الثلاثاء، 28 أغسطس 2012

حوار مع الناقد خالد خضير الصالحي


حوار مع الناقد خالد خضير الصالحي



"المشهد التشكيلي العراقي والعربي يفتقر إلى الجرأة والتقنية التي وصلها الفنان الاوربي"

  " الفن التشكيلي واقعة شيئية لها قوانينها الخاصة وأفق توقعها التعبيري الخاص "   

                                                حاوره: سعدون هليل

 خالد خضير الصالحي رسام وناقد تشكيلي ابتعد عن شروط  اللوحة التقليدية وانبهاره باللون،  واختار الأبيض والأسود عنصرا إيحائيا  لأعماله،  فهو لم يعتمد أدوات التشكيليين فقط، بل روح أولئك التشكيليين الذين تشبعوا بحبرية أولئك الشخوص الذين  كان يرسمهم بمداد اسود فاحم على مساحة مجاورة لنصوص الأدب، وهو مدرب شطرنج، وشاعر،  وناقد في المجالين  التشكيلي  والشعري، فأصدر مؤ خرا كتابا يتناول الشعر من الباب البصري وكان بعنوان (قيم تشكيلية في الشعر العراقي)، خالد خضير خلف الصالحي تولد البصرة  1956 بكالوريوس رسم في كلية الفنون الجميلة جامعة البصرة، دبلوم من المعهد العالي  للاتصالات. كاتبً وصحافي ورسام وناقد اًدبي وتشكيلي عضو جمعية التشكيليين العراقيين..صدر له كتاب عن دار الأديب البغدادي تحت عنوان "هاشم حنون تحولات الواقعية الشيئية"، له كتاب مخطوط من ثلاثة أجزاء بعنوان ( الرسم العراقي.. اللوحة واقعة شيئية). له كتاب مترجم مطبوع في عمان بعنوان (الشطرنج للمبتدئين منهاج تدريبي للناشئة) 2003 م.  الفنان الصالحي زارنا في جريدة طريق الشعب وكان لنا معه هذا الحوار..

·   قرأنا لك، وسمعناك شفاها في محاضراتك وتفوهاتك اللفظية، تردد أن العمل الفني واقعة شيئية، وان النقد الحق هو الذي يدرس العمل الفني باعتباره كذلك؛ وبالتالي فأنت تنزع عن الكثير من الكتابات صفة النقد، فهلا أوضحت لنا ذلك!..
أوضّح أولا أننا نقصد بالفن هنا وبالعمل الفني الرسمَ تحديدا أو الرسمَ أكثر من غيره، وان كان تعريفنا  يشمل النحت والسيراميك وأنماط الرسم المختلفة، رغم ان هذه الأنماط الفنية تختلف عن بعضها اختلافات تفرضها طبيعة المادة التي يشتغل عليها الفنان التشكيلي، وثانيا بأننا نعتقد كذلك ان العمل الفني واقعة تتألف من مستويين بنائيين مستقلين: مستوى تحتي مادي شيئي ينتمي الى جوهر العمل الفني المادي (البصري او اللمسي)، ومستوى دلالي فوقي ينشأ كهامش سردي على الواقعة الشيئية، وهو، أي المستوى الفوقي، وان كان موجودا ضمن جوهر العمل الفني فإنه لا ينتمي إلى البنية المادية للعمل الفني، وهذا الهامش هو ما يسميه النقد التقليدي بالموضوع، وهو الذي يعتبره الناقد البريطاني هربرت ريد طريقا للانزلاق إلى شتى الأهواء، وذلك بسبب ان الحكْم الجماليّ، والحقل الجماليّ ليس معرفة، لذا فهو مستقل عن معايير العقل وقيمه الأخلاقية والتقوية، وان الربط ألقسري بين الفن وبين الحقيقة منذ هيجل، واعتبار العمل الفني تجسدا للفكرة المطلقة، قد خلف كوارث دفع ثمنها الفن وحده، فالعمل الفني في حقيقته جوهر مادّيّ قائم في ذاته، ويعرض نفسه في وجوده الخاص، لذلك علينا تعميق البحث في الخصائص المادية للعمل الفني أي في شيئيته، وهي وجوده المادّيّ والتقني، وهذا الأمر يصدق كذلك على الأدب وتحديدا الشعر فجوهر الفن هو الشعر، ويجب أنْ يجري البحث عن جوهر الشعر في (الشعرية) التي تكمن في خصائص النص، وفي طبيعته النصّيّة واللغوية الجوهرية، ونحن نعتقد أنّ الكتابة (النقدية) التي تتناول العمل الفني عليها أن تتناول وجوده المادي الشيئي لتكون حقا كتابة نقدية، بينما نجد أنّ أطنانا من الصفحات التي يسوّدها الكتّاب تنتمي في حقيقتها إلى حقول قريبة من النقد التشكيلي كالسوسيولوجيا مثلا (علم اجتماع الفن) أو تنتمي إلى حقول راسخة أخرى كعلم النفس أو قد تكون تأملات فلسفية أو كتابة صحفية أو غير ذلك وهي في هذه الحالة لا تبحث سوى ببنيته الفوقية السردية التي يتساوى فيها مع وسائل تعبير أخرى ويفقد خصوصيته التي تعطيه شخصيته المتفردة وهي وجوده كواقعة شيئية، ومن الصعب أن تنتمي كتابات كهذه إلى النقد التشكيلي برأينا.. وكما يقول اوسكار وايلد ان على الفن ان يجد تحققه داخل ذاته وليس خارجها، فإننا نقول ان النقد التشكيلي من باب مماثل ان يجد ميدان اشتغاله داخل البنية الشيئية للعمل الفني لا خارجه، اي في جوهره لا في هوامشه السردية التي وان وجدت فيه الا انها لا تنتمي الى الفن كواقعة مادية..  وان يكفوا عن الاستناد الى تصريحات الفنان فهي لا قيمة لها الا باعتبارها قراءة مستقلة يقوم بها المبدع نفسه ولكن بصورة مستقلة عنه كمبدع للعمل الفني وان لا تكون لها أفضلية على غيرها من القراءات الأخرى نهائيا، فالعمل الفني هو المرتكز الأساس في القراءة النقدية وعلينا ان نكف عن البحث خارجه.. 
·   باعتبارك ناقداً تشكيلياً، هل ثمة مدرسة نقدية معينة تعتمدها في رؤيتك النقدية لتحليل العمل الفني؟ ما هي المفاهيم  النقدية او المدرسة  التي تميل  إليها  في  تحليل  النصوص التشكيلية ؟؟ 
_ انها مفاهيم كما قلت تعنى بدراسة الواقعة الشيئية او مادية اللوحة، واعتبار اللوحة مناسبة لوضع المادة على سطح ما، والمادة تشتمل اللون وكل التقنيات المرافقة كالتعتيق والحروق والخروق والملصّقات (المواد المضافة)، وهي رؤية اقرب ما تكون الى المفاهيم النصية والشعرية التي اعتقدها الأكثر كفاءة في دراسة الشعر وفي دراسة العمل الفني بصفته المادية، أي دراسة اللوحة باعتبارها واقعة نصية بمعنى انطوائها على بنية مادية (texture) هي البنية الاساس المكونة للعمل الفني.
·        ما العلاقة بين قراءة النص التشكيلي وقراءة النص الأدبي، وهل تقترب القراءتان حد الامتزاج؟
_   أعتقد أن النص اللغوي والنص البصري هما حقلان مختلفان في وسائل التعبير وفي المقاربات النقدية، إلا أن لهما مشتركا عاما هو  ثنائية الصورة بنمطيها: الصورة الشعرية بصفتها استعارة والصورة البصرية باعتبارها واقعة تشاكل صوري، وقد بحث هذا الأمر باستفاضة صديقنا الشاعر والناقد التشكيلي شاكر لعيبي، باعتبار العلاقة تتمحور بين طرفين هما: الصورة البصرية طرفا، والمجاز الشعري طرفا آخر باعتبارهما طرفي القضية، أو شكلي تمظهرهما، بين الصورة ( بمعنى العلامة البصرية ) وبين الصورة في اللغة المنطوقة باعتبارها اهم تحققات (الشعرية)، ومن خلال تعاكس مرآوي بين طرفي هذه الثنائية، وهذه الآلية كرس لها مؤلفا كتاب (الشعر والرسم ( قبله اهتمامهما باعتبارها الآلية الأكثر فاعلية لدراسة (الصورة الشعرية) من خلال عملية التشاكل الصوري بين مشخصات الواقع مع بعضها. وهي عملية تتضمن شيئا مما كان يفهم به بعض البلاغيين العرب المجاز بأنه "فكرة (المشابهة) بين دالين"، و"إقامة مماثلة بين أمرين أو أكثر لاشتراكها في صفة أو أكثر بأداة لغرض مقصود، وهي قد لا تختلف كثيراً عن فهم الصورة البصرية بأنها امتزاج بين (حقلين صوريين). أما من ناحية الاختلاف فإن ذلك ناشئ من اختلافات نسقية بين حقلين تعبيريين مختلفين، وإن أية محاولة لردم ذلك الاختلاف من خلال تحويل الواقعة الشيئية للرسم إلى واقعة لغوية هو معنى محكوم عليه بقدر كبير من التجني على الرسم، والفن التشكيلي عموما، باعتباره واقعة شيئية لها قوانينها الخاصة وأفق توقعها التعبيري الخاص.
·   هل توصل الفنان التشكيلي العراقي والعربي على مستوى الطرح الثيمي أن يطرح الكثير من التابوات أو يصل في طرحه ليتناول المناطق المسكوت عنها كما في الأدب الذي تعرض لتلك المناطق الحرجة؟.
_ يفتقر المشهد التشكيلي العراقي والعربي إلى الجرأة التي وصلها الفنان الأوربي، ويفتقر المتلقون إلى القدرة على هضم قدر كبير مما وصل إليه الفن العالمي، ويفتقر النقاد كذلك الجرأة في التبشير بتحولات الفن مما يعني ضلوعهم جميعا في وأد التحولات الجديدة قبل نشوئها، كما أنهم يفتقرون الى الجرأة بالتبشير بأنماط  من الفن الموجودة والتي لم تزل في منطقة هامش الفن، كالفن الفطري أو الفن الهامشي outsider art الذي يظهر في تجارب العديد من الفنانين الهامشيين العراقيين  في مجال الرسم: "كهاشم تايه، أو رؤيا رءوف،  أولهيب جاد واو صدر الدين امين"، وقد ساهم الفهم الرسمي الارثوذكسي للقوى المهيمنة على الثقافة العراقية عبر عقود بعد نشوء الدولة العراقية وحتى الآن في تكريس الفن باعتباره أداة نفعية لأفكار خارجة عنه ولا تمت بأية صلة للفن، وأتوقع ان تزداد محنة الفن والثقافة العراقية والعربية أيضا بعد بدأ هيمنة الأحزاب الإسلامية التي لا تختلف عن الأحزاب الشمولية الأخرى في موقفها النفعي من الفن..
* بدأت رساما- مخططا، وها أنت منصرف الآن كليا إلى النقد. ترى هل تقدم الناقد فيك على الرسام؟
- ليس كليا تماما، فأنا رسام الى اللحظة الحاضرة، لكني لم أعد مصورا، والفرق في لغتنا العربية ملتبس، فالرسام هو المخطط، الكاليغرافي، بينما المصور هو الملون، وكما هي الحياة، تجد أن الحدود بين هذين العنصرين ليست حدودا واضحة، خطا مستقيما، ولكن يمكن على أساسه وضع الكرافيكيين والحروفيين (الذين يمارسون الحروفيات ككاليغراف في الرسم) والمخططين (الذين يستخدمون الأقلام بأنواعها، وحتى أية أداة تنتج أثرا على سطح) في فئة واحدة هي فئة الرسامين، وبهذا لا أكون قد هجرت الرسم فأنا أنشر بصورة مستمرة في الصحافة العراقية، وأن كانت الكتابة قد أخذت جزء كبيرا من جهدي. إن إدامة وجود علاقة متوازنة بين الرسم والإبداع بصفة عامة والنقد مسألة تتطلب جهدا وبنية عقلية قادرة على الاشتغال على نمطي الإبداع: السامي و النثري معا، وتلك قضية تستوجب نمطين من الانشغالات العقلية، بينهما مسافة، وأنا أعتقد أن خير من جمع تلكما الصناعتين، في الفن التشكيلي العربي هو أستاذنا الفنان الناقد شاكر حسن آل سعيد.  
* هل هناك شروط معينة لكي يكون المرء ناقداً تشكيليا غير منحاز؟
_ أولا لم أفهم كيف ينحاز الناقد أو لا ينحاز في نقده للوحة ما لم نعترف أنه يمارس نقده وفق آليات معيارية عفا عليها الزمن، رغم ابتلاء النقد التشكيلي العراقي والعربي بها، النقد الآن قراءة توصيفية لا أهداف نفعية لها تشترط ليس فقط الحيادية في تناول الفن وانما الحصافة العلمية التي تشترط عزل الواقعة عن الخارج، لذا وكلما ابتعدنا خطوة عن النفعية فإن الانحياز إلى شروط الرسم وقوانينه الداخلية يصبح أمرا مطلوبا في مؤهلات الناقد الناجح، ولم يعد من يطالب الناقد بالحيادية فهو لم يعد يبين نقاط القوة ونقاط الضعف في العمل الفني ويعاير بينهما؛ فلم تعد هذه هي مهمة النقد الحداثي الذي بدأ بالعناية بمتيريالية اللوحة، أي بوجودها المادي.
·        ما هي أهم المرجعيات التي أسست لقاعدة التحولات الأسلوبية الحديثة في التشكيل العراقي؟
_  إن تحوّل الفن العراقي من الرسم الشعبي إلى تقاليد اللوحة المسندية (لوحة الألوان الزيتية) هو الخطوة الحاسمة في تدشين الحداثة في الفن العراقي، وهو يعود إلى سفر الموفدين الأوائل لدراسة الفن التشكيلي (اكرم شكري، فائق حسن، جواد سليم....) ومن ثم تأسيس معهد الفنون الجميلة، وكانت مرجعيات هؤلاء ملتبسة بشكل مربك، فلقد كانت سطوة الإشكالية الحضارية لعصر النهضة العربية (الموازنة المقدسة بين التراث والمعاصرة) تثقل كاهل هؤلاء، وكان تأسيس جماعة بغداد للفن الحديث 1950-1951  مصطبغا بجوهر خطاب هذه الإشكالية، وقد مثل جواد سليم رأس الحربة في إيجاد (نموذج تشكيلي عربي!) تتحقق فيه هذه الثنائية، التي هي ليست شرطا من شروط الرسم (والنحت) بأية حال، ولكن لا أحد كان يجرؤ على قول ذلك علنا !!، وكان اكتشاف الواسطي، من قبل جبرا إبراهيم جبرا وتنبيه جواد سليم عنه، كان كافيا كمفتاح لحل تطبيقي لهذه المشكلة من قبل أوساط الفن التشكيلي، فقد أتاحت الاحتفاظ بدرجة (مقبولة) لدى الفنانين، وهم تعبيريون بالأساس، ولدى المتلقين الذين يبحثون أولا عن تشابه مع أشكال الواقع، وأخيرا كانت تلك الأشكال تذكّر بالتراث!، وفيها (تكنولوجيا) الحداثة متمثلة بالألوان والأدوات الأوربية!..
لكن حلول جواد سليم، ونحن نتحدث عن الرسم اكثر من النحت، لأن مشكلة النحت كانت أشد تعقيدا ونؤجل الخوض فيها الآن، كانت يجب أن تكون بمقام (المقترحات) ويجب أن تتواصل، بحيث يقدم كل رسام مقترحه الخاص، بينما الذي حدث أن أضحت حلول جواد (أنساقا) و(نصوصا أولى) يستمد منها الفنانون المحيطون به (أشكالهم)، مع بعض التحويرات الطفيفة، فأصيب الفن العراقي الحديث بحالة من العقم والتناسخ الداخلي.
·        هناك قامات مهمة في التشكيل العراقي، وقد ظهرت أسماء جديدة، هل كان لها تأثير على الفضاء الفني عندنا؟
_  يمكن أن نحدد الجغرافيات الأسلوبية في المشهد التشكيلي العراقي في الوقت الحاضر بالنسق التشخيصي والنسق التجريدي، وكلا النمطين قد هيمنت فيهما موجهات صورية كانت تقود الرسامين بقوة، وتهيمن على ذاكرتهم، ونبتدئ بالنسق التجريدي العراقي في فن الرسم؛ فنضعه ضمن أنساق فرعية تحاول أن تصنف تجارب الرسامين التجريديين العراقيين إلى زمر متناظرة ومتمايزة عن بعضها، فنزعم أن تلك التجارب يمكن أن تصطف في نسقين من الرسم: نسق انبثق من التعبيرية، ومن التشخيص ببطء، وظل وفياً لهما حتى في (أشد) حالاته تجريداً، ونسق ابتدأ من (اللا تشخيص)، وظل كذلك وفياً له؛ فكنت أتخيل دائما كل أولئك الرسامين وهم يحتفظون بموجهات صورية تقودهم بقوة، وتهيمن على ذاكرتهم، وتكمن حيث يكمن الطابع في قلب الرؤية الفنية. ولا يستثنى من أولئك ومن هؤلاء أحد سواء أكان رساما تشخيصيا أم رساما غير تشخيصي، فتلك الهيمنة واقعة في كل الأحوال، وفي كل أنساق فن الرسم، وهي قوة غامضة شكلتها ثقافة الرسامين البصرية ببطء؛ فهيمنت عليهم؛ وقادتهم إلى حقل اشتغالها؛ حيث التفكير بالصور.
وقد كنت أختار بعضاً من الفئة الأولى، التي تبتدئ بمشخصات الواقع وتنتهي بها مجردة، وبعضا من الفئة الثانية التي تبتدئ (باللا شكلية) وتنتهي بها، فكنت أختار: شاكر حسن آل سعيد ورافع الناصري وضياء العزاوي وعلي طالب من فئة الستينيين، وقد صنفت آل سعيد معهم ستينيا بشكل متعمد، واتخذت هاشم حنون الرسام العراقي المقيم في عمان وهاني مظهر المقيم في لندن الآن نموذجاً لفئة (المشخصين)، أولئك الذين منعتهم ( فكرة الشيء) من الرسم بطريقة (تجريدية) مثلما مَنعتْ بيكاسو الذي كان يؤكد "ليس هناك فن تجريدي.. ينبغي عليك دائماً أن تبدأ من شيء ما، وبعد ذلك تستطيع أن تزيل عنه كل بصمات الواقع.. ومهما يحدث فإن فكرة الشيء تكون قد تركت علامة لا يمكن إزالتها". فليس من الضروري للفنان، كما يؤكد هنري ماتيس، أن يمتلك داخل نفسه إيضاحاً لذلك الشيء الذي يمتلكه عميقاً داخل نفسه، وليس ذلك الشيء الغامض سوى تلك (الحقيقة التصويرية) التي توضع بالتقابل وبالتضاد تماما أمام (الحقيقة الحكائية)؛ لأن الرسام معني بتكوين الأولى وليس الثانية، وبذلك تكون تلك العلامة الصورية للمشخّص قد هيمنت بطريقة لا يمكن محوها مهما حاول الرسام الإيغال في المجردات.. وأختار: هناء مال الله ونزار يحيى وكريم رسن وغسان غائب وسامر أسامة وشداد عبد القهار من جيل ما بعد الستينات نموذجاً لـ(ـلاشكليين)، بينما هناك مشخصون في هذا الجيل، وهؤلاء إما أن يكونوا ممن اتبع خطى فائق حسن في خطه الانطباعي حيث التركيز على المادة ومن هؤلاء أذكر بالراحل محمد صبري وسعيد شنين وسيروان باران، واذكّر بآخرين، ممن أصفهم بالأكاديميين ممن تأثروا بالمدرسة المكسيكية وأذكر منهم: محمد عارف وماهود أحمد وفيصل لعيبي وعفيفة لعيبي، ونحن لا ننكر أن هذه التقسيمات فيها من الاعتباطية والميوعة ما يجعلها رجراجة لا تعرف حدود مياهها الإقليمية بدقة.
* المتابع لنشاطاتك يرى تنوع اهتمامك، فأنت رسام وخطاط وشاعر ومدرب شطرنج وناقد تشكيلي، كيف تستطيع الموازنة بين كل هذه الاهتمامات؟.
_ إنه التنوع الذي إمتدحناه قبل قليل، أليس كذلك، لقد كتب القاص غالب هلسا في مقدمة ترجمته لكتاب "جماليات المكان لباشلار" ان اهمية أي كتاب هو حينما يدخل لحمة الثقافة المحلية، وهو ما كان يفعله بابداع نادر (شاكر حسن آل سعيد)، حينما كان يصهر كل شيء ليخرج بخلطة ثقافته والتي كان لا يتحرج بوصفها بـ(ـالكولاجية)، أي التلصيقية او الترقيعية، إيمانا منه بوضوح تنوعها، إلا ان ابدع ما كان فيها انها انصهرت كلها في ثقافة وخطاب آل سعيد، وارجو ان اكون قد تمكنت من تحقيق درجة ما من ذلك، فقد استعرت مرة مفهوم الايقاع في كتابتي عن الرسامة عفيفة لعيبي وهو مفهوم شطرنجي يوضح سرعة تحولات الوضع على رقعة الشطرنج ومفاهيم اخرى يتم ترحيلها من هذه الاهتمامات نحو بعضها.
·   الفنان الصالحي كتب في نقد الشعر، هل تجد اختلافاً بما يتعلق بنقد النصوص الشعرية والأعمال الفنية التشكيلية كنص؟
_... طبعا هنالك إختلافات كبيرة بين النصين اللغوي والبصري، مثلما هنالك مشتركات، فعدد من هوامش العنوان في (كتب) الشعر ذات طبيعة بصرية او مادية، كلوحة العنوان والتخطيطات المرافقة وأشكال الحروف والتصميم وهندسة النص على سطح الصفحات وغيرها. ولأننا كنا قد بدأنا علاقتنا بالثقافة بداية لغوية، من خلال الأدب، والشعر خاصة، جَعلتنا نبحث، معظم الوقت، في تخوم العلاقة بين هذين النمطين الإبداعيين،  رغم أنهما من طبيعتين مختلفتين: طبيعة لغوية، وأخرى بصرية، إلا أننا نشعر بوشائجهما قوية بشكل محسوس في ميدان الصورة الشعرية والبصرية معا، إلا أننا رغم  وجهة النظر هذه  التي نزعم أنها خبرت كلا الفنين بدرجة لا بأس بها،  وهو ما يجعلنا نتعامل مع الجوانب البصرية للغة، أو ما تسميه هناء مال الله (العناصر التكوينية للوحة) بشكل يجعلها أمامنا وكأنها لوحة، باحثين فيها عن الجوانب البصرية، وعن ما يربطها بالرسم من الناحية البنائية، إلا أننا بقينا غير ميالين بدرجة كبيرة إلى الاعتماد على النص اللغوي الذي يكتبه المبدع او مرسل الخطاب اعتمادا في ذلك على ما نشعره من اختلاف في طبيعة الخطابين: البصري واللغوي، وبذلك فنحن كنا ُنقصر اهتمامنا وثقتنا بما يبثه النص البصري باعتباره الوثيقة الوحيدة المطروحة للقراءة ومن ثم التأويل هنا، أي كمون مركزية القراءة في النصوص البصرية، خذ مثلا كتابتنا عن نص (عيد البوقات) للشاعر حسين عبد اللطيف الذي نشره في نص (كتاب) ديوان نار القطرب، وقد قلنا فيه "نص كتاب" للتدليل على الجانب (المادي) للكتاب، وهو ما قادنا إلى ان ذلك (الكتاب الذي بين الدفتين) لا يقتصر على (المدونة) اللغوية بل يتشكل، برأينا من مجموعة من الإكسسوارات، او ما اقترح القاص محمود عبد الوهاب في محاورة شفوية لي معه تسميته (هوامش العنوان) على ما اذكر، وهي: صورة الغلاف ولونه، والعنوان ونوع خطه، وشكل الحرف، وعناوين القصائد ونصوصها، ثم التصديرات والإهداءات والهوامش والمقتبسات، ثم ما فعلته أنا بعدد من النسخ حينما قمت بالرسم في الفراغات التي بين نصوصها.
وحينما درج نقاد الأدب يبتدئون بالعنوان، باعتباره بوابة النص، وهو هنا يتوفر على بنية صورية ورمزية دالة بعمق، فنحن نبتدئ مما يهمله أولئك النقاد، وهو الغلاف، باعتباره بوابة الديوان القرائية الأهم، ونحن نزعم إننا أكثر معرفة بأهمية هذا الغلاف باعتباره دالة قرائية مهمة وبؤرة لامة؛ بسبب كوننا من قام بتصميم ورسم الغلاف، وهو تخطيط بالحبر الصيني، مصورا بطريقة الصورة السلبية (النيجاتيف)، ويمثل واحدا من مجموعة من أقدم الدمى والتماثيل الحجرية المجسمة العراقية القديمة التي ارتفعت فوق مستوى الحرفة الصرف الى مرتبة الفن الحقيقي، مرجعيتنا البصرية والدلالية، عند إنجازنا الغلاف.
ونحن نعتقد ان الغلاف هو جزء من هوامش العنوان؛ فرغم ان الغلاف لم يرسمه الشاعر، إلا انه وافق عليه، وتبناه فكان بالنسبة  إليه مادة نصية جاهزة، يماثل ما يعرف بالمواد الجاهزة (ready made) التي يستخدمها في بناء (كتابه).
·        ألا ترى معي ان الكثير من الفنانين يقعون في شطط الخيال والارتجال في طرح كتابات ترافق أعمالهم الفنية؟
_ فيما يخص مطويات المعارض فقد كتبنا مرة موضحين بان" كاسيرر" قد عرّف الفن بأنه لغة رمزية، وهيمن ذلك التعريف على الدراسات الفنية في القرن العشرين، فكان أخطر نتائج تلك الدعوة، حسبما يؤكد جورج كوبلر، ان استأثرت دراسات المعنى بكل الاهتمام، فكان "الحكم على العمل الفني في ضوء مضمونه, سبيل يؤدي الى تدخل كل أنواع الأهواء والتحيزات التي لا صلة لها بالأمر" كما يقرر (هربرت ريد)؛ فتراجع تعريف الفن بكونه نظاما من العلاقات الشكلية، وهو التعريف الأهم برأينا، رغم انه مازال بعيدا عما ألفه الناس، فقلما يعتقد سوى القلة من المختصين في الفن التشكيلي بآفاقه الحداثية وان اللوحة ليست في النهاية إلا سطحا مطليا بالمادة، أي الإقرار (بشيئية اللوحة) ومادية التعبير، وان جل ما يكتبه الرسامون في مطويات معارضهم في العراق ينصب في جانب المعنى بمختلف اتجاهاته، وهذه، برأينا الخطورة الأولى في تلك الكتابات، كونها تكرس تناول المعنى على حساب متيريالية اللوحة.
وتتمثل الخطورة الثانية في اتجاه تحول كتابات التشكيليين في مطويات معارضهم إلى ما يؤدي إلى بث موجهات قرائية متعمدة، وتتمثل الثالثة، بشيوع ما يسميه شاكر لعيبي قضية اختراع حوامل خادعة  supports  سرعان ما يقع فيها الرسام نفسه بطريقة الخداع الذاتي بعد ان يبدأ الكتاب بتناقلها العمياني، فيبدأ الرسام بتكرار ترديدها مما يعرض التجربة إلى خطر التناسخ الداخلي الذي يجعلها تدور في فلك حلقة مفرغة تؤدي إلى توقف إيقاع التحولات الأسلوبية فيها، ولكن لا يمكن نكران وجود رؤية فنية تنظيرية متكاملة لدى بعض الرسامين ممن يحاولون تطويرها من خلال معارضهم التي يقيمونها وينظرون لها في مطويات معارضهم، ونحن نتقبلها كمدخل قرائي يقترحه الفنان بصفته قارئا للمنجز وليس بصفته منتجا له، وهذا هو السبب الوحيد الذي لأجله كنت اعتمد في بعض وجهات نظري على الرؤية التنظيرية في مدونة المطوية باعتبارها نص قارئ اخر هو رسام الاعمال.

·   العراق من البلدان التي تعرضت الى هجرات عديدة نتيجة الحروب والحصارات وغير ذلك وكان الفنان والمبدع العراقي أول من هاجر باعتباره المعبر عن روح عصره وواقعه و لأنه يريد أن يتنفس ويبدع بعيدا عن الاقصاءات والتشوهات التي طالت انسان مابين النهرين، مامدى تأثير الهجرات على المشهد التشكيلي ؟
_ إن هجرة المبدعين العراقيين تنطوي على مزية مهمة في توفير جانب إيجابي في اطلاع الفنانين على تجارب فنية في البلدان التي هاجروا إليها، كما وفرت لهم فرصة الاتصال بالفنانين العالميين وبشكل مباشر وزيارة كبريات المتاحف والمعارض الفنية في كل أنحاء العالم، كما أتاحت لهم الحرية الكاملة في إنجاز تجاربهم وكان منجزهم محظوظا بالمتابعة النقدية التي حققت لهم الانتشار والذيوع وهذا بدوره أدى إلى اقتناء أعمالهم في مختلف المتاحف والكاليريهات العالمية، أتاحت لهم الاشتغال بمواد لم تكن لتتوفر لهم في العراق وخاصة في فترة الحصار، ومعظمهم يتواصل مع الثقافة العراقية بل ويعتبر نفسه جزءا منها، وان التشكيليين قادرين على الاندماج السريع مع الثقافات الاخرى والاستفادة منها على عكس المشتغلين في الحقل اللغة الذين تقف قضية اللغة بصعوبات تمكنهم منها او بفعل هيمنتها على لاوعيهم الثقافي، فتكون حجر عثرة امام اندماجهم مع الثقافات الاخرى، وهو امر لا يعانيه التشكيليون لان الصورة ثقافة عالمية بينما اللغة ثقافة قومية كما يقول ريجيه دوبريه...