السبت، 21 يناير 2012

الرسامة إيمان عبد الله تحوّلُ الحرفِ إلى... سطحٍ ببعدين (=لوحةٍ)

الرسامة إيمان عبد الله
                                                                                       

                  تحوّلُ الحرفِ إلى...

                              سطحٍ ببعدين (=لوحةٍ)

                                                                                         خالد خضير الصالحي

1

لا تُنَوّعُ إيمان عبد الله كثيرا في تقنياتها الحروفية، كما لا تحاول ان تتوغل في الحرف باعتباره رؤية، كما حاول آل سعيد ان يعطيه، ويرفعه، ويتعامل معه من خلال الاوفاق والجداول السحرية، ولا ان يكون ذلك الحرف رسالة مواصلاتية بشكل مباشر، أو بشكل مبطّن، كما يقدمه محمد مهر الدين، فالمهم عندها ان يتحول الحرف (=الحروف) إلى سطح ببعدين يحمل ما تستطيع تحميله من مواصفات، أو اشتراطات اللوحة (العمل الفني) في جوهرها النهائي باعتبارها في النهاية مادة على سطح، أي ان لا تكون اللوحة في النهاية إلا عملا فنيا حتى وان ظلت تحمل ذكريات (الكل) الذي اجتُزِئَت منه (شريحةُ) اللوحة، ذلك الكل الذي لم يكن إلا مدونات متنوعة من: الاوفاق، والجداول السحرية، والرقى التي تنطوي: أرقاما وحروفا غامضة.

لا تشغل الرسامة إيمان عبد الله محمود نفسها كثيرا بالتهندس الرياضي الذي ينشغل به (كتّاب): الرقى، والاوفاق، والجداول السحرية من: معادلات، وقيم رياضية تتنافذ بين الأعداد والحروف.. فقد كانت تلك الرسامة تتحرك في مستوى أفقي داخل (المدونة): صعودا ونزولا، صعودا باقتباس صفحات المخطوطات أو أغلفتها، ونزولا إلى اجتزاء شرائح (مقاطع عرضية =أجزاء) منها، وبذلك يتواشج المحتوى والشكل بطريقة لا يمكن معه فصلهما حتى ولو لأغراض (امبريقية) دراسية، فـ"تظل اللوحة ككتاب (طرسا) لا غنى عنه.. ويظل الكتاب المحكيّ في مستواه الجديد، كتسجيل صوتيّ، أزلا له. (إلا تنم هذه المعادلة عن معنى (منزلة) البعد الواحد من البعدين؟) ولكن يظل المؤلف أزلا للقارئ، أزلا للعمل الفني أي مستقلا بوجوده لذاته" (آل سعيد، أنا النقطة فوق فاء الحرف، بغداد 1998، ص54)..
                                                             
2

لقد كانت إيمان عبد الله محمودا جزءا من اتجاه الفن المحيطي الذي حاول آل سعيد ترسيخه عند جيل السبعينات في مواجهة دعوات كان يقودها كتّابٌ في النقد التشكيلي تدعي، في خضم الحرب العراقية – الإيرانية وأجوائها القاتمة، ان نهاية الرسم العراقي، وأحيانا كانوا يقولون العالمي!، نهاية تعبيرية، تماثل ما انتهت إليه التعبيرية الألمانية؛ فاستطاع آل سعيد بث الروح في الفن التشكيلي العراقي لتتجه اهتمامات أهم الرسامين الثمانينيين: هناء مال الله، إيمان عبد الله، كريم رسن، غسان غائب... توجهات كانت تترسّخ في ثلاثة متجهات رئيسة من (التعرية الشيئية) التي شكلت، مع التراكم، جوهر الفن المحيطي، فكان هؤلاء : أما ان يتوجهوا إلى (تقنية الجدران)، باعتبارها حوارا واعيا أو خطابا مرسلا بين ساكني المدن عبر آثار تلك الجدران وهو ما كرسه آل سعيد وعدد من تلاميذه : كريم رسن وغسان غائب، بينما كرست هناء مال الله المتجه الثاني (تقنيات الأرصفة) في الفن المحيطي وهو تعرية الأرضيات والأرصفة باعتبارها حوارا (غفلا) بين المارة والمدينة، أي بين أقدام المارة والطاقات الفاعلة في الوجود الشيئي في المحيط (=المؤثرات الطبيعية) في الجهة الفاعلة وبين الأرصفة والأرضيات من الجهة المفعولة، وهو ما رفعته الرسامة هناء مال الله إلى (تقنية الخراب) بعد هجرتها إلى بريطانيا، حينما ارتقى إلى درجة التخريب الثقافي الذي نشأ في بنية الثقافة العراقية بعد الاحتلال، والذي ابتدأ بنهب وتخريب المتحف العراقي وبغداد باعتبارها (أرضية) الثقافة العراقية، وكانت (تقنية المخطوطات) ثالث المتجهات في الفن المحيطيّ العراقيّ، وهو اتجاه حاول العديد من الرسامين معالجته، كل وفق رؤيته المختلفة :فقد بدأ ضياء العزاوي منذ البواكير الأولى لمنجزه، وكرسه في سبعينات القرن الماضي حينما اتجه للاشتغال في ميدان المخطوطة التي عالجها بخصوصية استثنائية جعلتها مشروعا محيطيا للوحة؛ فأنتج لوحات (مخطوطات) تواشجت فيها: النصوص، والحروف، والأشكال المشخصة وغير المشخصة..

وكان كريم رسن يستقري لوحات الإعلانات التي تلصق فيها: صفحات الإعلانات والصور فوق بعضها لتتمزق بعد حين بدرجات متفاوتة، ويوضع عليها الصبغ، وكتابات (السبريه) ذات الغاز المضغوط والألوان المنفوثة؛ فحوّلها في معرضه الذي أقامه في قاعة (هيتيت غاليري) في تورنتو؛ ورفعها إلى مستوى تجربة رسم محيطية بامتياز، متتبعا تعريف آل سعيد لأهم مستويات العمل الفني، (وهو يعني تحديدا باعتقادنا، العمل التشكيلي واللوحة منه بوجه خاص): مستوى "المادة الأولية أي الصبغة اللونية والمواد المضافة على السطح، ثم مستوى التضمين: كالملصّقات، والمرقـّعات، والتجمعات، والحروف..." (أنا النقطة فوق فاء الحرف، بغداد، 1998، ص15)؛ وقد طبق آل سعيد آلية التناول (الشيئية) هذه في دراسته لمنجز كريم رسن، فحينما اعتبر اللوحة (تنصيصا) أو نسخة ثانية لأي سطح كان، اقترح دراسة لوحة كريم رسن من خلال "التوغّل في تجاوز السطح التصويري ذي البعدين.... من اجل الوصول إلى (ما قبله) أي إلى البعد الواحد..... عبر تقنية تنصبّ على أسلوب الحفر داخل لحم اللوحة، والكشف عن إمكانيات السطح التصويري المطمورة فيها" (آل سعيد، مقال وغير مؤرخ ومنشور في موقع الرسام كريم رسن).

وتوجه محمد مهر الدين بكتاباته إلى إيصال رسالة مبتورة ومعماة شكليا، ولكنها واضحة تأويليا وتحاول إيصال رسالة مواصلاتية، وحاول محمد الشمري استبطان الكتابات اللاتينية على علب الكارتون وإعادة إنتاجها في اللوحة..



3

لقد استعادت إيمان عبد الله محمود المخطوطات باعتبارها (شريحة) عتيقة من صفحة مخطوطة تمثل حوارا رفيعا بين المرسل والمتلقي ولكن دونما رسالة لغوية مواصلاتية، فاتجهت إلى عدد من المدونات لتحقيق ذلك منها : صفحات المخطوطات الصريحة، ومخطوطات الرقى الاوفاق والجداول والكتابات السحرية، والسطوح المدينية (أرضيات المدن، وآثار التعرية) التي تحدث بفعل أقدام العابرين، أو بفعل عوامل التعرية المختلفة، والحروف المجتزأة من صفحات خرابيش تبدو الأيدي التي كتبتها أما لا تجيد الكتابة أو لا تعرفها، فبدت تلك الكتابات تشابكا غير مقروء يعلو بعضه بعضا... فكانت الرسامة في كل توجهاتها السابقة، حالها في ذلك حال هناء مال الله وغيرها من الرسامين، تحيل كل الإشارات المحيطية، والأشكال، وربما المشخصات إلى ملمسية أو (تجريدية تقنية) فلم ترسم لوحاتها إلا بهدف ان تكون شرائح ينوب فيها الجزء عن الكل؛ مما يمنحها رضا بأنها لم تزل ترسم في منطقة داخل الواقع (المحيط) مهما بدت لبعض المتلقين وكأنها تعمل ضمن منطقة شديدة البعد عنه، وهو الأمر الذي حرص عليه الكثير من الرسامين، ليس بنتاجهم الفني، وإنما بتفوّهاتهم المدوّنة وبناء أجهزتهم المفاهيمية التي بقيت تمتثل لِمَا أسّست له جماعة بغداد وحرصت عليه في البقاء ضمن دائرة تقع في متناول يد المتلقين في كل الأحوال حتى وان نَأََتْ نتاجاتهم عن المشخصات وبدت سادرة في توجهها نحو التجريد التعبيري (آل سعيد وتلاميذه) والهندسي (محمود صبري) لتعوضها من خلال إدامة الصلة مع المتلقين عبر الجهاز المفاهيمي وتدويناته المنشورة..