الثلاثاء، 29 مايو 2012



الرسام كريم رسن..
            في آخر صفحات منجزه
  

             قطيعة
                  الحداثة الثمانينية


"النص يحدثنا عن (استقلاليته) فأصغ أيها الآخر"
(شاكر حسن آل سعيد، أنا النقطة فوق فاء الحرف، بغداد 1998، ص40)



                                                                               خالد خضير الصالحي


                                                                                  العـراق – البصـرة


1

كتبنا مرة عن (تقنية الخراب) باعتبارها المنجز الأخير لهناء مال الله وتنظيراتها في لندن، فكررنا ما قلناه في مقال سابق لنا، بان الفنانين يحافظون على مرتكزاتهم الأولى التي من الصعب محوها إلا بتحولات كارثية من وجهة النظر الطوبولوجية، وان هناء مال الله، هي الأخرى، قد (حافظت) على مرتكزاتها الأولية التي كانت قد أسست عليها البذور الأولى لرؤيتها، فلازمتها، وكانت بالنسبة لها نسقا ثقافيا شخصيا تحركت ضمن مدياته، وظلت أمينة عليه، رغم أنها كانت تقوم بالتنويع في رؤيتها الفنية، وفي معالجة موضوعاتها لتحافظ على درجة من القطيعة المحسوسة الضرورية لحيوية منجزها..... إلا ان كل ذلك ظل مرتكـِزا على مفهومها عن فنّ الحقيقة المحيطية الذي تشبعت به تجربتها حد الهوس، وهو ما تلمسته في تجارب العديد من مجايلي هناء مال الله  من جيل الثمانينات: (هناء مال الله، وفاخر محمد، وكريم رسن، وغسان غائب، وحيدر خالد، ونديم محسن، ونزار يحي، وإيمان علي، وهيمت محمد علي، وسامر أسامة، ومحمود لعبيدي، وحسن عبود، وهاشم حنون، وعاصم عبد الأمير، وإيمان عبد الله، وجسام خضر، وفاضل العكرفي، وجبار عبد الرضا، وعدنان عبد سلمان) أولئك الذين كتب عنهم فاروق يوسف في ذلك الوقت (مجلة آفاق عربية، ك2، 1994، ص69)، لقد "زلزلت الحرب أوصالهم"؛ فكانوا "يعيشون نوعا من الخلخلة"، إنهم جيل "لا يجمعهم شيء قدر رغبتهم في كتابة الفصل الأخير لنوع الحداثة الفنية"، التي كانت محاولات رسامي الثمانينات "المقدمة لهذا النوع من الرسم ".

2



مازال كريم رسن، منذ ذلك  الوقت وحتى الآن، حريصا على ذلك النمط من الحداثة التي اختطها جيل الثمانينات، وما زال سائرا في ذات المرتكزات التي أسست رؤيته: الأثر الإنساني، والحقيقة المحيطية، بما لها من قدرة استطاعت زلزلت الرسم الستيني ببقاياه التوفيقية التي ظلت عالقة بأذياله حتى مجيء جيل الثمانينات.
يبدو كريم رسن وكأنه يحاول ان ينسحب من مسؤولية رسم اللوحة حينما يعقد ما يسميه (امبرتو ايكو) "ميثاقا تخيليا ضمنيا مع المؤلف"، وهو عقد يتم اعتماده ضمنيا بين كاتب الرواية وبين القارئ الذي يحتاجه من اجل ان يتقبل الشطحات الخيالية للسرد، وكان كوليرج يسميه (تعطيل الإحساس بالارتياب)، وبه يتقبل القارئ ما يحكيه السارد باعتباره "قصة خيالية دون ان يعني ذلك أنها مجرد كذب، وان المؤلف يوهمنا فقط"، بما يخالف قوانين العقل والمنطق، وهو ما يحتاجه متلقو أعمال كريم رسن في تقبل ان ما ينظرون إليه ليس إلا شريحة من الجداران (بوصفها سجلا موضوعيا للبيئة والمحيط)، وأحيانا يتمادى كريم رسن  برسم طابوق في اللوحة؛ كما يقوم بإخفاء توقيعه في احد أقصى أطراف اللوحة تحت ركام العلامات وغلالات اللون؛  برغبة جامحة بالتواري خلف آثار سطح الجدار، وبذاك يعلن كريم رسن موت منتج الخطاب لصالح فاعلية اللوحة الفنية "فهو فنان محيطي أو بيئوي يحاول ان (يستلّ) من (لحظة) التقائه مع العالم المحيط (ما) يمكن ان يحقق تواصل معه" حيث تتم إحالة اللوحة إلى "(شريحة جدارية أو أرضية) منظورا إليها بصورة مجهرية أو تلسكوبية"  (آل سعيد، مقال منشور في الموقع الالكتروني لكريم رسن)، أو يعيد إنتاج فعل قوى الطبيعة والأثر الفني، عندها سيكون "المبدأ الأساس  لهذه (المرجعية) هو (لبدء) من المحيط وليس الانتهاء إليه".

3




حينما يكتب فاروق يوسف ان كريم رسن يجد مصادره في الفن لا في الحياة، وانه لا يستعين بذاكرته البصرية بقدر ما يستعين بمتحفه الخيالي، فان فاروق يوسف ينفي النصف الآخر من مصدري الأثر الفني في سيرورته الأخيرة نحو (القيمة الفنية)؛ وذلك لان اللوحة عند ذاك لا تكون "أكثر من (نسخة ثانية) لأي سطح كان: الأرض.... العمل الآخر ، إنها (تنصيص)" حسبما يؤكد آل سعيد (أنا النقطة فوق فاء الحرف، بغداد، 1998، ص 36)

4



يعود كريم رسن إلى معمار ثلاثي لأعماله ، حينما كانت بنية لوحته، وجغرافية عناصرها، ماثلة بزحزحة مختلفة هذه المرة، فقد كان فيما مضى يبني على الضروب الثلاثة التي وصفها سهيل سامي نادر قبل أعوام "الأول، حر يعتمد على موضوع تخطيطي عام، وتوزيع كيفي لبعض الأشكال العضوية والنباتية والرمزية، والثاني، يعتمد بالكامل على موتيفات صغيرة مغلقة هي رديف كتابة تصويرية، وضعت في حقول عمودية وأفقية، والثالث، يتخذ شكل اتجاه غرافيكي حر يستفيد من رسوم الأطفال من حيث التوزيع ونقاء الإحساس وكفاية التعبير الجوهري للخط"، بينما هو الآن يزحزح تلك الضروب الثلاثة لتتألف من: أولا، مساحات اللون الواسعة، وشبه النقية التي هيمنت على تجربته عقودا طويلة، ثانيا، بقع وضربات وبثور لونية ينفثها أحيانا على سطح اللوحة مباشرة وأحيانا بواسطة قوالب حروف لاتينية، وهي حروف غير قابلة للقراءة غالبا، على عكس تلك التي يكتبها محمد مهر الدين مقروءة ليوصل بها رسالة لغوية إلى المتلقي، ثالثا، أشكال مشخصة ملصقة ككولاجات، أو مرسومة بطريقة طفولية مشخصة. 
تعود لوحة كريم رسن، شيئا فشيئا، مقارنة بمنجزه السابق، إلى بساطة تركيبية حيث تقل سماكتها التي كانت تجعل منها عملا يمتلك بعدا رابعا، من خلال العمق الذي تصنعه مختلف تجارب الحك، والحفر، والشطب التي كان يجريها في عمق اللوحة، وهو ما كان شاكر حسن آل سعيد يسميه "الحفر في لحم اللوحة، والكشف عن إمكانيات السطح التصويري المخبوءة فيها"، حيث كان كريم رسن يقوم "بمعالج السطوح بعدد من الأنسجة المتشكلة من اللون، والخدوش، والرسوم المحفورة، والخطوط اللاهية الموضوعة الواحدة فوق الأخرى" .  
كانت لوحة كريم رسن منغمسة في التجريد اللاشكلي إلا ان تطوراته الأخيرة بدأت تعود باللوحة إلى ان تنطوي على علامات كاليغرافية خطوطية تذكر بذلك الفن الخام، وفن المرضى العقليين، ونتاجات الفنانين الهامشيين    outsider artist، برسومه التي تتصف بفجاجتها، وبساطتها، وهي تشكل عند كريم رسن اللمسات النهائية في بناء اللوحة.

5



أرسل لي الرسام رسالة على الايميل كتب موضحا آخر اهتماماته "الجمالية والفنية بـموضوع (الأثر الإنساني والبيئي المحيطي)"، من خلال البحث "في الأماكن المخصصة للإعلان والعشوائية، حيث يـُعلن فيها عن كل شيء........... وتتسم تلك الأماكن بأنها غير منتظمة (عشوائية)، ومن كثرة ما الصق عليها وما ثبت عليها بواسطة آلات التثبيت (الكابسة)، وما نزع منها فصارت تبدو وكأنها عمل تجريدي كبير نفذ بوسائل مختلفة، وفي كثير من الأحيان يمكن مشاهدة طبقات تصل سماكتها بضعة سنتمترات قبل إزاحتها بشكل كلي من مكان الإعلان مشكلة طبقات مملوءة بالصورة المجتزئة والكتابات غير المقروءة سوى أنها حروف كانت في السابق :كلمات، أو جملا لمادة إعلانية، وفي أماكن أخرى توجد كتابات كبيرة ورسومات قد تكون نفذت خلسة بواسطة بخاخات الأصباغ الملونة، وهي لمسات محمومة وسريعة لربما كان يريد فاعلها التعبير عن فكرة ما أو ليعلن عن ما بداخله من رفض لحالة ما. ولكنه قد يكون عارفا، أو لا بأنه قد ساهم بانجاز عمل فني بيئي مع عوامل أخرى كانت بالأصل موجودة، وقد يراه البعض بغيضا، بينما يتفاعل آخرون معه" كما فعل كريم رسن ذاته.
إن ديناميكية الإلصاق، الإزاحة، الكشط، وإضافة طبقات فوق أخرى هو جانب من اهتمامات (كريم رسن) الفنية والجمالية.. وفي هذا المعرض استجدت كثير من الرؤى والإضافات التقنية: الإلصاق المباشر لأجزاء من البوسترات والمصورات، واستخدام بيئة أو مواد مناسبة لها، واستخدام مواد أخرى كبخاخات الألوان الفنية، الأحبار، ألوان الاكرليك الحروف والكلمات المطبوعة والمرسومة، واستخدام الآلة الكابسة المستخدمة لتثبيت الورق على سطوح اللوحات. وفي الطبقات النهائية للوحة الفنية استجدت بعض الإضافات أيضا والمتمثلة ببعض الرسومات التشخيصية التعبيرية والتي عادة ما تكن بورتريتات شخصية" 

6
إذا كانت هناء مال الله قد أسست ، أو اكتشفت (تقنية الخراب)، فيبدو ان كريم رسن يؤسس، أو يكتشف هو الآخر (تقنية الفوضى أو العشوائية).