بغضب المواقف الشجاعة، بعكس شخصية زوجها، الأيقونة الثالثة الأهم في منجز ناجي العلي، الفلسطيني الكادح نحيل الشارب صاحب الأقدام المفلطحة الغليظة للمزارعين، والذي ينكسر أحيانا تحت وطأة ثقل الحياة، بينما تتحكم السخرية بأشكال الأيقونات الأخرى: كشخصية السمين ذي المؤخرة العارية ممثلا به القيادات الفلسطينية والعربية المرفهة والخونة الانتهازيين. وشخصية الجندي الإسرائيلي, طويل الأنف, الذي يكون في أغلب الحالات مرتبكا أمام حجارة الأطفال, وخبيثا وشريرا.
                                                ***



 ان المحنة الأشد التي أتخيلها تواجه الرسام هاني مظهر، كلما واجه قماشة لوحة بيضاء يريد تحويلها الى لوحة فنية، كانت رغبته الجامحة في تفجير شعرية العناصر البَصَريّة التي تمنح لوحته من شاعرية أجواء الشعر، وقد افترضنا ذات مرة حرصه ان تتشاكل تجربته الفنية مع الشعرية ان لم تتشاكل صراحة مع الشعر ومع نصوص شيوخ الصوفية الذين انتج اعمالا ومعارض مكرسة لبعضهم، وهي المحنة التي نعتقده واجهها حينما كان يجد نفسه مدفوعا الى بناء لوحته من مستوى لوني طارد للبنية الغرافيكية (الخطية) بقوة، تلك البنية التي تشكل جوهر المادة التي يبنى منها الرسام ناجي العلي اعماله، وبذلك لم تكن العملية هنا في (تحية لناجي العلي) إعادة إنتاج لتلك الأعمال بشكل مشابه لأهداف بيكاسو حينما كان (يعيد) إنتاج رسوم أسلافه من الرسامين، وإنما كانت العملية إعادة تمثل للروح الكامنة في رسومات ناجي العلي، تلك الروح التي تبقى (علامة لا تنمحي) مهما تغيرت المادة وتقنياتها.. فلم تكن مهمة هاني مظهر في معرض (تحية لناجي العلي) تقتصر على تلقٍ قالبي  stereotypes للكاريكاتيرات (التخطيطية) لناجي العلي ومن ثم (تحويلـ)ـها إلى أعمال ملونة، فلم تكن أهدافه تنحصر فقط في إعادة تغيير أو إنتاج المادة المهيمنة لتلك الرسوم وإبدالها من كاليغرافية خطية إلى لونية، بل كان استراتيجه يتعدى ذلك إلى إيجاد آلية صالحة للتعامل مع رسوم ناجي العلي باعتبارها وثائق بصرية مادية (اركولوجية) لها القدرة على تلبس روح شكل آخر من أشكال الفن أكثر من اعتبارها وثائق سياسية تخضع لاشتراطات السياسية وأهوائها المتقلبة..  فيصطفي هاني مظهر الرؤية البصرية الجمالية الكامنة تحت أنقاض الفكرة السردية اللغوية في منجز ناجي العلي، وهي رؤية عصية على الاقتناص إلا للعين ٍالخبيرة، حتى ان بعض الكتّاب كانوا ينكرون أن يكون هنالك جانب بصري (مادي) جمالي خارج سرديات الرسوم الكاريكاتيرية لتجربة ناجي العلي، بينما يحاول هاني مظهر جاهدا ليس فقط استخلاص (روح) الفكرة الكامنة في منجز العلي، وإنما استخلاص (الرسم) الكامن في تلك التجربة، وإعادة إنتاج  تلك الرؤية البصرية من خلال مادة أخرى، حيث تتلبس حبريةُ رسوم ناجي العلي طاقةَ الألوان ونضارتَها وهي بيد خبير في تفجير الطاقة التعبيرية للون كالرسام العراقي هاني مظهر الذي لا يجد نفسه، كما نعتقد، سوى معنيا بـ(ـالقابلية على الرؤية)، رؤية جوانب بصرية يعتقد الكثيرون، كما قلنا، انها غير ذات (جدوى)، فــ"ـالرسم احتـفاء بالقابلية على الرؤية"، لذا سيكون واجبا على الرسام اكتشاف (الرؤية البصرية) الكامنة في العالم المرئيّ ومن ثم تحويلها الى (واقعة مادية جمالية) أي تحويلها الى رسم؛ وبذلك فهو يمسك مفهوم (إنتاج الحقيقة رسما) ذلك المفهوم الذي اكتشفه سيزان واحتفى به ايما احتفاء: ميرلوبونتي ودريدا وسلفرمان وكأنه القارة المفقودة في الرسم الحديث..
                                           ***



كتبنا مرة عن موقع هاني مظهر ما أسميناه (جينات الفن)، وهي صفات ثقافية موروثة: بصرية، ودلالية معا، تنتقل ليس فقط من عصر لآخر، ومن مرحلة تاريخية فنية لأخرى، بل ومن فنان لآخر، ومن أهم تلك الصفات الموروثة في فنون الشرق هي توحّد السماويّ والأرضي (امتزاج المادة والروح أحدهما بالأخرى)، الذي يجد تجسده في أشكال متعددة؛ فكانت عناصر اللوحة تنتقل من مستوى لأخر، من الشعريّ( التجريد) نحو الأرضي (التشخيص)، فكان هاني مظهر يبني لوحته على مستويين: تشخيصّي (نثريّ، وأرضيّ) ومستوى الباطن (الشعريّ والمقدس) وطابعه التجريدي اللا هندسي (العماء اللوني)، وبذلك تهدف آلية التأويل اللازمة لدراسة منجزه ليس كشف المستوى الباطن عبر المستوى الظاهر، كما هو معتاد، بل ومحاولة اكتشاف آلية بناء اللوحة من قبل الرسام هاني مظهر وآلية إنجاز التواشج بين المستويين وتحديد التتابع الزمني لهما أي هو نقل للتأويل من اللغوي الى البصري، وهي مهمة عسيرة كفايةَ.
***



ان عملية الانقطاع الشكلي بين الكتل اللونية – الشكلية التي كنا نزعم انها تجري في أعمال هاني مظهر التجريدية، والتي كان يحاول ردمها، او اعادة وصلها في حقيقة الامر، كان يخلقها البياض الموجود اساسا في اللوحة او المضاف لها، تحولت هنا إلى عملية تجري بين نظامين من العالم ومن الرسم: نظام شكّـل عناصره الخطية ناجي العلي، ونظام شكّـل عناصره اللونية هاني مظهر، فكان هذا المعرض ليس فقط توليفا لنظامين شكليين وانما نظامين فكريين يصبان بعد امتزاجهما في جرف ان تكون اللوحة ليس فقط نظاما شكليا تجريديا بل و(رسالة) جمالية من نمط خاص يبقي في نفس المتلقي احساسا وان غامضا بوجود تلك الرسالة وطبيعتها المحسوسة والغامضة معا..
                                               ***

هاشم تايه في معرضه (حياة هشة)



هاشم تايه في معرضه (حياة هشة)

تجربة عصية على التجنيس



خالد خضير الصالحي


يؤكد هاشم تايه، طوال السنوات التي قضاها مشتغلا بالفن التشكيلي، انه صاحب تجربة عابرة للتجنيس اولا، وانه كذلك مبدع عصي على التصنيف فهو واحد من المبدعين متعددي الاهتمام والإمكانيات، ومن (العابرين للتخصص)، والذين يشتغلون في المناطقِ التي يسميها سلفرمان وبرتراند رسل (المابين) أو (التخوم)، فكان ينتقلُ بيسر في مناطقَ التخومِ هذه؛ مرتكزا في ذلك على هيمنة على المادةِ التي يشتغلُ عليها: اللغةِ وهو يأخذُها  نحو الشعرِ، او الكتابةِ وهو يقودها تارة الى: النقدِ، واخرى الى الصحافةِ في ارقى مستوياتِها، والمادة وهو يطوّعُهُما على ديناميةِ الرسمِ والنحت؛ فلم يمتلك هوس اعادةُ اختبارَ قدرةِ الألوانِ التقليديةِ فقط، بل ويكتشفُ موادِّ جديدةِ لم يكنْ يتخيّلُها الآخرون قبله صالحةً للرسمِ، فكان يذكي القوانينَ الاستثنائيةٍ التي أسسها الرسامون الذين مارسواَ النحتَ نمطا إبداعيا (آخرَ)؛ ففتحوا فيهِ أبوابا لم يعد غلقُها ممكنا بعدهم..
***



 تعيدنا (حياة هشة) بشكل ما إلى (اسم الوردة) لـ(امبرتو إيكو)، الذي يقول في كتابهِ (حاشية اسم الوردة) ان "الأمر يتعلق ببيت شعري مأخوذ من كتاب لبرنار دو موراليكس (حول أشياء الحياة الهشة)".. ام تعيدنا لما يؤكد هاشم تايه بأنها مماهاة مع (الحياة الجامدة).. او (الحياة الساكنة) وهو ما يعبَّر عنه بالإنجليزية بـ (still life)؛ فيرجع صفة الـ(ـهشاشة) الى طبيعة المواد والخامات والسطوح التي أنجزت بها الأعمال التي التقطت من النفايات والشوارع؛ فبدت أعماله مخيبة للكثيرين بسبب توحّشها، ونشازها، وغرابتها، ولوثتها، وتلوّثها، وعدم أهليتها لأن تعلَّق على جدار نظيف في بيت، أو متحف، لأنها لا تطاق.. ويُرجعُ استثمار المواد غير التقليدية الى نزوع شخصي للتجريب، واستثمار الاثر الذي يطرأ عليها من فعل الطبيعة بشكل يجعلها تكتسب مظاهر وأشكالاً مثيرة، فتكون وعيا بصناعة أثر فني مفارق ببدائل عن المواد التقليدية في فن يعمل خارج منطقتي الرسم والنحت المعهودتيْن، وخارج الأعراف الفنيّة جاعلا النصّ البصريّ مجالا لاستضافة واستقبال واستدعاء لأية مادة في الحياة اليومية، ويعيد الممارسةَ الفنيّة إلى بدائيّتها كفعل حرّ يُنجز أثره بتطويع أية مادة مهما تكن بساطتها في محاولة منحها قدرة تعبيرية.
***



يبني هاشم تايه منجزه بناءً قصديا حسب (قانون) التشاكل الصوري، بجمع عناصر من الصعب جمعُها، فكان ذلك الجمعُ (القسري) يخلق الانزياحَ الاستعاري الذي هو جوهرٌ للجمالي، كما هو جوهر للشعرية، وهي آلية استخدمها السورياليون: سلفادور دالي، وماكس ارنست..

***



ظلت المحركات السابقة لتجاربه في الرسم فاعلة هنا: أولا، مازالت البساطة والقوة التي كان يجلّها الرسام الشاعر (وليم بليك) في التكوين الخطي؛ حيث البساطة والتخلص من الشوائب الزائدة، ثانيا، مازالت المقاربة السيكولوجية صالحة هنا حيث تؤكد شخصياته بانها ترميزات لمظاهر داخلية من شخصية الرسام، مشفّرة عبر كائنات متعددة، ومتناقضة في تركيبها ومواقفها، يبثها بشكل يغطي مساحة العمل.. يستلّها من مستوى غائر، مطمور في أعماق النفس الإنسانية، وثالثا، ظلت (سلطة المادة) الجوهر الأكثر فاعلية في  تجربة هاشم تايه؛ فقد كان هذا الرسام قد تخلى عن مواده التقليدية السابقة والأدوات التقليدية، وواصل الاشتغال على الخامات الاستثنائية التي تذكرنا بتجربة الألوان العطارية (=النباتية) التي كان يجمّعها من مصادر نباتية متنوعة، وعودته إلى تجربة الورق المقوى في معرضه هذا، والعلب الورقية (الكارتون)، والأسلاك، والخيوط، والقناني البلاستيكية، وعجائن يصنعها من الورق المقوى أو من مواد أخرى، يحاول بها تطوير تقنياته في: الخرق، والحرق، والقص، واللصق، والتمزيق، والتراكم، والحك، والشطب، وسوى ذلك من التجارب التقنية، وكنا صنفنا تلك المحاولات بانها تقع ضمن ما يمكن ان نسميه (بالتشكيل الفقير)، مستثمرا كل مادة في اقصى ما تقدمه من قدرة تعبيرية؛ فكانت طبيعة المادة المستخدمة تلقي بثقلها على العمل، فكان العمل يأخذ استراتيجا مختلفا في كل مادة مستخدمة في إنجاز العمل؛ وبما يلائم الحدود التعبيرية لكل مادة.
***



ان احتلال تجربةِ هاشم تايه مكانا ضمن المشهد التشكيلي في البصْرة؛ قد يثير مفارقة، ومحنة نقدية، كيف احتلتْ تجربةٌ مفارقة لـ(ـلانساق) المألوفةِ والأنماطِ السائدةِ من الفنون التشكيلية، مفارِقة بالمادةِ، وبالتقنياتِ، والوقوع في (المابين)، وهنا تكمنُ محنة المشتغلين بالنقد التشكيلي، وامتحانُ (قواعِدهم)!.
***



أقيم معرض (حياة هشة) لهاشم تايه بعد عدد من المعارض السابقة: (لوحات مشوية) 1992 في قاعة المتحف الوطني في بغداد، و(منفيات هاشم تايه) في المركز الثقافي في البصرة 2007، ومعرض للتخطيطات في اتحاد الأدباء في تسعينيات القرن الماضي..
***



في جلسة اقامها اتحاد ادباء البصرة حول معرض (حياة هشة) اعتبر الكاتب صباح سبهان بأن تايه يكشف عن المخبوء من تحت اقنعة الجمالي باشتغاله على انساق ومهيمنات متحررة من الاستهلاك، وبمقصدية باحثا عن المسكوت عنه عبر لغة ثرة قادر على الادهاش وقادرة على نزع الاقنعة عن الايديولوجيا, وان تجربة تايه تقبلتها النخبة من المتلقين وعزف عنها الجمهور العريض رغم انها تجربة خصوصية من ناحية الخامات الموظفة التي قد لا تقاوم الزمن ولكنها قادرة على اثارة شعور بالاسى فقد اضفت المادة شعورا محسوسا وقيما مضافة..
واعتبر الكاتب احمد صحن اعمال هاشم تايه بأنها تحمل دادائية بصرية يتعذر على المتلقي فك شغراتها ورموزها الا بعد الغور في المعاني الصورية ليجد الروح التي تتحرك مستمدة طاقتها من ربط الاشياء المستخدمة واخضاعها لقواعد التشكيل خالقا بذلك تاثيرا تفاعليا ناتجا من الاشارات الصورية المنبعثة من عالم اللوحة الدادائية التي جاءت محصلة حكمة ان اللاشيء هو كل شيء، وان معرض (حياة هشة) يثير جملة استفهامات ومعان لا متناهية تدعونا لان نتلقى طيات الورق المقوى المعمولة باليد حينما قام الفنان بالجمع بينها وبين المتناقظات متحولة الى قوالب لفظية تتفاعل مع النفس وتحرك بوصلتها ضمن سياق الفن المضاد..
واعتبر التشكيلي عبد الرزاق الحلفي اعمال هاشم تايه رد فعل للشعور بالفراغ ولا جدوى الحياة التي يعيشها الناس في العراق فكانت تجربته في معرض (حياة هشة) محاولة للخلاص من قيود المنطق الذي فقد فاعليته، واستعادة لمنطلقات الدادائيين والياتهم في التعبير عن قسوة الحروب وجشع الانسان والافكار السلفية التي اصبحت عائقا بوجه الحياة..





الرسامة العراقيَة هناء مال الله معرضها في لندن كانون الاول 2012







الرسامة العراقيَة هناء مال الله معرضها في لندن كانون الاول 2012

  

فن الخراب....
من الفناء العراقي إلى الفناء الوجودي





خالد خضير الصالحي

تعتبر الرسامة العراقيَة هناء مال الله واحدةً من اهم رسامي "جيل الثمانيناتِ" في العراق، وهو الاسم الذي اطلقه نقاد الفن على الجيل الذي نضجِ في اتون الحروب: الحرب العراقية الإيرانيةِ (1980 -1988)، وبِدايات حرب الخليجِ الأولى التي جاءت بعد دمجِ الكويت مِن قِبل صدام حسين في 1990، وهم مجموعة فنانين قرّروا البَقاء والدِراسَة، ومُزَاوَلَة فنونِهم في العراق، وقد ادى تقييد حرية السفرِ، والصعوبات الإقتصادية، وعدم الإستقرار الإجتماعي وَالنِزاع المُسَلَّحِ المستمرِ إلى عزلةِ خانقة أَثّرتْ على العمليةِ الابداعيةِ؛ فانعكسُت مواقفهم في أعمالِهم الفنية. ويعتبر فنانو "جيل الثمانيناتِ"، مِنْ وجهةِ نظر تأريخِ الفَنِّ المُعاصرِ، حركةَ فَنِّية، أَو ربما مدرسة ذات أهمية كبيرة.



تتلاحق تحولات هناء مال الله في اتجاهها الذي بدأته قبل سنوات، والذي اسمته (فن الخراب)، حتى يصعب على النقد دمج تلك المتلاحقات الا ضمن منظومة اوسع من مفهوم الخراب، فربما ومن خلال معايشة العراقيين لما تخلفه الحروب عادة، فقد استحكمت منظومة (الموت) كأعظم الاسئلة الوجودية التي يواجهها العراقيون يوميا، وواجهها الانسان منذ وجوده وحتى الان، فخلال السَنَوات الخمس الماضية تَأمّلتُ معيشتها كلاجئة في البلادِ ذاتهاِ التي لعبت -على الأقل جزئياً-  دورا في احتلال العراق واتمام دائرة انتاج الخراب؛ فكانت هناء مال الله تواجه الاوساط الثقافية بما اختزنته ذاكرتها من اثار خراب الحروب، والتي بدات تتوسع الى رؤية فلسفية ذات جذور ثقافية صوفية تتعلق بمواقف الانسان في مواجهة السر الاعظم في الحياة وهو الموت.



لقد ادركت هتاء مال الله ان الرسم قضية بصرية لا تتسع في النهاية الا للبصريات والماديات التي تخلق البصريات، وهو ما ادركته هناء مال الله باحترافية عالية حينما حولت فكرة الفناء في اعمالها الى معالجات لمواد صلبة؛ لاعتقادها ان الفناء يضرب الصلب المحسوس ليخلق إحساسا بفاعليته التدميرية، فكما يحاول الانسان تحويل فعل الزمن الى سرد او تاريخ ليعطيه ملموسية، فإن هناء مال الله تحاول انتاج العكس حينما تستخلص من الصلب الذي تآكل بفعل فنائه إلى سرديات ورؤية فلسفية تعبر بها عن إحساسها تجاه التدمير الذي يطال الإنسان كما يطال المادة الملموسة متجها بها إلى الفناء..



تشكّل هناء مال الله رؤيتها من خلال أعمال تسميها (الحافة الحساسة)، وهي مرحلة حرجة بين التشخيص والتجريد،  وهي اعمال غالبا ما تكون ثلاثية الابعاد وتريد ان توصل عبرها ان كل شيء صلب وهو هنا محسوب بحكم صلابته على التشخيص ممكن ان يتحول الى تجريد بقوة الفناء... فهي تقتنص لحظات التحول تلك بين الوجود الصلب وبين الفناء التجريدي، ان هناء مال الله، وعلى خلاف غيرها من مجايليها، تعيش تجربتها كرؤية روحية تعالجها من خلال المادة التي تشتغل عليها...



لقد تركت الحرب ندوبا كبيرة داخل هناء مال الله بحكم التماسّ المباشر مع اثارها المدمرة، فأيقنت أنّ الخرابِ جوهرُ الوجود او مآله الحتمي، وان الصلابة (الموثوقة) يُمْكِنُ أَنْ يُتحوّلَ الى (لا شيء)ِ خلال اجزاء من الثانية. وهكذا ترسخ عندها يقين عبر الإسْتِنْتاج بأن الخرابِ هو اللحظة الحاسمة بين التشخيصِ والتجريدِ، بين إلوجود والِفناء, وهو مفهوم تعتبره ذا معنى روحيَ عميقَ أيضاً. وتعتبر تقنيةِ الخرابِ ناتج الوجهِ القاتلِ للحربِ، وانها استعادة وإنتاج لفكرةَ الحربِ وفعلها التدميريَ وفي اعادة انتاج التجربةِ العميقةِ لحقيقةِ للحربِ بصرف النّظر عن طبيعتها الجغرافسياسية او الجيوبوليتيكية.



تفيض الاعمال الفنية المحروقة، والممزّقَة، والمخَدشَة، والمجمّعة، في أغلب الأحيان، من مصادر متفرقة، برائحة الدخانِ، وبلون السخام، وكلها تجسيدات بصرية تقوم مقام التلميحات المؤلمة لدمارِ وطنِها، وتُوصلُ رسالة عابرة للجغرافيا وللتاريخ معاِ، فكرة تؤكد ان الخراب جوهرُ وجودي للوجود، وليس للموت، او بمعنى اوسع (الاندثار) الا حقيقة كل مادة صلبة تبدو من النظرة السطحية متماسكة فاذا بها يمكن خلال اي قدر من الزمن متناهيا في الطول او في القصر، تتحول الى هباءة، وهو ما تحاول ان تقدمه في اعمالها التشكيليِة التي تقع في لحظة التحول القلقة بين الوجود وبين الفناء، اي بمعنى تشكيلي تقف بين التجريد والتشخيص.


تقول هناء مال الله في حوار لنا معها عبر النت: "ان فكرة مفهوم الخراب الذي كان جزءا رئيسا من تجربتي الحياتية والفنية في العراق، والذي كنت اقترب منه محليا كمفهوم لصيق بجغرافية معينة (العراق) ميسوبوتاميا، وكأنه قدر مستدير التعاقب على العراق ولا يمكن الفرار، او الخلاص منه، بدأت اعيشه كمفهوم عالمي بعد خروجي من العراق، واستقراري في مدينة عالمية رأسمالية مثل لندن، حيث معاملتنا كأدوات، او بالأحرى وقود لإدامة وضعنا في خانة هوامش مجتمع العولمة الرأسمالي، واعتقد ان للفن العالمي المعاصر الان وتسويقه دورا كبيرا في هذه اللعبة العالمية للخراب، واقصد بذلك ان ما ينتج في الفن العالمي الان ليس الا انعكاسا صادقا لجوهر الخراب الذي نعيشه، والذي تغذيه الرأسمالية وثقافتها التافهه مثل اميركا. هذا ما يجعلني استشعر حافة الخراب في كل شيء اعيشه حتى وان كان في لحظات سلام".