الأحد، 22 نوفمبر 2009

رسام الكاريكاتير الراحل مؤيد نعمة

                   مفارقات إستثنائية



خالد خصير الصالحي
ناقد تشكيلي
يبدو فن الرسم الكاريكاتيري خرقا للنسق العام لفن الرسم حينما يهدر،بما يتوفر عليه من خصائص مميزة، أو يبدو وكأنه يهدر المشترك العام للحقل البَصَري، ونعني به »مادة التعبير« matie`eve de l`expression ، وهو الطابع الشيئي لمادة الرسم وللوحة، كما يبدو وكأنه يشكل خرقا لأهداف التحليل السيميولوجي للصورة في استنباط »التشكلات البنيوية« أي »أشكال المحتوي وأشكال التعبير«، من خلال »هيمنة« اللغوي علي خطاب الرسم الكاريكاتيري، ذلك الرسم الذي يتصف بكونه حقلا جامعا لدرجة من الايقنة والتماثل البَصَريَين مع درجة من اللاتماثل والاسلبة، وهي من مواصفات النسق البَصَري؛ وبذلك ينتمي فن الرسم الكاريكاتيري إلي نمط الحقول المختلطة التي يمتزج فيها الخطاب اللغوي والخطاب البصري: كالإعلانات، والسينما، والتلفاز، وبرامج الكومبيوتر ومواقع الانترنت، وكل الصور المرفقة بالكتابة والكتابات المقترنة بالصور،فتكون أهم المظاهر المختلفة هي كون الصورة الكاريكاتيرية لا تستحيي من الوظيفة التواصلية الابلاغية للخطاب، حاله في ذلك حال أنماط عديدة من أنماط الصور، وهو »أي الكاريكاتير« يهدف في محصلته النهائية إلي إحداث مفارقة: مضحكة حينا ومحزنة حينا آخري، من خلال تشاكل الكلام »اللغة« وعناصر الرسم »البصري«، وبذلك فالصورة الكاريكاتيرية تتصف بكونها ذات طبيعة مكانية - زمنية »=تتابعية« في الوقت ذاته تمتزج فيها رسائل الخطاب في جانبها البصري، بينما تتلو الرسائل بعضها بعضا في الجانب اللغوي»التعليق«، وبذلك تعد الخاصية الخطية وغير الخطية توأماً هنا دونما زيادات وعلامات اعتباطية. وهي كلها تثير في النهاية خطابا لغويا كأحد أهم نواتج عملية التلقي التي لا يمكن أن تتم دون لغة واصفة تحقق الفهم ألتأويلي من خلال اللغة فتحيي إنتاج علامات الرسم.
لقد تفرد رسام الكاريكاتير الراحل مؤيد نعمة في كون الجوانب البصرية التقنية التي يبثها موزعة علي صفحة الرسم الكاريكاتيري الذي ينجزه: كالخطوط، والحزوز، والنقاط التي يقطرها علي صفحة الورقة مباشرة من الدواة، وإشارات الحركة، وبعض العلامات الدالة علي الشعور كالتعجب والهلع المجسدة بعلامات بصرية، ووسائل التظليل والعتمة والضوء، كلها عناصر يعاملها بكونها تنتمي إلي »مادة التعبير«، أي إلي البعد الشيئي للوحة »=الحبر الأسود الفاحم غالبا« ، "فالخط عند مؤيد نعمة ليس حدودا ولا أطرا، بل صرخة قلم مستفز وهذا ما يميز رسومه وشخوصه .. انه أداة تثوير وتحد بكل محمولاته التكوينية والأدائية لأنه يترك حتي الفضاء سليما من خطوطه الخادشة .. لقد كان مؤيد نعمة أمام طريقين لتثوير وعي التلقي أمام اللوحة: من خلال الأداء اللوني والخط" كما يقول د. فائز يعقوب الحمداني ، بينما يتخلق في البعد الآخر اللاشيئي أو اللغوي هامش واسع من الموضوعات التي توزعت بين مشاكل المواطن اليومية أو مفارقاته كمنتم إلي واقع طبقي او فئوي له همومه وملابساته المختلفة عن هموم الآخرين، فكانت شخوصه أبطالا لنسق ذي انتماءات ومصالح متباينة: كالمتقاعدين، والعمال، والطلاب، والمثقفين، والنساء، والرجال. وموضوعات أخري تخص الثقافة العراقية وهموم منتجيها وغربتهم الحياتية، وموضوعات السياسة في العراق والعالم، فعرّض الولايات المتحدة الأمريكية، وبعض أنظمة الحكم العربية السائرة بركابها، إلي نقد لاذع لم يعرّضها له رسام كاريكاتير آخر غيره إلا الفلسطيني ناجي ألعلي.
لقد تجسدت أهمية الرسام الراحل مؤيد نعمة في كونه شكّل البوابة الأهم لتحوّل الرسم الكاريكاتيري العراقي نحو الحداثة، فمن خلال توظيفه أساليب المدرسة السوفيتية والأوربـية الاشتراكية السابقة، في تناول الموضوعات، كما يقرر رسام الكاريكاتير ضياء الحجار،استطاع مؤيد نعمة الارتقاء بموضوعاته تلك وجعلها تلامس أدق الجوانب الإنسانية في الحياة وبشكل مؤثر، بينما كان تمثله لمنجزات »المدرسة اللبادية المصرية« - نسبة إلي الرسام المصري محيي الدين اللباد- في أوائل مسيرة مؤيد نعمة، وهضمه تأثيراتها، شكلا جديدا آخر وحداثيا، حافظ فيه علي درجة كبيرة من القطيعة عن كل تلك التأثيرات التي هضمها بعد ذلك بشكل صهرها في نسيج موحّد ومتكامل هو أسلوب مؤيد نعمة الذي تفرد فيه عن كل رســـــامي العالم الآخرين.
لقد حافظ مؤيد نعمة ،في كل ذلك، علي درجة من المماثلة مع الشكل البشري والمشخصات عموما،مقارنة مع اللباديين ، ومع تجربة كاريكاتيرية عراقية أخري هي تجربة خضير الحميري ذات الاختزال الشديد؛ فكانت تجربة توفرت علي درجة من الاسلبة stylization الجوهرية لنسق الخطاب البَصَري، وكانت المرتكز المهم في تجربته، وفي تقبّلها من جانب قطاعات متنوعة من أنماط متباينة من المتلقين وعلي حد سواء، فكانت تجربة رسم سهلة ومترفعة في آن معا، احتلت حضورها وفرادتها بشكل قلما توفر سوي لقليل من تجارب الرسم الكاريكاتيري باتجاه تهذيب الفكرة الكاريكاتيرية وحداثتها.
لقد تنوعت تجربة مؤيد نعمة لتتعدي الرسوم الكاريكاتيرية التقليدية في الصحف والمجلات إلي رسوم الوجوه بالأسود والأبيض وبالألوان بإبداع اشترك معه فـــــيه الرســـــــام العراقي علي المندلاوي، وأيضـــــــــا في عمل اغلفة مجلات الأطفال بأسلوب ينم عن أستاذية لا جدال فيها، كما كان إنجازه عددا من الرؤوس السيراميكية الكاريكــــاتيرية قد نقلت فن الكاريكاتير من عالم البعدين إلي عالم النحت المجسم.
لقد تميزت تجربة مؤيد نعمة بغزارة الموضوعات والأفكار وكذلك بالجدة وعدم التكرار، وتنوع الأشكال علي الدوام ، فهي حالة نادرة جنبته السقوط في القالبية الشكلية الجاهزة، فكان ينجز رسوما مثقلة بالتفاصيل الغزيرة أحيانا ليمنحها طاقة تعبيرية مما أثقل عليه كثيرا فشكّل - علي ما اعتقد- عبئا ثقيلا عليه أدي في النهاية إلي توقف ذلك القلب الطيب الذي أضحكنا وآلمنا كثيرا حينما منحنا فرصة التماهي مع شخـــــــــوصه الذين يسقطون في مفارقة استثنائية مضـــــــحكة ومبكية في آن معا !!.


هناء مال الله .. وتقنية الخراب


تقنية الخراب.. في الفن العراقي

خالد خضير الصالحي
تحاول الدكتورة هناء مال الله ردم الفراغ الذي نشا عن غياب آخر المنظرين العراقيين في الفن العراقي شاكر حسن آل سعيد الذي ربطته بالرسامة هناء مال أكثر من وشيجة، وقد جاءت رحلتها إلى الغربة بعد الظروف الاستثنائية التي عاشها العراق مؤثرة للغاية، فتعمق إحساسها بدرجة كبيرة بـ(ـالخراب) الذي يتعرض له العراق شعبا وبنية اجتماعية وخرابا اقتصاديا والاهم من كل ذلك إحساسها بالخراب الثقافي؛ فيأتي معرضها الأخير الذي ضم كتب فن وأعمالا فنية عرِضتها في لندن مؤسسةِ القطان في نيسان 2009 الماضي، وقدمت حوله محاضرة وأجرت ورشة أثناء المعرضِ برؤية فنية جديدة حملت عنوان (الخراب الشامل) وحلقة دراسية في جامعة (أس أو أي أس) في لندن. عنوانها (تقنية الخراب في الفنّ العراقي المعاصر) وألقت محاضرة أيضا في جامعة إكستر على نفس الموضوع..
ان ما يلفت الانتباه هذا الصمت إزاء تنظيرات الرسامة هناء مال الله الذي يبديه نقاد الفن العرب والعراقيون، وهو صمت قد تكون أهم أسبابه انقطاع الصلة بينهم وبين المبدعين الذين هاجروا من العراق، وهو انقطاع قد نتلمس لهم فيه عذرا أيام لم تكن شبكة الانترنت موجودة، أما اليوم فاعتقد انه ينطوي على درجة من التقصير اعترف بها واعتذر عنها وسأحاول تخصيص وقت اكبر لهذا الأمر.
لقد أوضحت الرسامة الدكتورة الرسامة هناء مال الله، في المحاضرات التي قدمتها، ملخصا لرؤيتها الأخيرة في تبني تقنيةً الخراب كتعبير محدد للفَنِّ العراقيِ بعد الحروبِ العديدة المدمرة والاحتلال الأمريكي الذي تعرض لها العراق، فقامت بإلقاء محاضرةً أيضاً في جامعةِ إكستر (خارج لندن) حول نفس الموضوعِ، وهي تحاول الآن تطوير الفكرة بالبَحْث الأعمقِ في الموضوعِ باعتبار تقنيةِ الخرابِ كآلية وهوية للفَنِّ العراقيِ الآن، ونحن هنا نقوم بتلخيص رؤيتها ونأمل أن لا يكون تلخيصا مخلا بالمعاني التي قصدتها الرسامة.
إن تقنية الخراب الشامل يمكن تتلخص في كونها آليات تقنية تشمل: الحِرق، القطع، الدمعة، الخدش، المسح، التقطير، الحك والثقب) في رسوم دفاتر الرسم واللوحات الفنية كهويةُ لها كتشكيلية عراقية.
لقد تغيرت الثقافة العراقية بشكل كبير، بعد ثلاثة حروب بدأت منذ عام 1979 حتى الآن، ثم أعقبتها عقوبات المقاطعة الدولية (1991-2003) فالاحتلال الأمريكي - البريطاني من 2003، فتحول العراق الى منظر طبيعي من الخراب، فمن المهم ملاحظة ان العراق الحديث قد أسّس على الخراب الواضح لبلاد ما بين النهرين (مهد الحضارة)، فكانت البقايا التأريخية القديمة مبعثرة بين البنايات العراقية الحديثة، لذا، كان العراقيون متعودين على رؤية يومية لهذا الخراب الذي طال وغزا وحرق العراق اثنتين وعشرين مرة في تأريخه، كما تؤكد هناء مال الله، وان علم آثار ميزوبوتاميا لا تشكل سوى طبقة واحدة من طبقات الذاكرة العراقية المعاصرة، لقد شكلت الطبقات الأخرى الهويةَ الفريدةَ من ذاكرة العراق: أدوات الحرب، الخسائر في الأرواح، الحطام في البنية التحتية، ان هذا الطرح يجادل بأن الرسامة تكرّر ما حدث في بلدها بعمل شيئي على سطح العمل الفني ، ويوجه رسالة فنية إلى الغرب من خلال رؤية فنية محددة من تقنية (الخراب الشامل).
إن تقنية الخراب هي أكثر من تقنية ميكانيكية تمارس داخل، أو بواسطة، العمل الفني، إنها تضمر ثلاثة أسباب كخلفية لرؤيتها الجديدة تلخصها بثلاثة أسباب:
السبب الأول، هو أن المتحف يشكل إشارة عظيمة قبل الحروب، بينما شكل نموذجا للخراب بعدها، فتبعثرت الذاكرة المبدعة والجمالية (بلاد ما بين النهرين) التي كانت الجذر الأعمق في الحضارة الإنسانية، تبعثرت البقايا الآثارية بشكل عشوائي إلى خارج البلاد مما جعل المتحف الوطني العراقي ضروريا في جمع وتقديم هذا التراث بشكل متماسك.
بعد حرب الخليج الأولى، وأثناء فترة العقوبات، كان الفنانون العراقيون، لجيل الثمانينات الذي تنتمي هناء مال الله اليه، كانوا مهتمين بتراثهم القديم، وذلك بسبّب الوعي الحادّ بالحاجة لإكتشاف هويتهم الفردية التي خلخلتها الحروب الطاحنة، والتي ادت الى ظروف عيش استثنائية كان اعسرها منع العراقيين من السفر لأيّ سبب؛ فكانت القضية المركزية في حيوية جيل الثمانينات هي المتحف العراقي للآثار. كان ذلك المتحف ينطوي على مصنوعات يدوية مهمة تعود لأكثر من 5,000 سنة من تأريخ ميزوبوتاميا تضمها 28 معرض ومدفن؛ فكان التشكيليون العراقيون يتعاملون مع تلك المصنوعات اليدوية باعتبارها أعمالا فنية حديثة؛ فتشكلت هذه التقنية المادية (الخراب) كجمالية في هم تقني، ومن المهم ملاحظة ان المتحف أسّس في موقعه الحالي عام 1958 اكثر المناطق نشاطا وشعبية بغداد.
لقد اغلق المتحف عام 1991 أثناء حرب الخليج خوفا من الضربات الجويّة الأمريكية واعيد فتحه في 28، أبريل/نيسان، 2000 ونهب وحطّم في 2003 أثناء الاحتلال الامريكي البريطاني، فتحول المتحف الى كمركّب أو تجمّع للخراب؛ من المصنوعات اليدوية التأريخية ودمار الحرب والنهب اللاحق، فبدا الخراب أمام ناظر العراقيين في المتحف أو خارجه.
هذا يؤدي بها إلى السبب الثاني الذي يبيح الأعتقاد بان تقنية الخراب هي في حقيقتها أكثر من الية ميكانيكية في عملي الفني، وهو (معقل الخراب والثقافة الغربية)؛ فبسبب حالة التساؤل والشكوك من جدوى الخراب الثقافي الواقع حول المتحف العراقي فقد كانت الرسامة تعتقد بأنّ تراثنا يمكن أن يوازن عقدة نقصنا نسبة إلى التفوق الثقافي المحسوس للغرب؛ لذا، بدت الخسارة في تحف وموجودات المتحف العرقي تشير بأصابع الاتهام نحو موقف الثقافة الغربية من حضارة الآخر، فبدت السياسة الغربية الرجعية لإحداث الخراب في جوهر هويتنا الوطنية؛ لذا تحتمَ علينا تفعيل مقاومتنا الثقافية؛ وهكذا تكرر الخراب كتقنية فنية تشكل جزءا مهما من هذه الحالة.
أنّ تكرار الخراب في التقنية الفنية لهناء مال الله هي الية للتعامل مع الاستمرار بالتخريب في العراق مما يقدم السبب الثالث الذي قاد الرسامة للتعامل مع القضية كموضوع ثقافي في عملها الفني، ففي عام 1991 ، في معرضها الشخصي الأول الذي اقيم في بغداد في المتحف الوطني للفنّ الحديث، والذي كان بعنوان (توثيق زيارات المتحف الوطني)، وفي معرضها الأخير الذي اقيم في لندن في مؤسسة القطان 2009 وكان عنوانه (الخراب الشامل)، فيمكن الاستدلال من اختلاف العنوانين، عن جوهر ما تتمنّى الرسامة الوصول اليه… فحال وصولها الأول الى لندن ( 27، يناير/كانون الثّاني، 2007)، كانت تسال، قبل تقديم اوراقها للبقاء هناك، تسأل عن موقع المتحف البريطاني لتزوره.


جواد سليم ونصب الحرية

عناصر الوجود الشيئي لمحيط جواد سليم



يحتم جزء من العرفان الذي تدين به الثقافة العراقية والفن التشكيلي العراقي نحو الراحل شاكر حسن آل سعيد إكمال مشروعه في بلورة نقد تشكيلي عراقي حديث وذلك بالبحث فيما تركه من: مدونات، ورسائل، ومقابلات، لاكتشاف المزيد من الأفكار منها، وحولها، استعارة وإضافة، وقد جاءت مقالاتنا حول مدوناته بهذا الهدف، فنحن هنا لا نستعير عنواننا من مدونات آل سعيد فقط بل وننغمس كليا في محاولة تطوير فكرة بناء نصب الحرية من (عناصر الوجود الشيئي) التي كانت تؤلف المحيط البصري ـ الفضائي للرسام ـ النحات جواد سليم وتوسيع هذه الفكرة بهدف إغنائها.

يقول شاكر حسن آل سعيد إن الأعمال الفنية إذا لم تكن تسعفنا في مجال البحث عن الطبقات التحتانية فستسعفنا المعرفة في إرجاع المدونة الفنية إلى عناصرها الأولى من خلال التعامل مع تلك المدونة مثل موقع آثاري مليء باللقى، والشظايا، ويستلزم اكتشاف طبقاته التحتية، وامتلاك قدرة على الغوص في أعماقه، وبذلك يكون رصد علاماته السطحية الخطوة الأولى في عملية الاكتشاف، وينتهي آل سعيد إلى أن "كل ما يطرحه الفنان عبر العمل الفني هو جزء من تجربة الفنان الكاملة" وبذلك يجب أن تكون دراسة الفنان من خلال دراسة سيل ضخم من اللقى التي ابتدأ بثها منذ أولى مراحل منجزه وحتى آخر عمل أنجزه، إنها تشكل (متحفه الخاص من العناصر التكوينية) التي قد تـتحور، وقد تـتطور، وربما تقع تحت طائلة الكمون والاختفاء المؤقت. فإضافة إلى ظهور عناصر تكوينية مادية كانت جزءاً من (الوجود الشيئي لمحيط جواد سليم) مثل الديكة الخزفية التي رصدها شاكر حسن في لوحة (زفة في شارع 1956) وفي نصب الحرية ذاته، إلا أننا نفترض أن عناصر تكوينية أخرى، أهمها عناصر أعماله خارج نصب الحرية، أي اللوحات، والتخطيطات، والسكيجات التي أنجزها كدراسات لأشكال النصب، وكذلك بعض البنى التي هيمنت عليه من خلال تشبعه الثقافي بمعطيات الواقع المعيش، إنما تشكل (عناصر الوجود الشيئي لمحيط جواد سليم) والتي وجدت طريقها (كعناصر تكوين) في النصب متتبعين مرجعية كل منها قدر استطاعتنا.

1. البنى اللغوية العربية:
لقد ظهرت البنى اللغوية العربية كهيكل بنائي للنصب من خلال تكوينه من وحدات كبرى (= كلمات) تضم عددا من الوحدات الصغرى (= حروف) وبشكل يجعل طوبولوجيا التكوين مماثلة للبيت الشعري العربي الكلاسيكي ذي الصدر والعجز، وتجسدت بنية الجملة العربية من خلال اتجاه القراءة التي يشترطها النصب إن تكون بذات الاتجاه فلا يمكن أن يقرأ النصب من اليسار إلى اليمين مطلقا، وهذه خصيصة زمنية تنتمي للتابع الحكائي الذي هو من خصائص اللغوي، وذلك النمط من القراءة يفرضه بناء النصب على إفريز (سطح) يخالف النحت المدور الذي يفرض نمطا من التلقي الحسي الملمسي الذي يستوعب الجهات الأربع، إن تلقي النصب بهذه الكيفية قد يكون تجسيدا لنزعة وظيفية تستخدم النحت بمثابة وسط صالح للتواصل اللغوي بما يتضمنه من بنية تعاقبية لغوية تتضمنها اللوحة الجدارية والنصب النحتية لمناخ الساحة أو الشارع حيث تنبثق الجداريات من صميم لغة الخطاب في الحياة اليومية، على عكس اللوحة التي تماثل خطاب القصيدة أو الرواية.

2. خصائص الفن الرافديني:
ظهور ملامح محتويات المتحف العراقي بالهيكل العام للرؤية الفنية التي قال بها آل سعيد، وكذلك في البنية المعمارية المطابقة لمعمارية الأختام الاسطوانية المتجهة، وكذلك بعض البنى الشكلية المهمة وأهمها: الوضع الأمثل وجمع زاويتي نظر في لقطة واحدة، فقد كان كل شكل يتخذ أفضل أوضاعه بغض النظر عن زاوية النظر (ثيران مجنحة بخمسة أطراف وعيون أمامية في وجوه جانبية)، و ظهرت الموجودات وهي منظورة من زاويتي نظر معا، فكانت تعيش حياتها الخاصة، حيث تتلفت، أو تستدير، فكانت بعض هذه الإزاحات الشكلية ضاربة في القدم، تعود إلى فن الفراعنة والفن الإسلامي، كالعين الأمامية في الوجه الجانبي. إن كل هذه السمات وغيرها كثير قد هضمها جواد سليم ضمن (متحف أشكاله) الشخصي، ونحن نعتقد إن الإزاحات الأهم قد دخلت أشكال نصب الحرية من خلال الرسم الإسلامي والنحوت البارزة (= الرسم بالحجر) الرافدينية القديمة، وقد كان جواد يراوح في معالجاته بين الحزوز التي يضعها على السطوح وبين النحت المدور في منحوتة الطفل، وبذلك كان النصب ساحة لمؤثرات أسلوبية بدرجات متنوعة، كما كان تجربة تطبيقية لروح محلية جماعة بغداد في النحت.


 3. المحاور النصبية:
استخدم جواد القضبان في منحوتات عديدة منها الأمومة (معدن وخشب) و (السجين السياسي) وكانت قد ظهرت بذورها الأولى منذ لوحة (الشجرة القتيل) و (زفاف في الشارع 1957) و (نساء في الانتظار 1943)، وهي تضاف للمحور التعاقبي الذي تحدثنا عنه، فأننا يمكن أن نستشف المحورين اللذين يبنى عليهما النصب وقد كانا كرستهما منحوتة (السجين السياسي) حيث يتمثل فيهما بعدا التجريد والتجسيد بشكل مذهل من خلال الاختزال الشديد في عناصره. ويتمثل المحور العمودي ويحدد اتجاهه في النصب كما كان في منحوتة (السجين السياسي) بالقضبان والخطوط الشاقولية كالسجن في مركز النصب، وامتدادات الشخوص أو السنابل، وارتفاعات الحدث من ناحية الوجود المادي وارتفاع وانخفاض يماثل الموجة الجيـبـية، وكذلك يقابله الهبوط (المتجه نحو الأسفل) الذي تجسد في منحوتة السجين السياسي باحتمال سقوط (الكتلة الطائرة) التي ربما هي طائر ا و سنونو، وهي تعبر عن مظاهر الإخفاق والخيبة.

4. بنية الثمرة والبذرة (الضام والمضموم):
وهي تجسيد شكلي لسلسلة منحوتات الأمومة التي أنجزها جواد بعدة تنفيذات، كان بعضها يحمل تأثيرات النحت البريطاني هنري مور، وكانت تتجه حثيثا نحو الاختزال الشديد الذي وصل حد التجريد أخيرا بكتلة ضخمة بشكل هلال هي الأم وهي تحتضن كرة هي الطفل. وقد تجسدت في النصب بامرأة مكتنزة تـتكور على طفل يظهر منه وجهه فقط.

يمكن مقارنة بنية الأمومة بالشكل الحلزوني، وما ينطوي عليه من معنى التكور (= الرحم) الذي يضم البذرة ويحضن(الطفل)، وقد تكون تجسيدا لأنثوية الدائرة مقابل ذكورية المربع كما قال بذلك بعض الكتاب في مقارنتهم بين الشكلين الهندسيين.

5. هيمنة الأيديولوجيا:
رغم إن جواد سليم كان جزءاً من عصر هيمنت فيه الأيديولوجيا بقوة على الفنون وعلى تنظيراتها، إلا انه وهو يهم بإنجاز نصب الحرية، كان يحاول أن يتخطى المحلية ذات الحلول الفجة التي كانت تظهر في نتاجات جماعة بغداد للفن الحديث، وتصّرف كفنان معني بدرجة كبيرة بالجانب البصري، رغم كل الأهداف الأيديولوجية التي يعنيها في النصب، فقد أدرك جواد سليم إن التعارض القائم بين الأيديولوجي والبصري يجد له جانبا مختلفا في أهداف، ومن ثم في كيفية صياغة الرسالة، فبينما يصب الأيديولوجي جل اهتمامه على (سلب المتلقي أية فعالية نقدية) يهتم البصري بنقاء الرسالة وهيمنة عناصرها غير النثرية، أي أن أهداف الأيديولوجي تنحصر في (تحميل) الرسالة بأهدافه التي لا تعدو أن تكون نمطا من الوعي بالتعارض مع مصالح الآخر.

لقد كان اهتمام جواد سليم منصبا على جانبي (الشفرة) و (المتلقي)، لذلك احتوى النصب في طياته رسالة واجبة الوصول إلى متلق كان يحرص جواد سليم على إيصال الرسالة إليه، فقد كانت هنالك درجة من الرسالة النثرية باعتبار النصب (حكاية) تحكي كفاح الشعب العراقي لنيل حريته، ولكنه حرص على عدم التضحية بالخصائص البصرية للشفرة مقابل ذلك. لكن نصب الحرية، كأي اثر ثري بالدلالات، يتصف (بالتعددية النصية)، فهو غني بدلالاته، فتعددت مستويات التلقي و القراءات، لقد كان (فيه) مكان لمتلق عام، هو المتلقي عابر السبيل الذي يمر تحت لافتة النصب، كل يوم، بينما يكمن متلق متخف وهو الرقيب أو بمعنى أدق الدولة، وهي الجهة الممولة لمشروع النصب والتي كان بذهنها تصورات وأهداف تختلف بدرجة أو بأخرى عن تصورات جواد سليم، وأخيرا توجد فسحة لمتلق ثالث هو المتلقي الفعال المنتج للخطاب الواعي لدلالاته بفضل امتلاكه لأدوات منتجة للمعاني. وقد ظهرت خطابات بنَت هوامشها المتراكمة على نصب الحرية تمثلت بعشرات المقالات التي نشرت عنه طوال العقود التي مضت على انجازه، إلا أن اهمها كان ثلاثة كتب هي قراءات النقاد جبرا إبراهيم جبرا وعباس الصراف وأخيرا شاكر حسن آل سعيد، بينما كانت قراءة آل سعيد هي القراءة الوحيدة التي تتمتع بتوظيف آليات قراءة فعالة في إنتاج المعنى، وقد توجهت قراءتـَي جبرا إبراهيم جبرا وعباس الصراف إلى قارئ افتراضي هو صنو المتلقي العابر الذي يبحث عن ما يبحثه ذلك المتلقي، فغلبت عليها لغة العواطف والتجميع الوثائقي ومجمل الفهم الرسمي الأيديولوجي للنحت ولأهداف نصب الحرية، بينما اتجهت قراءة آل سعيد لتنوير المتلقي الفعال الذي يهدف طوال الوقت على تطوير آلياته في اكتشاف وخلق المعاني.

6. مستوى وحدات النصب:
يتصف نصب الحرية بكونه مبنيا من وحدات (أجزاء منفردة)، ووحدات (أجزاء مجتمعة)، فقد قسم شاكر حسن آل سعيد النصب إلى أربع وحدات ... (وهو ما يقرره آل سعيد) تؤكد معمارية النصب، وقد تنبه العديد من الدارسين، إلى أنها تستعير بنية الختم الأسطواني بعد ان يترك بصمته على سطح الطين الطري، والبيت الشعري العربي الكلاسيكي (شطر و عجز)، لكنه برأيي اقرب إلى البيت الشعري العربي الكلاسيكي المدور و الجملة العربية التي تقرأ من اليمين والتي تشكلها أجزاء فرعية هي الكلمات التي تناظرها في النصب المنحوتات المنفردة وتجمعات الوحدات لتشكيل موضوعات مستقلة، وقد تجاوزت في هذا البيت الشعري المفترض وحدات من الشطر إلى العجز، هذا إذا اتفق القارئ معي إن وضعي لنقطة الفصل بين الشطر و العجز هي الشمس التي تتوسط النصب وتقوم مقام النقطة، أو الفارزة في النثر (= انتهاء الشطر و بداية العجز) .إلا أننا نعتقد، استنادا إلى هذه النقطة، إن مستويين ممكنين في (تقسيم) وحدات النصب: أولا ، اعتبار النقطة (= الشمس) ذروة الموجة الجيبية في ارتفاعها، حيث تبلغ دراما الحدث أقصى شحنتها عند تلك النقطة، بينما يحدث تحول درامي بعدها فيميل الفعل إلى الاستقرار، ويحدث تحول في طبيعة البناء والتصميم وكبح للخشونة الإنجازية التي عمد جواد سليم إلى انتهاجها في القسم الأول في النصب، وكذلك تبدأ المتجهات والحركة الفيزيائية بالخفوت، وتستقر الشخوص وتنعم بالهدوء، فقد بدأت مرحلة أخرى. بينما يحتم تقسيم آخر إلى اعتبار النقطة تلك نقطة وهمية تجاوزها جواد سليم عند التنفيذ، لذا فقد فسم الباحثون وحدات النصب حسب ما يحلو لهم (ويمكن العودة لهذه التقسيمات إلى كتاب شاكر حسن آل سعيد عن جواد سليم). إن تقسيمي لوحدات النصب تنبع من أسباب بصرية وأخرى تخص الدلالة بتقسيم النحت وفق:


7. التقسيم الثيمي:
أولا، التظاهرة والشهداء، ثانيا، الثورة، ثالثا، البناء.


8. مستوى العلاقة (الأيديولوجي _ البصري):
رغم هيمنة فكرة (خارج بصرية) على جواد سليم حينما أراد عمل النصب، هي تجسيد نضال الشعب العراقي لتحقيق الثورة، فقد كان الحس الفني (= البصري) قد هيمن على بنائية النصب من ناحية الأشكال المفردة ومن ناحية توزيعها على مساحة النصب.

9. مستوى البنى الهيكلية:
استعار جواد سليم بنى هيكلية (خطوط الفعل المتجه) خفية أسس عليها تركيب وحدات النصب، منها وخطوط دائرية تؤلف بنية حلزونية و بنية أرتفاعية شاقولية (المربع والأقفاص) وظهرت في عدة منحوتات للفنان دخلت في بنائها القضبان بشكل رئيس وأهمها السجين السياسي، وقد دخلت تلك القضبان في تكوينات النصب في تكوين الثورة وفي الجزء الأيسر (تكوين البناء) حيث ترتفع الأشجار والسنابل، وحيث تفتقد الحركة، ونجدها حتى في تكوين العامل الذي هو في لحظة استرخاء واتساق قامته المديدة، والمزارعون وهم يتجولون بين مزروعاتهم التي ارتفعت من الأرض وأينعت، واستعار جواد سليم البنية المسطحة للجملة المكتوبة من خلال الرسم بالحجر (النحت البارز).

لقد تتبع شاكر حسن آل سعيد خطوط الفعل المتجه متتبعا بذلك خطى الكسندر بابادوبولو في رسم المتجهات الخفية في الرسم الإسلامي.

10. متجهات النصب البنائية:
كانت معظم منحوتات النصب جانبية وأنجزها النحات بأسلوب النحت البارز (=الريليف)، بينما هنالك منحوتة واحدة تصور طفلا يقف بمواجهة المتلقي وأيضا الجزء الأمامي من منحوتة الثور، وهما المنحوتتان اللتان أنجزهما النحات بأسلوب النحت المجسم، وذلك راجع برأيي إلى انه كان يهدف، كما كانت تهدف الرسوم والمنحوتات العراقية والفرعونية القديمة إلى إبراز الوضع الأمثل، فكانت المنحوتة التي لا تحقق ها الوضع يضطر إلى انجازها بأسلوب النحت المدور.

 11. مستوى نمط النحت:
النحت البارز هو (نحت ببعدين)، بمادة نحتية (مجسمة) أي إنهاء البعد الثالث في النحت، فقد أنجز جواد النصب نحتا بارزا، فإنما قام باستلهام قيم الرسم ببعدين وتطبيقها في النحت، فبينما يكون النحت البارز نحتا ببعدين أو رسما بمادة مجسمة، أي انه نحت تم إنهاء البعد الثالث فيه بدرجة ما، أو ربما هو رسم أضيف له البعد الثالث بدرجة ما، وبذلك كان جواد سليم، بإنجازه النصب نحتا بارزا فإنما كان يستلهم قيم الرسم في انجاز اثر ينتمي للنحت.


12. جمع وجهتي النظر في الفن السومري:
تجمع صياغة الثور وجهتي نظر مزدوجتين (= منظورين معا) فقد جمع النحت البارز للجانبين والنحت المجسم للمواجهة، وهو ما استدعى تغيير قوانين المنظور ومنح الثور القدرة على التفاتة كتلك التي في النصب.

 13. شظايا الحضارة الشخصية:


14. من شظايا حضارته الشخصية يدخل جواد سليم العديد من اللقى التي ظهرت في بعض لوحاته السابقة وهي في الواقع من مقتنياته الشخصية في حياته اليومية، وقد رصد منها آل سعيد الديكة الخزفية التي سبق وظهرت في لوحة (زفة في شارع 1956).

15. القواعد الارسطو طاليسية (بداية ، ووسط ، ونهاية):
حرص جواد سليم على البعد الحكائي إلا أن ذلك لم يؤثر على البنية الشيئية للنصب فبدا النصب مبنيا بناء أرسطيا من: بداية ووسط ونهاية.

16. الجمع بين الرسم والنحت :
حيث ادخل جواد سليم مؤثرات تنتمي إلى بنية الرسم المسطحة كالخطوط والحزوز وآثار الوشم التي كانت تعمق الفعل الدرامي في النصب، هذا إضافة إلى أن النحت البارز رسما بالحجر.

17. البعد الديني:
حيث تعتقد نزيهة سليم إن قيام جواد سليم بتقطيع أقدام منحوتات النصب علاقة بتحريم التشبيه بالجسد الإنساني في الدين الإسلامي، إلا أن هذا الأمر ليس مؤكدا برأينا حيث لم يتحقق لدينا فاعلية الجانب الديني في رؤية جواد سليم.

18. اللغات الثانوية :
حيث ادخل جواد سليم العديد من المؤثرات الفرعية التي أسميناها (اللغات الثانوية) ومنها: مستوى التنفيذ (= خشونة و نعومة التنفيذ)، الحركة والسكون، الشاقولي والمدور، المدركات الشكلية (البروفيل والأمامي، الريليف والمدور، التحوير ومماثلة الواقع)، وكل الفقرات التي لم نفصل الحديث فيها ستكون موضوعا لاحقا سنكتبه عن نصب الحرية إنشاء الله.


الأربعاء، 18 نوفمبر 2009

المعرض الجماعي لجمعية التشكيليين في البصرة

الواقع وشيئية الرسم







خالد خضير الصالحي


1



منذ عقدين مضيا، وتحديدا منذ اندلاع حرب الخليج الأولى خبت جذوة معارض الفن التشكيلي في محافظة البصرة في زحمة انشغالات الناس بالحروب ونتائجها الكارثية، ولم تزل تلك الحالة لم تتغير حتى هذه اللحظة إلا بشكل طفيف حيث تقيم المؤسسات (الثقافية) معارض سنوية تعلن فيها إنها لم تزل موجودة، وكان المعرض الاخير لجمعية التشكيليين في البصرة واحدا من تلك المعارض التي تقام كل عام وتكون مفتوحة يشارك فيها الجميع... إلا ان ما يبدو سمة أساسية لكل المعارض التشكيلية في البصرة هو غياب التجارب الاستثنائية التي كانت تخترق المشهد الثقافي التشكيلي كما اخترقته من خلال تجارب محمد مهر الدين وعلي طالب وفيصل لعيبي وعفيفة لعيبي ومحمد راضي عبد الله وعجيل مزهر وآخرين قد لا نتذكر أسماءهم الآن... ؛وذلك راجع، بصورة عامة، إلى ضعف الثقافة البَصَرية وضعف تعامل الفنانين مع مادتهم رغم ان الفن، في حقيقته النهائية، حوار بين المبدع ومادة العمل الفني.

2

مع اعترافنا بان النقد اليوم ليست من مهماته لا توزيع الوصايا ولا التقييم المعياري للمنجز المعروض، فان أول ما استوقفنا في المعرض التشكيلي هذا العام كان عنوان المعرض (الفن الآن والحلم الثقافي) الذي بدا لنا انه يصلح عنوانا لملتقى بحثي حول الفن والثقافة أكثر مما يصلح عنوانا لمعرض فني، فهو يفتقر، على الأقل، لتلك الشاعرية التي تبدو عليها عناوين معارض الفن التشكيلي.

3

ان كل (النقائص) سواء في الوضع الثقافي، او في الوضع التشكيلي، لا تبيح لنا، كما لا تبيح لغيرنا، بأن نغفل الوجه الآخر للعملة في تلمّس أهمية أي معرض في تحريك الوضع الثقافي في محافظة البصرة، ذلك الوضع الذي لا يبدو فيه اعتبار البصرة (عاصمة) للثقافة العراقية إلا إجراء شكليا لا يخدش حتى سطح الثقافة في هذه المحافظة خدشا صغيرا غير محسوس، فهو كأي فعالية (فوقية) ترعاها (الحكومة) تبقى غارقة في وحل الإعلام والدعاية التي وقعت فيها فعاليات كثيرة بشكل أوضح الأهداف اللاثقافية للأطراف القائمة عليها حتى قبل بدايتها، وبشكل يؤكد حاجة المحافظة الى تاسيس بنية تحتية ثقافية راسخة اكثر من اقامة فعاليات فوقية تنتهي بانتهاء مناسبتها.

لقد تنوعت أساليب المشاركين في معرض جمعية التشكيليين العراقيين المرافق إلا أننا يمكن ان نتلمس بعض المتجهات الأسلوبية فيه:

4

غالبا ما يتجه الرسامون الأكاديميون نحو معالجة الرسم التشخيصي معالجة أكاديمية تضع قضية اللون والاشتغال التقني للون والحفاظ على قوانين الشكل الأكاديمي (التشريح والمنظور) باعتبارها روح الرسم عن الواقع، ومن هؤلاء خليل كاظم الذي يعتني بمعالجة المشخصات من خلال تكنيك أكاديمي عال واهتمام بقوانين التشريح والتقنية اللونية، إلا ان أسامة حمدي يتجه بتلك القضية صوب اختزال التفاصيل وحذف الزوائد لينغمر الشكل في غمامة اللون التي تكتسح أجواء اللوحة، بينما يتجه احمد شاكر فيها صوب التجريد الذي لا يتجاوز خطوطه الحمراء التي يختفي الشكل عندها، فيما يتخلى جاسم الفضل عن جزء من اشتراطات الرسم الأكاديمي حينما بدأ بالفترة الأخيرة التخلي عن بعض قوانين الشكل الأكاديمي ليتصرف بقوانين التشريح وقوانين المنظور بحرية لصالح توظيف طاقة اللون وشفافيته الكبيرة وهو الخبير بهذا النمط من الرسم وتقنياته، لكن جاسم الفضل مازالت تهيمن عليه الرغبة في معاملة الرسم باعتباره نمط تعبير اتصالي حتى انه يضع أحيانا كلمات لتشكل (نصا) يخضع للقراءة اللغوية وقوانينها أكثر مما يخضع لقوانين الرسم، بينما يتجه حامد مهدي وجهة مناقضة لذلك فهو يخلق أجواء حلمية تتناثر فيها أشكال مشخصة تؤسس شاعرية اللون والغرابة التشريحية للأشكال أحيانا. وبذلك يجري حامد مهدي إزاحته التعبيرية في الشكل بينما يحافظ على انطباعية ألوانه ودفقها الوهاج الذي يملا اللوحة، ويصل عدنان عبد سلمان بحدود نزعته التقليلية إلى أقصى مدياتها، فهذا الرسام الأكاديمي الانطباعي المتمكن قد وصل بالشكل إلى اقل قدر ممكن من الخطوط التي تفصح عن المشخص كما انه تخلى عن باليتة ألوانه فلم يضع فيها إلا لون الصدأ ومشتقاته، بينما يحاول حسن فالح ان يوظف قيم الرسم الأكاديمي وشاعري اللون وشفافيته في بناء مناظر خلوية وسحنات دافئة ومنسجمة لونيا، وتمنحه رشا هاشم وطه الشاوي وعلي مهدي ومحمد عبد الله سمات محلية بصْرية تنتمي لقرى أبي الخصيب ونخيلها ممزوجة بواقعية مشبعة برائحة السحر، بينما يعامل آخرون المناظر الخلوية باعتبارها تجربة لوضع اللون على سطح اللوحة من خلال قدرتهم التقنية في معالجة الألوان ومنهم: احمد شاكر، أسامة حمدي، حسن فالح، علي القريشي، علي الهاشمي، محمد عبد الرزاق، مقدام الزبيدي، ناصر سماري، نورس عدنان.

5

يعتمد بعض الرسامين على طاقة اللون التعبيرية دونما حاجة إلى المشخص من خلال تفجير طاقة اللون التعبيرية من خلال غمامة تنبثق من ظلام الخلفية قافزة بقوة نحو عين المتلقي حيث يعتمد أسامة نوري على طاقة بعض الألوان كالضربة الحمراء التي تحتل غالبا مركز اللوحة، بينما يعتمد حامد سعيد إلى الانسجام اللوني للمساحات التي يشتغلها بعناية، بينما يخلق حسين عبد علي ومصطفى عبد الكريم ما يشبه الفورة اللونية قاسية الحواف بما تضم داخلها من أشكال هندسية قاسية الحواف، ويحاول صبري المالكي الحصول على لون ذي ملمس حيث يشكل اللون خطوطا ومساحات ناتئة، فيما تتراءى أشكال المشخصات أشباحا غائرة في ضباب الألوان التي تغمر المشهد في لوحات صبيح البدري وهي أجواء اشتغل عليها سابقا سلمان البصري وكامل حسين بدرجات متفاوتة من النجاح، ويرسم طاهر حبيب لوحته بألوان الزيت بينما ترتدي مادته لبوس مادة الباستيل التي خبرها جيدا وأقام فيها معارض عديدة، ويهندس عائد الأنصاري لوحته ببناء هندسي تتحول اللوحة فيه إلى ما يشبه السجادة المنسوجة بعناية شديدة وفق مخطط أولي هندسي صارم، ولا يكتفي عبد الكريم الدوسري بأشكاله (=ألوانه) التجريدية فقط، بل يضيف لها شكلا مشخصا ربما رغبة منه في الارتباط بالواقع باعتبار الفن في النهاية ليس إلا شكل تعبير عن ذلك الواقع، وتختفي الألوان الكابية من تجربة عبد الملك عاشور وتحل محلها ضربات اللون الزاهية تتناثر فوق شخوصه المبثوثة على مساحة اللوحة بمتجه يرتفع إلى أعالي اللوحة، وهو ما تفعله الوان نور عبد الكريم التي تومئ باشكال مشخصة ترتفع إلى الأعلى.

6

تطفو الألوان في تجربة احمد حسين على سطح اللوحة مستقلة بعضها عن البعض الآخر ومتجاورة بما يشبه التشاكل الصوري.. حيث يمنح كل لون اللون المجاور له من عندياته عبقا فتختلط التأثيرات اللونية خالقة أرضية (منسوجة) بعناية من ألوان شتى، ويتخلى عيسى عبد الله عن هيمنة الخط السابقة على أعماله فتحل محل ذلك حرية معالجة لونية يحاول من خلالها إعادة تأسيس أسلوبه في الرسم، وقد خبر فؤاد هويرف سوق الفن وتعرّف من خلال مشاركاته في المعارض الجماعية في بغداد وعمان آخر موضات الفن العراقي في الوقت الحاضر، حيث تندمج القيم الكاليغرافية مع بنية اللوحة حيث صلابة الخط ممثلة بطراوة اللون، ويعامل قيس عبد الله اللون بقيم زخرفية عندما تتدخل الألوان وتفترق بموجب خرائط الرسم التي تخلقها مادة الاكريليك، ويوظف مرتضى السلمان حريته باستخدام اللون استخداما تعبيريا يبتدئ من الفنان نحو اللوحة لتنتصر الرؤية الحلمية للرسام على قوانين الواقع و (قوانين) الرسم معا، وتنتصر في النهاية الضربات الحرة التي يضعها وهاب رزوقي على سطح اللوحة الذي يشتغله برفق ودونما انفعال لتأتي تلك الضربات كمؤثر درامي.

7

يبني العديد من الرسامين مدنا ملونة شبيها لما كان يفعله نوري الراوي وهاشم حنون وغيرهما من الرسامين وذلك من خلال معمار مشيد من بقع اللون والإشارات وهي بقع تبدو مستقلة عن بعضها ، ومن هؤلاء: أزهر داخل، وهشام البطاط، وحسن عبد الشهيد الذي يعتمد كثافة عجينة اللون المسطح، ويقدم مهدي الحلفي لوحة هي مزيج من الإشارات التي يهندس منها مهدي الحلفي مدنه اللونية الدافقة بالسحر..

8



يلعب تفجير الطاقة اللونية في تجربة احمد شاكر من خلال اختزال الموضوع التشخيصي إلى اقل ما يمكن من الضربات اللونية التي تحافظ على جوهر الموضوع، فيكون التأثيرات المتضافرة للمساحات اللونية قادرة على تقديم إحساس بالموضوع التشخيصي من خلال التجاور الجغرافي لتلك المساحات، بينما يقدم رائد حسن ذلك الواقع منظرا خلويا ذا ملامح حلمية تذكّر بأجواء السورياليين الحلمية، وكان علي الاسدي رساما تعبيريا يمارس الرسم بضربات لونية قوية حرة وأشكال لا تقل حرية عن ذلك، بينما يواصل علي عاشور تجاربه على كائنه الذي تضيع ملامحه وسط نثار الألوان التي تتطاير متجهة نحو مناطق قصية خالقة حركة تعطي العمل أجواء درامية وحركة لونية ملموسة.

9

تتجه إعمال بان إبراهيم بالفن السوريالي نحو متجهات تجريدية من خلال استخدام تقنية المفروكات التي وظفها عدد من الرسامين السوريا ليين لتحفيز دهن المتلقي على إكمال فراغات الأشكال وخلق أشكال ذهنية بتأثير مستحثات سطح اللوحة من خلال فورة لونية تكتسح سطح اللوحة من أسفلها وكأنها أشكال الانفجارات التي تنطلق من كتلة الشمس الملتهبة، او ربما من بركان مستعر يلقي حممه بقوة نحو السماء، بينما يتجه تحرير علي صوب توظيف أجواء الحلم الضبابية والتكنيك الذي يمنح الموضوع صلابة وملموسية، وتتجه الطبيعة الصامتة لرحاب الحلو إلى مادة أخرى لا تمت إلى تلك الأجواء بصلة بانتمائها إلى عالم أحلام غريب ومربك، ويتسيد اللونُ أجواء عبد الصاحب البغدادي من خلال فوضى فوران الأشكال التي يتعامل الرسام معها بحرية واضحة، وتخلق الأشكال الزخرفية لعلي البصري أجواء أحلام غريبة ومقلقة فهي تومئ بشبه قصيّ لأشكال الواقع،

10

مازالت طاقة الرسم، ونقصد بالرسم هنا تحديدا المعنى الكاليغرافي الخطي، أرضا بكرا لم تستنفد كل مدياتها التعبيرية، وتحتفظ بقدرته على معالجة موضوعات شتى، فقد قدّم قسم من الرسامين إعمال رسم يلعب فيها العنصر الأكثر أهمية في تحديد الأشكال وردم الفراغات وخلق الإحساس بالموضوع ومن هؤلاء احمد زكي الذي بدا أكثر التصاقا بهموم الكائن الذي يرسمه خاضعا لشتى ضروب التجارب المؤلمة التي يفرضها الواقع عليه، ومحمد محيي الذي يحاول إنتاج لوحة تأثيرية بالقلم الخشبي بدل ألوان الزيت.

11

إبراهيم الخليفة يحاول خلق أجواء حلمية كأجواء علي طالب إلا ان لوحته تحنّ إلى المشخص باعتباره البلورة التي ينبني عليها الواقع الذي تفترضه اللوحة، فتجد في حومة هذه الغمامة اللونية الحالمة هنالك إشارات الى الواقع في كيان اللوحة طافية فوق تلك الخلفية المحايدة.

12

تتخذ العديد من الرسامات المرأة موضوعا لهن مع اختلافهن بالمعالجة، ومن هؤلاء الرسامات: رنا الدربندي وسفانة عذبي ووسام فارس والنحاتتان: علا محمود وشاكر ياسين.

13

تتحول اللوحة المؤسسة على طاقة اللون التعبيرية عند كامل الشمري إلى ألوان متحركة جيئة وذهابا لتشكل نمطا من فن الاوب دونما هندسة قاتلو كتلك التي يستخدمها فنانو الاوب التقليديون، وتتحول بيد نبيل شاكر إلى مدن مكعبة ملونة.

14

قدم عدد من الفنانين أعمالا يبلغ فيها ما يسميه فاروق يوسف موت الرسم درجة عالية من التحقق من خلال استخدام المواد الجاهزة (الردي ميد) في اللوحة وبذلك يؤكدون على انمحاء الحدود الصارمة بين ما يصلح ان يكون مادة للفن وبين ما لا يصلح، ومنهم: حسين ماجد، وعقيل الشاروح، ومحسن علي.

15

تقدم رجاء الحبيب أجواء تقترب من أجواء الرسامين الفطريين من خلال التقنية والأشكال معا، بينما تحاول رولا عبد الله إعادة الحياة إلى أسلوب تنقيطي بسمات فطرية دونما تلك الرؤية التي انبثق من اجل تحقيقها ذلك الاسلوب في الحركة الانطباعية،

16

لا يرتبط النحت عند احمد السعد بالشكل الإنساني فقط بل وبالقيم الإنسانية بشدة حيث يكون ذلك الجسد في النحت بمثابة الأيقونة التي تلتقي فيها، وتنطلق منها كل الموضوعات الإنسانية، وهي التي تشد فن النحت إلى ان يكون فنا ارضيا بالدرجة الأساس، وينحت علي الكناني الإنسان في محنته من خلال ما يضيفه إلى المنحوتة من إضافات تخدم دراما العمل النحتي، وهو ما تحقق في إعمال فاضل عبد الله حينما كان ينحت بروح المادة لا بمادتها، حيث تكون المادة موضوعا، ويكون الجسد الإنساني مناسبة لاشتغال المادة، إنها شيئية النحت ممثلة بصلابة المادة وملموسيتها و(صلابة) الفراغ الطفيف وملموسيته هو الآخر، ويحول الجسد البشري المشغول بالخشب الى طوطم تلفه الغرابة بتلك المادة التي فتنت شعوبا كثيرة وأسست عليها فنون عالمية كالفن الزنجي من خلال الطواطم والأقنعة، وهو ما نتلمسه في تجربة النحات نوري ناصر التي هي حشود من الطواطم والأقنعة التي تتلبسها روح الشجرة. أما النحات ماجد عباس فيعود الى النحت الرافديني القديم لإنتاج نصُب يمكن تكبيرها لتحتل إحدى جداريات الساحات العامة.


17

ينقطع الفخار بين يدي سمية البغدادي ومي المظفر عن نفعيته ليدخل باب الرؤية الجمالية؛ لإيمانها بان الطين مادة أولى أكثر بساطة وتجريدية.